طباعة ايميل
بلاغة السطور الإفتتاحية للأفلام السينمائية
ما الذي يمكن أن تقوله عن موت فتاة في الخامسة والعشرين؟ كم كانت جميلة وذكية. وكم أحبت موتسارت، والبيتلز، وأحبتني. بهذه العبارة الرثائية الحزينة، المرتّلة بصوت متهدج لبطل الفيلم أوليفر، يُفتتح فيلم Love Story على إيقاع موسيقى فرانسيس لي الشهيرة، التي حملت نفس الإسم. لتضع المشاهد في أجواء الفيلم. وكأن تلك السطور البليغة هي قصة مضغوطة في كلمات. فهي مسبوكة بعناية لغوية ودلالية فائقة. وذلك بموجب تقليد إبداعي في صناعة الأفلام. حيث تبدأ معظمها بعبارة كثيفة المعنى والدلالة.
هذه السطور تأتي في الغالب على شكل مونولوج ذاتي داخلي. وأحياناً تأخذ شكل الديالوج الحواري. وقد تكون مطلع أغنية. أو كصوت خارجي يصف الحالة المترقبة. حيث تخترق تلك العبارات سواد الشاشة، أو لحظات الصمت الأولى، إما بشكل إستفهامي أو وصفي أو تقريري. تماماً كما يحدث في الروايات بالنسبة للجملة الإفتتاحية. التي تُعتبر عتبة النص بالمعنى النقدي. حيث تشكل كجُملة رحمية مجرى النص الذي يتناسل منه السرد.
للسطر الإفتتاحي للفيلم جاذبيته البلاغية. بالنظر إلى ما يختزنه كوحدة سردية من طاقة توجيهية تحيل إلى جوهر الفعل الحكائي. أي كبِنية نصّيه تحدد ثيمة الفيلم ومحل اشتغاله. ففي فيلم When Harry Met Sally تنفتح الشاشة على هذه السطور ( كنت جالساً مع صديقي آرثر كورنبلوم، في مطعم. كان ذلك في كافيتريا هورن وهاردارت. وعندما مرت هذه الفتاة الجميلة، التفتت إلى آرثر وقلت: آرثر، أترى تلك الفتاة؟ سأتزوجها. وبعد أسبوعين صرنا زوجين. والآن بعد خمسين عاماً ما زلنا متزوجين ). حيث يمكن استقبال تلك السطور المقتضبة كقصة قصيرة مكثفة تنضغط فيها تلابيب الفيلم، الذي سيرتد بكل عناصره الحكائية والبصرية إلى الماضي بصيغة إستذكارية.
كذلك للسطر الإفتتاحي وظيفته الدرامية. على اعتبار أنه يشتمل على اللغة كمنصة منذورة لتأسيس مزايا الفيلم المغايرة. التي تصنع المسافة ما بينه وغيره من الأفلام. كما يتضح ذلك في فيلم Flatliners الذي يبدأ بعبارة صادمة ( اليوم هو يوم مناسب للموت ). حيث ترفع هذه العبارة، العبثية موضوعياً، المتماسكة لغوياً، من أفق التوقع لما يمكن أن يكون عليه الفيلم. وتدفع المشاهد إلى التخرص التأويلي حول شخصية قائلها ومسار الفيلم.
السطور الذي يُتلفظ بها لحظة البدء هي وحدات سردية داخل عمل له طابع التماسك والكليانية. وإذا كانت تهيء المدخل الموضوعي، أو تفرش أرضية الفيلم، إلا أنها لا تنفصل عن مجمل النص. ففي فيلم Hannah and Her Sisters تتوالى الجمل الوصفية لترسم حالة من حالات الهيام بمخلوقة إستثنائية ( يا إلهي، إنها جميلة. وتملك أجمل عينين. تبدو مثيرة بذلك الصدر العارم. أتمنى أن أكون معها بمفردنا. أحضنها، وأقبّلها، وأبوح لها بمدى حبي لها، ورغبتي في أن أعتني بها). وهي عبارات قد تبدو مكررة وإخبارية، إلا أنها توحي بقابلية التمدد داخل الفيلم على ذات الإيقاع لتبني معمارية الفيلم.
