دليل سلافوي جيجيك المنحرف إلى السينما والأيدلوجيا
مقاربة السينما من منطلقات أيدلوجية قد تسلب منها ذلك البعد السحراني. إلا أن الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني له طريقته الخاصة والمحبّبة التي تستدعي الفكري وتُبقي على الفني. فهو يصر على أن السينما ساحة للصراع الأيدلوجي بالمعنى المفتوح لمعنى الأيدلوجيا وليس كمفهوم دوغمائي. ومن منطلقه كماركسي أصيل يقرأ مجمل الإنتاج السينمائي من هذا المنظور. وذلك من خلال رؤية فنية مبتكرة تسمح له بالإندساس ما بين طيات الفيلم للتعليق عليه ومجادلة بنائه المفهومي. الأمر الذي يجعل من طريقته تلك على درجة من الجاذبية والإثارة. بالنظر إلى ما يختزنه من معرفة بتاريخ الأفكار، ودراية عميقة بالتحليل النفسي، إلى جانب ملامساته الفنية. حيث يجمع ما بين الرصانة الأكاديمية وشعبوية الثائر القادم من الأدغال.
هكذا يتطفل على الشاشة بوعي وشراسة ورهافة. وكأن خطابه في هذا الصدد منذور لتفكيك أخدوعات الأفلام الجميلة أو ما يُعرف فنياً بالصيغة السينمائية. أو كأنه يريد إيقاض المشاهد من حالة الخدر التي يتغارق فيها لحظة انفعاله بالمشاهد البصرية المتتالية. فالفيلم لا ينتهي أثره بمجرد الخروج من صالة العرض بل يمتد معه إلى ما بعد المشاهدة عبر الرواسب التي يوطّنها في وجدانه. وعلى هذا الأساس كتب وصمّم فيلمه الشهير ( دليل المنحرف إلى السينما ) The Pervert’s Guide to Cinema بإخراج صوفي فينيس عام 2006م. لاستقصاء إشعاع الأيدلوجيا داخل الأفلام.
في هذا الفيلم يحاول فيه تبديد أثر تلك الكذبات المبهجة. وذلك من خلال استعراض مجموعة من الأفلام التي تشكل علامات في تاريخ السينما. وتراوح ما بين الرعب والرومانسية والإثارة والكوميديا باعتبارها طبقات أو مرايا للأيدلوجيا. حيث يتنقل ما بين Possessed و The Matrix و Psycho و Duck Soup و The Bird و Blue Velvet وThe Exorcist وThe Red Shoes و Fight Club وVertigo وغيرها من الأفلام. وهو بتلك المقاربات لا يناقدها من الوجهة الفنية، ولا بعين المشاهد، بقدر ما يخترق طياتها برؤية فكرية أشبه ما تكون بالمعالجة الفلسفية التي تقوم على قراءة يمتزج فيها قياس أثر البُعد البصري وجس قُدرات الفيلم الخطابية.
بمراودات فلسفية يحاول الإجابة على سر افتتاننا بالأفلام الخيالية المؤسسة على الخرافة. حيث يرى أن الخيال الجامح ضرورة لاستكمال نواقص الواقع. وحاجتنا إلى كل ذلك الخيال حتمية لنعرف موقعنا من الواقع. وهذا هو ما يجعل الفيلم في شكله النهائي المصقول لا يعبر من خلال مفرداته البصرية ومداراته التخييلية عن الصلة بالواقع المعاش، بقدر ما هو يحرض على التعامل معه كإعادة إنتاج سردي مراوغ للوقائع. لملاءمة هواجس المشاهد. وهو فن يتقن أداء فروضه صُنّاع السينما.
