Deprecated: Function ereg() is deprecated in /home/mohammed/public_html/ara/plugins/p2_news/printarticle.php on line 119
سينما الكُتّاب والكتابة

سينما الكُتّاب والكتابة

لا تقتصر الأفلام المتعلقة بعالم الكُتّاب على عرض سيّرهم أو جانباً منها. بل تغوص عميقاً في كل ما يتقاطع مع الكتابة وهواجسها. كما تقدم لوحات متنوعة لمآزقهم الإنسانية، وأزماتهم العاطفية، إلى جانب أمجادهم في الفضاء الحياتي الإجتماعي، وصيرورة نصوصهم بمقتضى تلك المنعطفات. حيث تختزن الذاكرة السينمائية قائمة طويلة بأفلام تشكل مدرسة حقيقية في كتابة السيرة، وفي التجسيد الفني للشخصيات، وفي حقل الكتابة الإبداعية. لدرجة أنها صارت بمثابة الوثائق المرجعية لكل المهتمين بالفن والكتابة.

آخر ما يُعرض الآن على الشاشات فيلم ( نهاية الرحلة ) The End of the Tour. وهو يحكي قصة الخمسة أيام التي قضاها محرر الرولنغ ستون ديفيد لبسكي لإجراء مقابلة صحفية مع الروائي الأمريكي المرموق ديفيد فوستر والاس، بعد نشر روايته الشهيرة ( هزل لا حد له ) عام 1996م. وذلك من خلال عودة إرتدادية إلى عوالمه بعد إعلان انتحاره عام 2008م. حيث يستعرض الفيلم أدق تفاصيل حياة والاس وفلسفته الحياتية من خلال قولات رنّانة ذات مغزى. تحيل إلى عزلته وهشاشته العاطفية. وانعكاس كل ذلك التيه الإجتماعي والإنهاك النفسي على نصّه.

أما فيلم ( كابوتي ) Capote فيستعرض السنوات الست الأهم في حياة ترومان ستريكفوس بيرسونز، المعروف بترومان كابوتي. صاحب الرواية الشهيرة ( إفطار في تيفاني ) التي تحولت إلى فيلم. حيث يقرر أن يكتب مقالة عن جريمة بشعة وقع على خبرها بالصدفة. باتفاق مع مدير تحرير ( نيويوركر ) الذي يغطي تكاليف الرحلة، ويعطيه تصريحاً مفتوحاً للتواصل مع كافة الأطراف. وفي طريقه إلى ( كانساس ) يصطحب معه صديقة طفولته الكاتبة هاربر لي. وكانت آنذاك في طور كتابة روايتها ( أن تقتل عصفوراً محاكياً ). وقد كان ينوي تسجيل انطباعات الناس حول تلك الجريمة المأساوية، إلا أنه انتهى إلى كتابة أهم رواياته ( بدم بارد ). التي سجلت أعلى المبيعات وتحولت إلى فيلم. حيث يتوغل عميقاً في أعماق القتلة، ويُنشيء علاقة صداقة معهم. الأمر الذي يرتد عليه ويعجّل بوفاته. وكأن الفيلم يريد الإخبار عن مصدرية نصّه الروائي.

وفي فيلم Misery المقتبس من رواية متخيّلة للروائي ستيفن كنج، تدور الأحداث حول شخصية الكاتب بول شيلدون الذي يتعرض لحادث سيارة أثناء عاصفة ثلجية، فتنقذه ممرضة معجبة بكتاباته، وهو الأمر الذي طالما حاول تفاديه. أي الفرار من المعجبين. وفيما كانت تعالجه نفسياً يكتشف أنها تعاني هي الأخرى من اضطرابات نفسية حادة. حيث تلجأ إلى إحراق روايته التي كان بصدد إصدارها، وترغمه على إعادة كتابتها وفق مرئياتها كقارئة ومعجبة. وذلك باحتجازه في منزلها بسادية المعجبين. حيث يتراوح تعذيبها له ما بين الأذى الجسدي والقهر النفسي. لدرجة إطعامه الفئران الميتة. وهكذا صار يكتب روايته وكأن السكين على بعد سنتيمترات من عنقه. وهذا بعض ما يريد أن يقوله الفيلم، إذ يوحي بانقهار الكاتب لإرادة ومزاج واستيهامات معجبيه.