هكذا يبدو السطر الإستئنافي زاخراً بالمعاني والدلالات. وله القدرة على تحفيز حواس المشاهد واستفزاز وعيه وآليات إستقباله. حيث يعمل كمهماز حسّي. كما في فيلم American Beauty حيث تتوالى العبارات بشكل مُربك ( أحتاج إلى أب نموذجي. وليس من ذلك النوع الصبياني المهووس الذي يبلّل سراويله كلما أتيت بصديقة من المدرسة إلى المنزل. إنه شخص تافه. أحتاج إلى من يخلصني من بؤسه ). وكأن تلك المتوالية من الجُمل الساخطة يُراد لها أن تشكل منصة مفهومية لإنطلاقة الفيلم، بالنظر إلى ما يحفّ بها من إشارات إستحواذية على حركية المعنى فيه. بمعنى أن تلك العبارات نمذجت الفيلم مستوى التشكيل الفني والتماس مباشرة بمحتواه القيمي.
السطر الأول ليس مجرد علامة شكلية لتأطير مرادات الفيلم. بل هو الشفرة التي تحدّد معالمه. لأنه مصمّم من الوجهة الفنية للتعامل مع ما تؤديه الشخصيات داخل الفيلم. وما تتيحه الأمكنة من فضاءات لحركة الشخصيات وتنامي الحدث، بالإضافة إلى ضبط نظام العلاقات القائم بين العناصر السردية للفيلم. كما يبدو ذلك مفهوماً في Raging Bull الذي يتحدث عن أمجاد آفلة لحياة ملاكم بعبارات إستهلالية ( أتذكر تلك الهتافات. ما زالت ترن في أذني. ولسنوات ستحتل تفكيري ). وتلك هي استراتيجية الفيلم. فذلك السطر هو الهوية المركزية للفيلم. وبالتالي فهو من الوجهة النّصية جزء جوهري من الفيلم.
السطر الإستهلالي تتأكد فيه مهمة نقل الرسائل المعرفية. وبواسطته يمكن صياغة الأفكار والمواقف والعواطف بما يتناسب مع أفق توقع المشاهد. حيث يفصح فيلم Braveheart عن رسالته بصراحة منذ البداية ( سأحدثكم عن وليام والاس. المؤرخون في إنجلترا سيخبرونكم أن قصتي زائفة. وهذا لأن التاريخ يُكتب بواسطة أولئك الذين يعدمون الأبطال ). حيث تبدو الرسالة من خلال تلك السطور واضحة، لا إبهام فيها. بل تشكل المفتاح الموضوعي والجمالي للفيلم.
ومن ذلك المنطلق يمكن ملاحظة منسوب البلاغة الذي تُصاغ به تلك السطور. فهي تتنصّص برشاقة في مساحة لغوية صغيرة لزوم البلاغة. كما تشتمل على مجمل عناصر الفيلم. حيث يتبدى ذلك بمنتهى الوضوح في فيلم Kill Bill الذي يرسم ملامح الشخصية بعبارات تعبيرية منحوتة ( هل تجدني سادياً؟ أتعلم، سأراهن أن بإمكاني أن أقلي بيضة على رأسك الآن لو أردت ). وهنا يلاحظ أن النبرة متضمنة داخل العبارات، ووازنة لإيقاع الفيلم. وهي في الوقت ذاته محقونة بوجهة نظر هي المعادل لفكرة الفيلم. وبالتالي يمكن توقع ملامح الحبكة، وطبيعة الشخصية، والقيم الصراعية المدفونة في طيات تلك العبارات.
هذا هو ما تؤديه العبارة الأولى. أي تبديد القيم المتصارع بها وعليها في مدخل الفيلم. وكشف توجهه الرؤيوي. كما في فيلم Goodfellas إذ يمكن القول أن الفيلم يتحبكن في هذه العبارات ( على ما أتذكر، لطالما أردت أن أكون رجل عصابات. بالنسبة لي أن أكون رجل عصابات أفضل من أن أكون رئيساً للولايات المتحدة ). حيث تم رصّ مجمل العناصر في متوالية كلامية غنية بالدلالات. إنبنت عليها وبمقتضاها بؤرة التوتر في الفيلم. ودفعت المشاهد بقوة إلى التماس مع جوهر الموضوع المُجَادل في الشريط السينمائي.