هكذا تصنع السينما نسخها المزيفة للواقع بالتواطؤ مع المشاهد. فنحن نعرف أن ما نشاهده ليس حقيقياً ولكننا نترك لتلك السطوة السحرانية فرصة التأثير في حواسنا ومشاعرنا. وبمقتضى ذلك التصور الفلسفي يفتتح فيلمه بعبارة ذات مغزى ودلالة ( مشكلتنا لا تكمن في السؤال إن كانت رغباتنا مشبعة أم لا. بل في السؤال عن كيفية معرفة ما نرغبه. رغباتنا مصنوعة. يجب أن نتكلم مع رغباتنا. فالسينما هي أكثر الفنون انحرافاً. إنها لا تعطيك ما ترغبه ولكنها تلقنك كيف ترغب ).
وكما يُستخلص المعنى من النص المكتوب، يحاول جيجيك إمتصاص وعي ولاوعي الفيلم من الشريط البصري. إتكاء علي ثقافة موسوعية باهرة، وبنهج تفسيري يقوم على تفعيل علم الإشارة. أو هكذا يحاول فتل ألياف العلاقة ما بين الدراما والسلطة. وإفراغ الأفلام من حمولاتها الإعلامية ورصيدها الدعائي. فالنص السينمائي مخزن للأيدلوجيا. وهذا هو جوهر تصوره لتلك اللعبة الحسّية من منظوره. باستثناء أفلام العباقرة الذي لم يكن منزعهم على صلة بالتجاري. بمعنى أنه يضع الفيلم السينمائي في مرمى التأويل. باعتباره مضخة لتوليد المعرفة وخلق التصورات عن الوجود في صميم الحالة الإنفعالية. إذ لا يوجد ذلك المشاهد السلبي الذي لا يتفاعل بشكل أو بآخر مع العلامات والدلالات والإشارات والإيحاءات.
وإذا كان الفيلم يُعرض على الشاشة كشريط بصري متماسك فإن جيجيك يعيد تفكيك أجزاءه ليكشف سر تلك التراكيب من الوجهة التعبيرية والوظيفية والتقنية. بمعنى أنه يتعامل مع الفيلم كنص. وكأن مهمة تحرير المصطلح بالنسبة له تعني معادلة السينما بالأيدلوجيا. بمعنى أن صناعة الفيلم هي بمثابة صناعة وعي مردّه سطوة ما يُصطلح عليه بالأخ الأكبر. إعتماداً على الصورة المرتبطة باللغة والمستقلة عنها في آن. وهكذا يجد لنفسه موطئ قدم في كل فيلم بما يتماثل مع حاجة المشهد. فقد يركب قارباً، أو ينام على سرير، أم يجلس على مكتب، أو في زاوية من الشارع وهكذا.
إنه بصدد إختبار إمكانية أداء الصورة لمهمة التحليل الفلسفي. على اعتبار أن الفيلم، أي فيلم، لا يطرح روية فلسفية بالمعنى الفكري، بقدر ما يتجرأ على التلويح بالأسئلة الفلسفية. وكأن الفيلم يريد أن يشترك مع الفلسفة في إثارة الأسئلة الإنسانية الكبرى. أو ربما هي طريقته العصرية لطرح تلك الأسئلة والتعبير عن الوجود. ولذلك يؤكد على حاجتنا إلى ذلك الكم من الخيال المتوفر في السينما، حسب مرئياته. لأن الخيال ضرورة لاستكمال وعينا بالواقع. وهو حاجة ملّحة للبحث عن الحقيقة. مع معرفتنا بأن ما نشاهده على الشاشات إن هو إلا منظومة من الصور المدّبرة التي قد لا تتقاطع مع الواقع بصلة.
الفيلم السينمائي إذاً هو المسؤول عن صُنع المعنى. وبالتالي فإن جيجيك يموضع نفسه في محل الكاشف لذلك المعنى المخبأ في الأفلام، والفاضح لفكرة الإحساس الأيدلوجي للعالم التي تستبد بالسينما. فالمشاهد الذي يتعرض لوابل من صور الرعب والكوميديا والإثارة لا يختار هذا الحمّام النفسي بشكل طوعي إلا لأنه يجازف بالدخول في تجربة وعي على درجة من التكثيف الشعوري وازدحام الأفكار. التي تتسرب إلى وعيه ولا وعيه بموجب إستراتيجية الفيلم. وهنا مكمن قوة السينما التي يحاول مفهمتها.
