جمهورية قاسم حدّاد
بيت شعر أم خرابة نثر!؟

بعد عشرة أعوام من الإقامة في " جهة الشعر " يمكن القول أن قاسم حدّاد اقترب بموقعه الإستثنائي مما سماه هربرت ماركوز " الطابع الإثباتي للثقافة " الذي يوائم بين المتعة والضرورة، أي الإبقاء على الإنسان العربي داخل خبرته الأنطولوجية، القائمة على ديمومة الإحساس بسحرية الوجود، أو إتيان الحياة بمزيج من الفكر والكلام، كما تتمثل في الشعر، بما هو سقوط عمودي داخل الذات بمظلة اللغة، وذلك من خلال حفر حداثي أولي في الثقافة الإتصالية، التي تقوم على مصالحة إشراقات الخيال بالعلم، لتأسيس قاعدة تفاعلية في مجتمع التواصل الإلكتروني الذي يقيم صلاته البشرية أو بعضها على أساس من الممازجة بين التقني والثقافي كما يوصي لوسيان سفيز.

لا أظنه مجرد انتقام شعري الكتروني من مقولات نهاية الشعر، وموت ديوان العرب، والتبشير بزمن الرواية، فالموقع مستبطن بخطاب جمالي لا ينهض على التدافع بقدر ما يحرض على التكامل، أو هكذا قاربت انبثاقته الأولى كمنبر للتنادي الشعري، كما أوحي عنوان الموقع لحظة انطلاقه، فيما بدى مشروعا فردياً، أو ربما مراودة دون كيخوتية لإحداث فجوة حوارية في مقولة " النهايات " التي طالت حتى الشعر، وذلك بتصميم " جهة " جمالية/معرفية لتعاطي " الشعر " وما يتداعي عنه من الحب والحياة، رهاناً على النص، بما هو تجربة ظاهراتية للحقيقة عبر اللغة، التي يعادلها هيدجر بالأرض أو المستقر.

هكذا صار " جهة الشعر " بما تراكم فيه من بيانات الشعرية العربية، والمغاير من الدراسات والنصوص، وأنطولوجيات الأجيال والأقاليم الجغرافية، الموقع الأهم في مفضلتي Favorite حسب التعبير النتي، كما أصبح دار إقامة لزمرة ممن كانوا يباهون لحظتها بذئبية مستعارة، ولم يكن بمقدورهم حينها إلا ترديد صدى عواء قاسم المجازي في دفتر الزوار، دون وعي حقيقي بما عناه بذلك العواء الإلكتروني كفعل تزميني، خصوصا أنه جاء ريادياً، وفي لحظة كان يتهجى فيها الإنسان العربي الفبائية الشبكة الإلكترونية، ولم يكن بوسع تلك الذوات الإستلحاقية قياس المسافة المتوجب تعنّيها لمماهاة الثقافة كبنية فوقية مع ما يقابلها كبنية تحتية، للوصول إلى المابعد الحداثي الذي يقر حتى بالهامشي والسوقي.

والأهم أنه بدى حينها محاولة جادة لإحداث أكبر قدر من التطابق بين معنى " جهة الشعر " كموقع معني بالمعرفة والصنعة الشعرية، وبين حداثة شكله، على قاعدة جمالية/معرفية تراهن على المضمون، كما يبدو من المتاهة الآخذة في التمدد أفقيا وعموديا، وذلك في حيز إفتراضي، يتجلى كأبرز دلالة من دلالات العولمة، وتتمازج فيه معطيات الترفيه والتعليم فيما صار يعرف بالإديوتاينمنت Edutainment أي كل ما يتعاضد فيه من الوسائط الإتصالية بوسائل التثقيف والترفيه الإلكتروني، داخل معادلة تفاعلية تقوم على وعي انساني أحدث لطبيعة العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة والمجتمع، أو ما حاول قاسم مفهمته بسريالية محدّثة وسماه " علاج المسافة ".

ذات خطفة رومنطيقية أوصى هولدرن بالإقامة الشعرية على هذه الأرض، وقرر العيش في ظل " معلم الإنسانية " وكان يعني الشعر. ويبدو أن قاسم حدّاد أصغى جيدا لنصيحته، أو هذا ما حاول اختباره إنساناً وشاعراً، فهو يجيد إمتصاص مآثر آبائه الشعريين حتى آخر جد، ويعي أن الإشاعة المجازية، القائلة بأن " آدم " هو أول الشعراء، هي فرضية جمالية، اخترعها الإنسان لتجميل العالم، أو شعرنة الوجود بمعنى أدق، ويمكن أن تكون صحيحة، بل ينبغي أن تتحقق، ولذلك قرر أن يعيد سلالته، أي أبناء آدم، إلى جنة الكترونية بديلة، وهو ما يفسر إنغرامه بمفردة " الجنة " واستبساله في مناداة الشعراء/الناس للمثول أمام أحاسيسهم، وتنصيص وعيهم وعواطفهم، ففي الحب - برأيه - شيء من الجنة، بما هو المعادل للفطرة والغريزة والعبقرية.

