طباعة ايميل
عيال الله ... الروائي بوصفه ناسخاً
يستهل شيخ الورّاقين روايته " عيال الله " بطرد النقاد ذوي النظارات السميكة من سياقاتها، لأن الرواية الصادرة حديثاً عن دار التنوير العربي للنشر في لندن، موجهة في الأساس " لأولئك الذين يكدحون في الشوارع باحثين عن صرخة تعبر عن همومهم وآلامهم وتفضح منتهكي حياتهم " فيما يبدو انسحاباً استباقياً لرواية لا تصمد - فنياً - بأي حال من الأحوال أمام فعل المناقدة الجادة. والمسألة لا تعدو كونها محاولة لمواجهة الساحة بمنشور إجتماعي، أشبه ما يكون بمرآة صادمة، يؤكد من الوجهة الفنية على حقيقة إبداعية ماثلة تفيد بأن الكاتب لم يعد كاتباً بالضرورة، بقدر ما أصبح ناسخاً، وعلى هذا الأساس التقريري المباشر يتأسس ميثاق القراءة.
ولأن الواقع أكثر غرائبية ومرارة من الخيال، يستجلب شيخ الورّاقين كل ما يتداول على الألسن من وقائع وشائعات ومرويات شفهية، وكل ما سطّره الإعلام من قضايا يومية في الفترة الماضية، ليحشّد كل ذلك بين غلافين، دون حاجة لإضافة مستوى سردي تخييلي يستكمل مستوى القص الواقعي، فالمفارقات الواقعية تكفي لإنهاض السرد، عبر تجميع بانورامي لحكايات لم تختبر صدقيتها، ومن خلال تسمية تفصيلية للأماكن والشخصيات الاعتبارية، كما يحدث كل ذلك في " مدينة الهيئة " ويعني بها الرياض، المحكومة أخلاقياً من قبل " المطاوعة " الذين يحاولون تطهيرها من نساء يرتدين عباءات مخصّرة، ومن مجلات فاسدة كمجلة " سيدتي " ومجلة " لها " ومن المطرب الشهير خالد عبدالرحمن المفسد لبنات القرى. الرواية تنسرد ابتداء من خلال " وسادة " ملوثة بروائح أجساد متسلّخة بفعل خيرزانات المطاوعة، ربما كان آخرهم فاضل بن عبدالله الصالح. اسمها الحقيقي " مخدة " وهي بلا شرف ولا سمعة " كما تصف حالها ومآلها، وتكمن مهمتها في فضح الشيخ " مقحم " والشيخ " عايض " الذي ينتزع السرد منها ليبرز للقارئ تقريراً طبياً موقعاً من الدكتور أيمن الأسيوطي، يثبت عجزه الجنسي، وبالتالي ينفي عنه إعتدائه على مريم المقبوض عليها في خلوة غير شرعية في القسم العائلي بمطعم " هرفي ". وعليه يفند كذب " المخدة " التي يتهمها بتهمة " الجامية " كما ينفي ادعاءات سيدة من المنطقة الشرقية على جهاز الهيئة حيث ثبت كذبها، محملا الليبراليين، ومنتديات الانترنت العلمانية مسؤولية تشويه أداء الهيئة مثل ما يسميه بيت الشرك الغابر " طوى " وشبيهه " دار الندوة " ومنتدى المنحرفين " الطومار " والمنتدى الهالك " الغرفة السوداء " وكذلك " الشبكة الليبرالية السعودية ".
