طباعة ايميل
4 ) نص الصمت والغياب
الشعر لغة بقدر ما هو خلل لغوي. إنحراف يعني، أو زلة لسان مهيبة بتعبير غاستون باشلار. وبالمعنى النقدي هو " انزياح " في أقصى تمثلاته الجمالية، وذلك لأنه لغة لا يقول بالمعنى الحقيقي ما تقوله، أو هكذا قبض جاك رنسيير، على واحدة من أهم مفارقاته التعبيرية، ففي مقابل اللغة كأداة للبرهنة وإعطاء الأمثلة الموجهة الى مستمع متميز، يرفع الفن الشعري لغة معارضة، وثيقة الصلة بالنفس، أحسها يا وديع، في إصغائك المرهف لكلماتٍ " تطلع من تحت التراب ... تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى " وفي تلمسك الحنون لبطن اللغة الحابل " بكلمات تولد ميتة ". أو هذا ما تستنتجه ازاء السكوت كلغة " داخلية ضاجَّة " لتعلن أن " الصمت أعلى درجات الكلام ".
إذا، اللغة بالنسبة لك هي الذات الصامتة، المبهوتة، مذابة في صوت، محروسة في هيكل الصمت المقدس. أو هكذا تريد العودة بها إلى بدائية أصلها التعبيري للاقتراب بها قدر الإمكان من مكمنها الانساني وتخفيفها من نزعة المثاقفة، حيث اللغة هي أصوات موتى، مدفونة في " منفى اللغة " وما ينوجد هنالك من " الكلام الحي ... كلام الإنسان الأول. الأول قبل أن يتكلم " فاللغة أصوات، كما تنم عبارتك المحمّلة بالدلات " ليس لدينا لغة. لدينا حشرجات، من لغة قتيلة، غابرة " فهذه اللغة المعادلة بالأنين والتأوهات، عندما تقترب من طهورية الصوت والنفس يكون قوامها، بتعبير رنسيير " أنها جسد حي ونبض الحياة فيه الرموز، أي التعابير التي في الوقت نفسه، تُظهر وتُخفي على جسدها ما تقوله ".
أن نكتب يعني أن ننوجد ونقول أنفسنا. وأن تقدر على الكلام يا وديع، يعني أن تفتح ملف اللغة وترتد مرغماً في الزمن، كما يرّجح بول ريكور. وأن تتصدى للكتابة عن جدوى الكتابة ذاتها، وتضيء اللغة باللغة فهذا يعني أنك لم تتشبع بما يكفي منها، وما ارتوت نفسك بعد من كل ما قلت عنها وبها، وأنك بحاجة إلى تعويض كلامي، إفضاء يعني، أو هذه هي استرتيجيتك في " نص الغياب " فأنت على حافة محاولة لإماتة اللغة الوصّافة، الموروثة، الشائخة، اللغة التي ما تزال في لغتها لغة، بعد أن سقطت كلماتك في النهر فأقمت على الجسر "بين الكلام والماء " ضائقاً بكلمات تزفرها " يا طالعةً من فمي إنكِ تقتلينني! ".
إنها ذاتك المدفوعة بغريزة الحب اللغوي، وفي مراوداتها الدائمة للسخرية من العيّ الذي ينتاب اللغة قبالة فائض الإحساس، على اعتبار أن السخرية صورة غامضة ومتقصدة أيضاً لتجاوز اللغة، وإعلان العجز الذي يعتور الكتابة، بمديح البياض، أو ما تسميه " جمال العدم " بما هو المعادل للفراغ، ولنعمة اليأس، وفن التقليل من أهمية كل الأشياء، وانعدام الجاذبية، فحين تنبعث الأصوات الجارحة، الآتية من وهم الأمكنة الأولى، الفاقدة شفراتها ومعناها " حين تدخل الكلمات إلى هناك تتوحد معانيها، تصير اللغة الجميلة: لغة عدم الوجود ".