وعلى عكس أفلاطون، الذي طرد الشعراء من جمهوريته، ربما لمعرفته بأن الفلسفة لا تقبل أن يدانيها إلا الشعر، ناداهم قاسم إلى جماهيرية " جهة الشعر ". ووعدهم بديمقراطية ممرودة بحداثة تعني أن تتحمل الذات الشاعرة وزر اعتقاداتها، وطيش عباراتها، وأن تتقن أيضا المجازفة بالإنحراف - لفظاً وفكرا - عن " عفن اليقين " حسب التهور النتشوي في تعريفه للشعر. وعلى هذا الميثاق الضمني تولدت الرؤية العصرية لجهة الشعر، أي كمعادل إلكتروني لبيوتات الشعر المشاعية، التي يتحقق بموجبها وفيها " عصر الجماهير " ويعاد تعريف الثقافي خارج محدودية وتقليدية المرجع الفلكلوري للعادات والتقاليد، إلى أفق التعدد والإختلاف والتنوع، كما تفترض العولمة وتشترط على كائناتها الكونية الجديدة، بما يعني أنه أراد بتلك الخطوة الإستشرافية، التأكيد على حقيقة التناسب الطردي بين الوعي البشري ومنتجاته المادية، وأن ذلك الوعي يتناغم مع الواقع في علاقة جدلية أشبه بالتلازم البنيوي.

عند دخول الغابة، من العبث محاولة إحصاء عدد الأشجار، أو التعويل على قامة الشجرة أو حتى منسوب إخضرارها لإقرار شجريتها، لأن المعنى يكمن في مكان آخر، فوق الحواس أو تحتها ربما، كذلك في " جمهورية قاسم " يبدو من المستحسن عدم محاولة عد الشعراء وفق معيارية خارج الشعرية، أو ما يمكن أن يغترفه أحدهم من أقصى قاع للبئر اللغوية، فجهة الشعر منبر واسع، وعلى درجة من التصالح مع كافة اشكال التعبير الإنساني، وأبعد ما يكون عن توثين النوع الإبداعي، أو البحث عن وحدة الصوت الكمية، أو حتى تقصي طهرانية الذات الشعرية، والإنهمام بتصنيفها في جدول طبقات الفحول وما دونها، فهو فضاء معولم يهب صوتا لكل فرد.

وهكذا صار " جهة الشعر " الفضاء الأرحب لما يمكن اعتباره " خرابات النثر " ففيه يمكن التماس برهافة سوسيو-شعرية بقصيدة " الحانة " العراقية، والإصغاء إلى أنين قصيدة " الزنزانة " السورية، والتسكع في قصيدة " الحارة " المصرية، وتأمل ما نسيه شعراء الخليج من أصابعهم ووجوههم على طاولات " المقاهي " وما بدّده المغاربيون في " منفى " اغترابهم الروحي والجغرافي، وما عاشه اليمنيون فقراً في " الشارع " وشعراً على الورق، وما تركته " الحرب الأهلية اللبنانية " من ندوب في أجساد ونصوص اللبنانيين، وما يراود به الفلسطينيون أنواتهم الصغيرة للفرار من " الفلسطنة " المغمسة بذل الأبّوات والسلطة السياسية الفاسدة، كما تفترض سوسيولوجيا المعرفة، في شقها الشعري تحديداً، حيث العلاقة التلازمية بين المعرفة والأطر الإجتماعية.

ذلك لا يعني أن " جهة الشعر " موسوعة تجميعية تقتصر مهمتها على أرشفة الوجع والفرح العربي، وما يتم إمتصاصه أو حتى السطو عليه من الشعر العالمي، لأن الموقع لم يتولد كـ " صدفة موضوعية " بل أريد له أن يمارس دوره كـ " فضاء تداولي ". وقد صمم، كما ينّم وعيه ولا وعيه، لتحرير النص الشعري من ذاكرته الإنفعالية، وتصعيد الوعي به، وإن لم يصل إلى المستوى " التفاعلي " الذي حاوله قاسم منذ مدة، لتحدي هشاشة الكائنات الإفتراضية بمخلوقات حقيقية محقونة بالرغبة الشعرية في الحياة، تراهن على أن تعيش القصيدة، وتجادل بمادية حضورها، ولا تكتفي بمجرد تدوينها، أي أن يتأهل " جهة الشعر " كوثيقة جامعة للوعي الشعري العربي، لا أن يكون مجرد دليل لغوي أو عاطفي على نزوات فردية.