إذاً، المسألة نكاية بجهاز يحاول تقويم وتعقيم المجتمع برأيه، فبالاضافة إلى منتديات الانترنت الليبرالية يحاكم الإعلام ممثلا في جريدة " الوطن " التي طرد رئيس تحريرها قينان الغامدي إلى الجحيم، وجريدة " الرياض " حيث كاد رئيس تحريرها تركي السديري أن يلقى حتفه في غزوة معرض الرياض للكتاب الشهيرة، حسب تعبيره، مؤكداً على حق المطاردة التكفيرية لهذه الرموز من خلال الشيخ " محمد الهبيدي " و " وعبيد الزقلان " وطالب العلم المجتهد " أبو لجين " الناشط في منتدى " الساحات " وهو ما يعني أصرار شيخ الورّاقين على " التسمية " وتوثيق تلك المجابهة دون مواربة. بعدها يستلم السرد الطبيب السعودي سعود سليمان الذي يصف نفسه بالمسلم المحب لدينه ووطنه ولمبادئ الليبرالية التي تتخذ من جملة " الإنسان أولا " شعاراً لها، ليؤكد أن تقريره الطبي مزوّر، فمثله يباع بثلاثين ريال، وما ابرازه لهذا التقرير إلا ذريعة للفرار من جرائره، مؤكداً على أن التحرش لا يستثني حتى الأطفال، أما سيدة المنطقة الشرقية فلم يتم فحصها إلا بعد شهرين من جريمة الاغتصاب، ويزيد الأمر سوءا وتعقيداً وانحيازاً كون السيدة من الطائفة الشيعية، المهدورة حقوقها أصلاً، مؤكداً أيضاً على أن " فتاة القطيف " التي تعرضت للإغتصاب من قبل ثمانية ذئاب بشرية، حكم عليها هي أيضاً بالجلد بتهمة الخلوة، وهذا دليل إضافي على الفساد القضائي.
وبمنتهى الثقة فيما يمتلك من حكايات وإشاعات يستدعي حكاية تطليق " منصور وفاطمة " لعدم كفاءة النسب ليرقى بكل ذلك إلى مستوى الوثيقة الاجتماعية الحقوقية التاريخية، مختتماً مرافعته بقصيدة شهيرة في هجاء رمز صحوي، معرّضاً بشخصه، ومستعرضاً لتاريخه، حتى يقترب من عبارات أشبه بالتصريح باسمه " فلا تحزن وإن ضاقت بك الأهواء والسبل ... وقربنا إلى قدميك تهوي فوقها القبل " ليسلم السرد بعد ذلك لعائشة زوجة الشيخ عايض الذي تصفه بالطاهر، رغم زواجه عليها بامرأتين سافلتين بطريقة " المسيار " حسب تعبيرها، أولهما دعوية شبقة وشاذة، والثانية أرملة، لفق لها تهمة صداقة ( هدى ) الساحرة التي تسببت في عجزه الجنسي، التي تلقت هي الأخرى تهمة الخلوة والاعتداء من ضابط آخر للاستئثار بها. ورغم قناعته بفتوى الشيخ العبيكان بجواز اللجوء إلى السحرة لفك السحر إلا أنه لم يفعل، وهذا أكبر دليل - برأيها - على براءته من براءته من أفعال الشعوذة، ونأيه عن التعاطي مع السحرة. وفيما يشبه الاستقصاء العيادي لتاريخ ذلك الشيخ الإشكالي، تستطرد في رواية حكايته كشاب يتيم غادر قريته التي تتوسط منطقة القصيم إلى الرياض، ليحقق حلمه الكبير كضابط أمن، لكن قصر قامته حال دون ذلك، ونتيجة تلك الخيبة اتجه إلى المخدرات، ودخل السجن حتى خرج منه متطهراً، لينضم إلى حلقة والدها القرآنية، ليتزوجها، وينتقلان فيما بعد إلى الرياض في " حي السلام " الذي يسكنه القصمان، حيث رزقا بابنين هما معيض وسعيد. وفي هذه الأثناء يؤدي مهمته في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل وجه، لكن زوجته النجدية ( ف. س. ) المعلّمة بمدرسة حكومية بحي الشفا " حي الحواطى " تمتلك حكاية أخرى عمن تسميه الزوج الشاذ المأفون، الذي أصابها بالجنون نتيجة ارتهانه للسحرة، لولا لواذها بصوت مقرئين كالسديس والشريم، وتحويلها بيت الزوجية إلى مسجد، كرد على مخزونه من كتب السحر والشعوذة.