هكذا هي الكتابة بالنسبة لك، طريقة لقول الحقيقة حول اللغة وليس حول الواقع، ففي " نص الغياب " تصرخ مراوداً نفسك بالتواري " امنحوني عدماً. أريد الجمال ". وفي الآن نفسه تنتصر للشعور والذات على العقل من أجل حضور تؤسسه كلمات مقدودة من صميم الحياة، وليست مستجلبة من المعاجم " هناك قد أسمع كلمات أخرى، تصل اللغة الناعمة مثل ريش عصفور، ترتطم بي ولا تؤذيني " فيما يبدو رغبة منك في التأكيد على مبدأ تلميحي يطيح بالمعنى، أو يتغنى بخيبة " عدم الوصول " حيث يتمازج المركب المادي من لغتك، أي الكلمات بما فيها من رنين وتصوير، مع مكوّنها الذهني، بما هو طريقة لتطويع الكلمات والتعبير عن الأفكار في أنساق كلامية.
تتساءل بيقين العارف " إنها الكلمات الأخيرة .. وها أنا أهجرها .. هل أقول وداعاً للكتابة؟ ". ولكنك لا تفعل، بل تتمادى في تعميق حركة الإمحاء بشكل عمودي، ذهاباً إلى صمتٍ مؤداه توسيع ذاتك داخل الكلام، لتؤكد على حقائق مرتبطة بعواطفك وشعورك، فشخصيتك هي صورة كلامية أصلاً. أما " حوار الكتابة " بالنسبة لك فهو " حوار الصمت " وزمن الكتابة هو " زمن الغياب، ومكان الكتابة عدم المكان ". حيث الكلام لا يعود فعلاً تقوم به كفرد أعزل وحسب، وإنما هو مساررة ذاتية صامتة، أشبه بالصمت داخل الكلام، أو هكذا تمارس طقس الوأد للكلام، وإقامة " مأدبة عامرة للعدم " لأنك تتوخى الغياب حد إخراس ذاتك، فكل من يعيش يصدر ضجيجاً، حسب سيوران.
المقابر – برأيك - للكلمات. وتعني تلك التي تعجز عن الدّل، التي لا تعكس أردية ألفاظها روح معانيها، التي لا تقدر ولو كاستيهامات على استعادة جمال الغائب " أحاول أن أخترع كلماتٍ لا تكون دليلَ نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبةً في القول بل فِعْلَ الرغبة ". ربما يفسر هذا الدوران باللغة داخلها، مراودة نفسك الدائم بالخرس، والامتزاج بالحجر، أو لواذك بما يسمونه عمود الصمت السارتري الذي يزهر وحيداً في حديقة مخفية، وفي مواجهة أدب من كلام يشرح ويعرض، تكون الكلمة فيه وسيلة اتصال، كما تعبر عن ذلك برغبتك للتلاشي " في الصمت الأبيض نضع كرسيًّا أبيض ونجلس غير مرئيين. في انعدام الرؤية وجودٌ بهيّ، في انعدام الصوت لغتُنا ".
وكما يندد سارتر بالقصائد الموروثة من اللغات الميتة، وبالكلام الحجري المتساقط من أفواه التماثيل الحجرية، أحسك تستأنس بـ " وجود موحَّد ولغة موحَّدة. في غياب الرؤية والكلام " لأنك، على هداه اللغوي، لا تقر التضحية بلوغوس الكلمة الخالقة، أو بالكلام والفعل الانسانيين لصالح ما تعرفه اللغة المتحجرة، بقدر ما تقدّس وتستفز قوة الحياة الكامنة في التحجر إذ " لم يعد الفم والأذن شرط الكلام ولا العين شرط النظرة. لم تعد الأحرف شرط الكتابة، ولا أن يكون متلقٍّ ومُرسِلٌ شرط اللغة. امتزجت اللغةُ والعين والأُذن بالهواء ". وبموجب هذا التمازج استمرأت دعة الصمت في صميم كلامك بعد أن " جَرَفَ كلَّ شيء جنونٌ هائل، حتى امتزج النقيضُ بنقيضه ".