الشخصية دائماً هي ركيزة الفيلم. ولذلك تتوجه معظم العبارات باتجاه الشخصية. أي حيث يتبأر الفيلم. ولتوطين الشخصية في وجدان المشاهد لا بد من موضعتها على مدارج الحركة، ومزجها بالقيمة الصراعية. كما يبدو ذلك محرضاً في فيلم The Piano الذي ينفتح على عبارات موحية ( الصوت الذي تسمعه ليس صوت كلامي، ولكنه صوت عقلي. فأنا لم أتكلم منذ كنت في السادسة من عمري. أبي يقول أنها موهبة ملتبسة ). حيث يكشف الفيلم عن طبيعة الصراع ومنسوبه في مفاصل تلك السطور. كما يجد المشاهد في الشخصية المثقلة بالأحزان إمتداداً طبيعياً ونفسياً وبطولياً لوجوده الحياتي. بمعنى أنها تمثله في الفيلم.
الشخصية أيضاً هي العنصر الذي تنخلق بموجبه التصورات المؤثرة في المشاهد. وعبرها يمكن تأسيس ميثاق ضمني مع المشاهد. وذلك من خلال ربط الشخصية بمحيطها الخارجي. كما يتجلى ذلك في فيلم Forrest Gump الذي يبدأ بعبارات تحيل إلى كائن غريب الأطوار ( هللو، إسمي فوريست غامب. فوريست غامب. هل تريد شوكولا؟ بمقدوري أن آكل مليون ونصف من هذه. لقد دأبت أمي على القول بأن الحياة تشبه علبة الشوكولا. إذ لا تدري ما الذي أنت بصدد الحصول عليه. هذا الحذاء لا بد أن يكون مريحاً. أراهن أنك تستطيع السير طوال اليوم بحذاء كهذا بدون أن تشعر بأي ضيق. أتمنى لو أملك مثله ). وكأن الفيلم يريد تسليم طرف خيط الفضول للمشاهد من خلال تلك الجُمل المصوغة بعناية، المحتشدة بالعلامات.
وهناك تقنية أخرى محورها الشخصية أيضاً، وتعتمد على إفساح المجال للشخصية للتعبير عن مأزقها أو عواطفها، بصيغة تساؤلية. إذ لا يقتصر التعبير على فكرة البوح وإعلان الأشواق الجارفة وحسب، بل التعبير عن الرغبة في مواجهة القدر. كما أو تغيير الماضي، أو ترميم الذات. وهي تقنية تعتمد على جُملة حوارية شبه جوانية، أشبه ما تكون بالمناجاة الذاتية. كما يمكن تلمسها في إجابة بطلة فيلم A Car Called Desire على سؤال لعابر إن كانت تحتاج إلى المساعدة ( أخبروني أن أستقل عربة إسمها الرغبة. ثم الإنتقال إلى محطة تُسمى المقابر. والركوب لستة أحياء والنزول عند حقل الفردوس ). بمعنى أن ألفاظ تلك الجُمل ومختزناتها الدلالية هي مفتاح الرواية ومدخلها السحري.
أما الإفتتاحية التي تقوم على الحوار، فهي استراتيجية تضع المشاهد في قلب الفيلم، من خلال إطلاعه على وجهات نظر الشخصيات المتباينة ودوافعهم منذ أول جملة، من خلال ربط الحوار بالحدث، أو تقديم الشخصيات لبعضها البعض عبر الحوار. كما في فيلم The Unbearable Lightness of Being. حيث ينفتح أول مشهد على حوار له مغزاه ( اخلعي ملابسك؟/ ماذا قلت؟/ قلت اخلعي ملابسك./ ولكنك رأيت كل شيء البارحة/ممممم، ولكنني أريد أن أتأكد من شيء ما ). وهنا تتجلى فاعلية العبارة الحوارية المنحوتة ببراعة، وطريقة إلقائها المتجاوزة للتنميط اللفظي. فالعبارات مختصرة ومشبّعة بروح الفيلم ومزاج الشخصيات وطباعها.
إن المفردات المستخدمة في افتتاحيات الأفلام ليست مجرد ألفاظ وصفية، بل هي منظومة من القيم المنذورة للتحوّل إلى تشكيلة من الرموز داخل الفيلم تؤدي مهمات الضبط والربط للسياقات. وهي المنصة المفهومية والشعورية التي ينطلق منها الفيلم وتتحشد فيها مادته الحكائية. وبالتالي فإن الجملة المستدعاة في أول الفيلم هي المعادل للثيمة أو لوعي الشخصية أو للقيمة الصراعية. فأن يُفتتح فيلم Malcolm X بمقاطع من سورة الفاتحة يعني أن جُملته الإفتتاحية بصدد توظيف شفرة مرجعية تلمّح إلى عمق موضوع الفيلم واستراتيجيته السردية.
جريدة الإتحاد – الخميس 11 فبراير 2016م
|