بمقتضى ذلك النهج التفسيري لمحتوي الأفلام ومضامينها أنتج فيلمه الثاني ( دليل المنحرف إلى الأيدلوجيا ) The Pervert’s Guide to Ideology عام 2012م. من إخراج صوفي فينيس أيضاً. وهو فيلم ينحى إلى النهج التفسيري أيضاً، أي تمريد الذات بين مشاهد الفيلم لاشتقاق الرسائل الأيدلوجية وفضحها. بالأدوات التحليلية ذاتها وبالقدرة التأمُّلية الخاصة بجيجيك. التي تشكل بصمة في مقاربة المنجز السينمائي. فما بين سطور النص المكتوب من الرسائل واللفحات الأيدلوجية، هي ذاتها الراسبة بين شقوق الفيلم.
مقارباته للأفلام في هذا الفيلم تحتّم ارتطامه بالنزعات الفاشية والنازية واللاسامية والشيوعية والليبرالية. حيث يسلط الضوء على حركات الشغب والثورات الجماهيرية. كما تتبأر نظرته تلك في مطالعته لفيلم They Live الذي يعادل فيه ما بين حاوية الزبالة والأيدلوجيا. ليؤكد على أن عدم القدرة على رؤية تلك الأيدلوجيا/الزبالة يعود إلى رفض لبس النظارة التي عبرها يمكن التماس مع الحقيقة. وهكذا يتواصل مع متوالية من الأفلام التي تشكل علامات في تاريخ السينما. مثل فيلم Taxi Driver و Full Metal Jacket و The Fall of Berlin و Titanic و The Eternal Jew و The Last Temptation of Christ.
وهكذا تتمدد القائمة وتطول لشمل A Clockwork Orange و If... و West Side Story و Brief Encounter و The Sound of Music و غيرها من الأفلام الإشكالية. حيث يختلق لنفسه مدخلاً في سياقات تلك الأفلام ليسائل حمولاتها الأيدلوجية. فهو لا يرى في هوليوود إلا أداة لتوطين مفاهيم ذات حمولة دعائية من نوع ما. أو كما يحدّد مهماتها بدور ( المراسل الصحفي على الجبهة الايديولوجية الأمريكية، التي تستدرج المشاهد ليشارك في سرد الضياع الذي يعصف بدوافع الذات الانسانية ).
هذا هو مزاجه الأيدلوجي الذي يشاهد به الأفلام. وبمختلف الوسائل يحاول تأكيد هواجسه. بمعنى أن قراءته للفيلم لا يمكن أن تتخفف من بُعد اللهاث وراء الأثر الأيدلوجي مهما كان خافتاً. ومن هذا المنطلق قرأ الفيلم الشهير لأمير كوستاريكا Underground حيث تحفظ على كثافة مشاهد الجنس والشراب التي يزدحم بها الفيلم. فهذه ليست وقائع الحياة في البلقان. بل صورة الآخر النمطية عن البلقانيين حيث يُراد لهم أن يُسجنوا في أحلام غيرهم.
بهذه القراءة الأيدلوجية الشكوكية المضادة. أي التأمُّل الماركسي لأفلام يراها محمّلة بالأيدلوجيا، يمكن استيعاب دلالات دليله ( المنحرف ). ومراوداته الفطنة لتفكيك السرديات البصرية، وخدش القالب الذي يختزن آليات الإيهام. فهو لا يطالع الفيلم ويمضي، بل يستنفر طاقته الجدلية التي عُرف بها ليخلق خطابه المضاد، أو الموازي على الأقل. لأن السينما، حسب مفتتح فيلمه ( هي أكثر الفنون انحرافًا ). ولذلك نذر خطابه لتبديد حيل التقنية الذهنية والبصرية التي تمنع تماسنا بأعماق الشريط البصري المُمّرر أمامنا. وتؤدي بنا إلى العمى السينمائي.
جريدة الإتحاد - 4 فيبراير 2016م