التعارض إذاً في نص غيابك، ليس بين كلامين، أحدهما يحقق التواصل، فيما يعجز الثاني عن بلوغ مراميه، ولكنه بين رؤيتين جماليتين، أو تطبيقين متضادين لعملية الكلام تقوم على التداخل والتخارج، فالكلمات قد لا نصادف فيها الحياة ولكنها تقود إلى حافة حادة بين النص والحياة، كما تفلسفها يا وديع " لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ " أو هكذا تدلق هشاشتك العاطفية، على حياة لا ينبغي النظر إليها بمعناها البيولوجي، بل يفترض تعاطيها بمعناها الزماني، باعتبارها رغبة أو قدرة على " النسيان ". وهنا يكمن سر هجسك الدائم بالمحو، وتساؤلك الحاد عن سر عجزك عن تعلم النسيان، وعن نزوعك المزمن في البقاء موثقاً بالماضي.
وديع، مهما أوغلت في ركضك وخفتك ركضت أغلالك معك. هذه هي الحتمية النتشوية كما أتلمسها منزرعة بعمقٍ في كلماتك، فمعضلتك أنك مزود بذاكرة جياشة ذات طابع مركزي، تلغي حتى الحلم أحياناً. لهذا تبدو مفتوناً على الدوام بتحويل شعورك إلى لغة، وإحالة كل متعلقات نص/حدث " الغياب " إلى معرفه قوامها لغة شعرية، تكثفت مع التراكم في أيقونات لفظية، هي بمثابة ترسانتك من المهارات التعبيرية، فبيقين الواهم " مشيتُ طويلاً في خيال اللغة ". وبسحرية استيهاماتها، وفي وساعات دلالاتها توهمت القدرة على العيش والتحكم بمصيرك " حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب ".
لغتك هي جلدك يا وديع، كما يلبسنا إياها رولان بارت، وأي محاولة للتنصل منها يعني إنسلاخك منك، فتحرير الكلمات لا يتم الا بمعنى مزدوج أي تحقيق الحرية المزدوجة للكلمة والذات، دون حاجة للبرهنة على شيء أو استجلاء أي شيء. أما اللذة المتأتية من وهم الإقامة في الكتابة فلا تقل خطراً عن وهم التنازل عنها كما تستبطن كلماتك " أنا الكاتب أعترف: بحثتُ في الكتابة طويلاً عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟ ... الكتابة لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم ".
هذا هو الأثر اللفظي للغتك في تعبيرها عن تعبك المزمن، وفي حيرتك لاختبار حريتك الذاتية مقابل فكرة موضوعية قيد التشكل، للإشارة إلى ذاتك المصهورة باللغة " هذا الشخص الذي ترونه الآن، الذي تقرأونه هنا، ليس أنا. هو شيءٌ آخر، مركَّبٌ من كلماتٍ قديمة رُصفتْ خطأً بعضها فوق بعض. وَصَلَ إلى هنا، هكذا بالصدفة، على حمَّالةِ لغةٍ مريضة ". وبموجب هذا التناسي المراوغ تستعيد مأساتك بنص أشبه بالزفرة لاستدامة الوجع، وتحويل كل ذلك إلى فن رفيع. كأنك تتطهر بمراودة نفسك على الصمت. تستعيد الحدث كمن يؤدي طقساً غفرانياً، تكفيراً عن جرم لم تقترفه. وعبثاً تحاول احتواء الحدث. بمنتهى البطء والهذيان. تستعيده وتتمثله بالكلمات لتعيش وهم السيطرة عليه، مع معرفتك التامة بأن هول الحدث أكبر من أن تحوطه لغتك، من خلال اعترافك الصريح " لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات... ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض ".