العزلة، الإكتئاب، الملل، الألم، متوالية حاضرة بقوة في معظم الأفلام ذات الصلة بالكتابة. وخصوصاً عالم الروائيين والروائيات. حيث تحضر تلك العذابات، بمزيج من الواقعي والمتخيّل في فيلم ( الساعات ) The Hours . ويروي قصة حياة ثلاث نساء من أجيال مختلفة، تأثرن بأشكال مختلفة برواية ( السيدة دالواي ) لفرجينيا وولف روائياً. كلاريسا فوغان في نيويورك وهي تعد حفلة لصديقها القديم ريتشارد المصاب بالإيدز. وربّة المنزل الحامل لورا براوس، التي تعيش في كاليفورنيا وتعاني من حياة زوجية تعيسة. بالإضافة إلى فيرجينيا المقيمة في حالة مزمنة من الإكتئاب ومرض عقلي بينما تحاول كتابة روايتها. حيث تضغط الرواية عليهن جميعاً باتجاه الإنتحار. ليستخلص الفيلم أثر الرواية على الكاتب والقارىء وانعدام المسافة ما بين المعاش والمتخيل، الواقعي والمتخيّل.

الكاتب المنسي بعيداً عن الأضواء والكرنفالات يشكل أيضاً مادة خصبة للأفلام. ففي فيلم ( الإنطلاق مساءً ) Starting Out in the Evening يستشعر الكاتب ليونارد شيلر إحساسه المرّ بالنسيان من قبل القراء والنقاد. وهو يعبر نحو شيخوخته الجسدية والإبداعية. فيما يحاول أن يكتب رواية أخرى. لتفاجئه الطالبة الشابة هيثر وولف برغبتها في تحضير رسالة الماجستير حول أعماله. وبعد نوبات من الرفض والتمنُّع يستجيب لها. وهكذا قررا الإلتقاء كل أسبوع. هي بحاسوبها المحمول وملابسها العصرية الخفيفة الملونة، وهو بآلته الكاتبة القديمة وبذلته الرسمية القديمة. هي بحيويتها وهو بخطواته المتثاقلة. حيث تقتحم عالمه الحياتي والروائي لتسائله عن الصلة الجوهرية ما بين رواياته وحياته العاطفية. وكلما أنكر واجهته بالدليل التحليلي لنصوصه. كما ازدحم الفيلم بسجالات في صميم العمل الروائي حول مصدر الفكرة وبناء الشخصيات ومنسوب الخيال مقارنة بالواقع.

وفيما يتعلق بمفهوم كتابة المذكرات الشخصية عبر وسيط محترف، أو ما يُعرف بالكتابة الشبحية Ghostwriting يأتي فيلم ( الكاتب الشبح ) The Ghost Writer. وهو فيلم يروي سيرة شخصية رئيس وزراء سابق يدعى آدم لانج. يقرر بعد اعتزاله العمل السياسي السفر إلى الولايات المتحدة بصحبة زوجته للعيش برفاهية وكتابة مذكراته، بعد أن تلقى عرضاً من دار نشر بقيمة عشرة ملايين يورو كدفعة مسبقة، ومع إلحاح الناشر لإنهائها في أقرب وقت، يلجأ ألى كاتب مجهول الإسم والعنوان، كما جرت العادة في كتابة مذكرات الشخصيات الهامة. لئلا يكون مصدراً لتلصُّص الصحافة وتسريب المعلومات فائقة السرية. وخلال عمله ينقب في الإرشيف فيكتشف أموراً بالغة السرية، الأمر الذي يعرض حياته للخطر. حيث تشكل حبكة الفيلم إطلالة على عمق هذا النوع من الكتابة.