السائق البنغالي أيضاً قولزار شمس الحق تجتذبه الحكاية، ولا يطيق الصمت فيتحدث هو الآخر ليفضح عنصرية السعوديين، ويعرّي عائشة التي استغنت عن اسمها الأصلي عمشاء، فبعد أن يتلاعب به سماسرة العمالة الأجنبية، يستقر به المقام خادماً عند الشيخ عايض بعد أن أقنع أهل الحي بحاجة المسجد إلى من يعتني بنظافته، وفي داخل ذلك البيت يتورط في علاقة محرّمة وشائنة مع الزوجة بعد أن لمحته يمتطي زوجها وكانت تلك مكافأته، قبل أن يهرب من بيت الفجور إلى الحاج ميندان، ويقبض عليه بتهمة السرقة. وتكاد أن تنتهي الحكاية لولا أن شيخ الورّاقين يستأنفها من جديد ليستعرض جملة من الآراء والتعليقات الإجتماعية المتباينة، ويغوص بالسرد في ضمائر الناس ومعتقداتهم وفي شوارع الرياض الخلفية، حيث مواخير حي الجراديّة ومنفوحة والمرقب والوزارات، وتقليب ( الكائنات الليليتية ) محلية الصنع والقادمة مما وراء البحار، على لسان الدكتور أيمن الأسيوطي مرة أخرى، الذي يحاول الانتقام لكرامته المهدورة هو الآخر، ليواجه بسيل من الشتائم بكل اللهجات العربية واللغات العالمية، وهنا تتحول الرواية بمجملها إلى خطاب سجالي حول الجن والإنس والكهنوت والحلال والحرام، دون تحبيك.
ولأن الشيخ عايض قيمة روائية شريرة تحتمل كل الأوزار، لا تنتهي الحكاية إلا عند " عبير بنت أبيها " قاتلة الشيخ الهمام عايض، التي استعارت مهمة عزرائيل بدون تعيين رسمي وبدون راتب أيضاً لتقتل من تسميه وغدها الذي غدر بها. عبير التي تنغلق أمامها كل أبواب الحياة الحرة الشريفة فتضطر لممارسة البغاء في شقة مفروشة وسط لجة من الحشيش الأفغاني بصحبته، حتى يقبض عليها بعد بلاغ من عميل الهيئة عامل النظافة، وهنا تنسدل الستارة على حكاية كبرى محشوة بحكايات صغيرة تتكامل لفضح بنية إجتماعية على درجة من الإهتراء والتواطؤ بين مختلف القوى، لدرجة أن جهاز الهيئة يمسح آثار الشيخين عايض ومقحم وكان شيئاً لم يكن. انها رواية تمثل نقمة الذوات المتحررة وخيبتها من إمكانية الإصلاح. وهي أمثولة للوعي الليبرالي بمجريات اللحظة حيث يمكن من خلالها محاكمة هذا الوعي الذي اختزن كل معوّقات التقدم في شخص يمثل جهازاً قمعياً، دون تفكيك الشبكة التي نسجت ذلك الحصار الصارم، وهكذا تستدعى الرواية مرة أخرى كأداة تحاور، وكسلاح تعبيري للدفاع عن المقموعين، وتجيء في لحظة يحتدم فيها الجدل حول هيئة لم تعد فوق المساءلة، كما تدلل على ذلك مضامينها، والاسم المستعار الذي تقنّع به كاتب الرواية ليسلم من المواجهة اللا متكافئة، وصولاً إلى طريقة توزيع الرواية عبر النت، على أمل أن يتمكن كاتبها من كتابة رواية مشعرنة تليق بالفن الروائي كما وعد.
|