ويبدو أن التحولات الدراماتيكية داخل اللحظة الإلكترونية قد جعلت " جهة الشعر " يخضع لخاصية الأواني المستطرقة، إذ لم يعد يسجل اختلافاً نوعياً عن المواقع الأخرى إلا بمقدار تمدده الأفقي، وتجديداته الشكلية، وكأنه قد قبل التحدي بالوصول للإعتيادية، والإحتشاد بكلام يومي يتشبه بالشعر، إذ لم تعد له معيارية استثنائية تكفل له التحقق في جوهر الشعر، ربما لأن قاسم " الأب " انفصل عن جهته، وابتعد أكثر مما ينبغي عن الموقع، مدعياً، ولو بشكل مجازي، مهمة الناشر، وإن لم يتخل عن لمسته الشعرية، حتى في أدق تفاصيله، إلا أنه نأى بما يكفي لتضييع بصمته ومزاجه الخاص، خوفاً من خريف الكتروني قاحل - ربما - ينتاب البطريك كحتمية بيو-الكترونية، ويطال حتى المواقع، فلا يجد الجنرال حينها من يكاتبه.

ولأن جيل الغضب الإلكتروني، الذي لا يعرف من ذاته إلا مظهرا أحادياً، ويمتلك من الرغبة في الحضور والدراية التقنية أكثر من الخبرة اللغوية والفطنة الشعرية، استطاع أن يفرض شيئا من اشتراطاته على الآباء، واستطاع أن ينهك الكثير من المواقع، بما في ذلك " جهة الشعر " بالباهت من الحضورات، والمكرور من النصوص المعاد نشرها حد إمراض المتلقي بالمنمّط والمتشاكل من النصوص، وتحويل أفضل المواقع إلى ملتقيات للتعارف والعلاقات الإجتماعية، وتكريس الأبوات الجديدة بمجانية وسخاء غير مبرر، أو هذا هو منطق الجمهورية حين يتنازل الأب الروحي عن مهامه الميدانية، ويقبل بامتياز الأبوة الفخرية، كما تختصر بصورة رمادية معلّقة كذكرى لمبشر خرافي بالديمقراطية.

جهة الشعر، لا يعكس إذا وعي قاسم الشعري واستراتيجية حضوره الثقافي وحسب، بل هو ترمومتر الشعرية العربية الآن، وبقدر ما تولّد كحلم فردي، واستطاع تشييد نفسه بنفسه للذهاب بالشعر وفيه إلى أقصى جهاته، هو أيضا نتاج فضاء انساني مشترك، ووراءه بالتأكيد فاعل جمعي، شديد الصلة بدستور ثقافي وجماهيري ضمني، إذا جاز ربط هذا الأثر الإبداعي بمنتجه، وعدم فصله كموضوع عن بيئته، بمعنى أنه مظهر من مظاهر فضاء عمومي موحد ومشاع، حسب هابرماس، يحق لكل فرد فيه كمكان رمزي انتاج المعلومة واستهلاكها بحرية فائقة، أو هكذا أراد قاسم جمهوريته للتأكيد على لا محدودية القيمة التفاعلية، بما هي حالة من التبادل المعرفي والشعوري، لإنتاج واختبار منظومة جديدة من القيم في حلقة أحدث من التواصل الفاعل.

ولكن يبدو أن الإفراط في تبديد القيمة التفاعلية قد أدخل " جهة الشعر " فيما سماه ادغار موران، إنفلات الفعل عن مقاصده، أي أن التنادي الجماهيري القائم على عذرية التبسيط، وتجريد النص حد أفراغه من المعنى، والتعاطي الإستخفافي بالقيمة الشعرية، جعله يدخل في كون من التفاعلات التي يصعب ضبطها، ما لم تتم دراسة فاحصة للإنزلاقات، وما تخلخل من عناصر النظام الذي جعل الموقع يكتظ بالنصوص والدراسات العائمة ويفتقر إلى معنى الحياة، بمعنى أن الأوان قد آن للرد الجمالي على تلك المتوالية من المصادفات، وإعلان جمهورية " جهة الشعر " الثانية، بميثاق جماهيري متجدد يخاطب في الإنسان إحساسه الشعري بالوجود، ويراعي التحولات المتلاحقة داخل اللحظة الإلكترونية.