الحبسة الكتابية أيضاً لها نصيب في تلك المتوالية من الأفلام. ففي فيلم ( أولاد مذهلون ) Wonder Boys يعاني البرفسور جرادي تريب الذي يدرس الكتابة الإبداعية، ويقيم في بتسبيرج من حبسة كتابية، ومن انعدام قدرته في السيطرة على ما يريد كتابته. على إيقاع ترك زوجته الشابة إيميلي له وتورطه في علاقة مع مستشارة الجامعة سارة غاسكل زوجة زميله، حيث تحمل منه. في الوقت الذي يصل فيه محرر روايته الثانية روبرت دوني ليحثه على إنجاز روايته المتعثرة منذ سبع سنين. ليصادف طالبته توبي ماغوير التي تبهره بكتابتها. وهذا هو جوهر الفيلم الذي يسأل عما يحدث للكاتب عندما تهرب منه الكتابة. وعندما تتداخل الإرتباكات الإجتماعية الحياتية مع اضمحلال الإلهام وتردي القريحة. أي حين يتبعثر الكاتب خارج حالة التنسُّك التام للكتابة.

حتى الكوميديا أو المعالجات الغرائبية تم توظيفها في عوالم الكتابة المسرودة سينمائياً. ففي فيلم ( تبنّي ) Adaptation يتصدى الكاتب تشارلي كوفمان لفكرة إعداد سيناريو سينمائي لكتاب ( لص الأوركيد ) للكاتبة سوزان أورلين بطلب من فاليري توماس. حيث تم شراء عقد الفيلم قبل أن تكتب سوزان الرواية. أي عندما كانت مجرد مقالة في ( نيويورك تايمز ). وحينها تفرض الرواية سطوتها عليه وتؤثر في عالمه الواقعي. حيث يواجه صعوبة في التقاط الخط الدرامي للرواية. بسبب الحبسة الكتابية التي يعانيها وكآبته الشخصية كانعكاس لأزمة منتصف العمر. وهكذا تتعقد أزمته ككاتب سيناريو ما بين أمانته للنص أو تحريفه درامياً بما يتناسب مع مرئياته. عندما يكتشف علاقة عاطفية ما بين سوزان وجون لاروش. مع عدم اقتناعه بإمكانية لاروش لملء الفيلم. وبذلك يتحول الفيلم إلى محاكاة واقعية لطبيعة الصراع مع النص المعاند لما قد يطرأ عليه من خارجه. ولذلك يلجأ إلى شقيقه التوأم دونالد الذي يحلم هو الآخر باحتراف كتابة السيناريو.

كل ما يتعلق بالكتابة يجد له محلاً وصدى داخل هذا النوع من الأفلام، سواء بشكل كلي أو جزئي. ومن منطلقات خيالية أو واقعية. فهي أفلام منذورة للتماس العميق مع ما وراء المعروض من حياة الكُتّاب. ومدروسة بحيث تشكل إطلالة منهجية لعوالم الكتابة. وبالتي فهي تحتاج إلى كادر جرىء وحرفي في مقاربة هذا الحقل. لأن النصوص والأدوار تكون على درجة من التعقيد والصعوبة. ولذلك ليس من المستغرب أن تحصد هذه الأفلام الجوائز. بما في ذلك الأوسكارات. كما حدث لكاثي بيتس عن دورها في ( بؤس ). ونيكول كيدمان عن دورها في ( الساعات ). وفيليب سيمور هوفمان في ( كابوتي ) وغيرهم.

أما قائمة الأفلام فهي طويلة وغنية بالموضوعات والمعالجات كفيلم ( السيدة باركر ) Mrs. Parker الذي يسلط الضوء على حياة دورثي باركر. وفيلم اللاعب The Player المأخوذ عن الرواية الشهيرة لمايكل تولكن حول متعة وخطورة الكتابة للسينما. وفيلم ( تفكيك هاري ) DECONSTRUCTING HARRY الذي يمثل فلسفة وودي آلن في الكتابة. وفيلمه ( الستارة ) The Front الذي يعالج فيه قضية قائمة مكارثي المعروفة. حيث يبيع كاتب مغضوب عليه نصوصه لعامل مطعم ليحصل على رزقه. وغيرها من الأفلام التي تعالج مختلف القضايا، في جميع أنحاء العالم. كالفيلم الألماني SATANSBRATEN والفيلم السويدي THROUGH A GLASS DARKLY إلى جانب منظومة من الأفلام الملهمة التي تنهل من الكتابة إلى عوالم الفيلم أو تجعل من الفيلم محلاً لهواجس الكاتب وسيرته ومعاناته لتوليد نصه الإبداعي.

الخميس 7 يناير 2016م