وعلى الطريقة الكانتية في نقد العقل بالعقل، ها أنت تحاور ذاتك كآخر، وتلعب مع الكلمات وبها، لعبة تهديم المعنى، وتبديد تداعياته. بالكتابة تحاول تقويض الكتابة. وباللغة تتوهم قدرتك على إماتة اللغة. اللغة التي كانت كلماتها " كائناتٍ حيَّةً ذات يوم، ثم ماتت، ونحن اليوم لا نرى غيرَ طيفها، وما ننطق به هو فقط شبحُ روحها الهائمة " كأنك بنص الغياب تقيم ضريحاً للغة، بعد أن جعلت من " اللحم المحروق " حدثاً فلسفياً تنبعث من دخانه المعاني، وتتهيّل من هوله عبارات تراجيدية، ففي الكلام برأيك " هناك موت... دم واضح... هناك وأد وأحجار، وأجساد مستلقية عليها... هناك قتل، قتل فظيع في اللغة ".
ذات شطحة تفكيكية قال جاك دريدا باستحالة انوجاد الذات إلا بالكتابة. تلك جدلية انطولوجية أصيلة. وهذا هو حالك يا وديع، فذاتك مغمسة في الكلمات، أما ذاكرتك فليست عدواً في كل الأحوال، وأظنك على درجة من الموهبة والجسارة لأنك ما زلت مقتدراً على إعمالها - أي ذاكرتك - حتى وإن كانت الكتابة لا تعني لك سوى " كتابة الغياب " وأن الكتّاب برأيك " هم: غيابهم ". وأن عليهم التواري في الصمت بما هو محل إقامتهم أو " غرفتهم الوحيدة " حيث حاصرتهم بمجازاتك، ففي هذا المنفى ( النفس-لغوي ) يمكن " أن يتدفأوا بصمتهم ".
معك حق يا وديع " كيف يصف العاجزُ عن الحضور غيابَه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون غائبًا؟ ". إنه سؤال برسم الإجابة المتأتية من ترديدك الدائم لسيرتك أو وجعك الشخصي، ومحاولاتك الدؤوبة لتحطيم مصدات الذاكرة، لأنه سؤال معني باللغة التي لا تتفسر إلا بمزيد من اللغة، لأن تصارع الذات مع اللغة وبها، إن هو إلا صورة كلامية لانفجار ( أناك ). وقد قادك هذا الانفعال إلى شطح صوفي أشبه بالرغبة في الإستلقاء على منديل الحلاج والتحليق به في شاهق تجريدي، حتى صرت تمني نفسك بالغياب وامتطاء الهواء في إنشاد صوفي النبرة " كنا، دائمًا، نحاول مزج روحنا بالهواء، علَّنا نرتفع، ونغيب ".
عندما تلتقي الذات باللغة، تتولد لغة أخرى، تقابلها ذات أخرى منقطعة عن الشخصية. ذات ذائبة في اللاشعور. أجل، لاشعورك الكفيل بإبقائك في نسيان ما أنت عليه، وما أنت تحت وطأته بالتحديد. وأظنك لهذا السبب راودت نفسك أيضاً بالتلاشي " أصير نقطةً ممحوَّة... وأختفي ". أليست هذه هي نقطة الحلاج العليا التي يبدأ من صغرها اللامتناهي كل شيء!؟ أو ما يسميه ميشال كاروج الإقامة في أنقاض الجنة، والأمل في بلوغ " النقطة العليا " حيث يتوحد المادي بالروحي، وتذوب التناقضات!؟
الحياة برأيك " على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوَّة. النقطة التي تكاد لا تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت. بين انتهاء الكلام وبدء السكون ". أو هكذا ترسو ذاتك المتعبة عند حتمية رامبو الحزينة، حين أعلن أن الحياة الحقيقية هي الغياب.
|