( بركة يقابل بركة )
رثائية ساخرة للواقع
النهايات السعيدة هي المحطة الناعمة التي يلتقي فيها أي رجل وامرأة يجمعهما الحب. وهي مآلات تقليدية في الأفلام، التي تنغلق آخر مشاهدها على حفلة زواج أو ما يشبهه. ولذلك يسميها رايموند درجانت مصانع الأحلام. إلا أن محمود صباغ في فيلمة ( بركة يقابل بركة ) يخالف أفق توقع المشاهد بنهاية ليست سعيدة تماماً ولا تراجيدية، بالمعنى الفجائعي للكلمة. فالبناء السردي البصري للفيلم وشريطه اللغوي يشي بمقابلة مطولة، ممتدة في الزمان والمكان، ذات أبعاد متعدّدة ومتنوعة بين شخصين: إجتماعية وعاطفية وثقافية ونفسية.
هذا ما يصرح به عنوان الفيلم ومضمونه. حيث ينتهي بجلوسهما إلى جانب بعضهما على كرسي مشترك، تفصلهما مسافة سنتيمترات، هي بمثابة مساحة التكاذب التي تتعنوّن داخل الفيلم تحت لافتة المسرحية الإجتماعية. إذ يشتركان في أداء أدوارهما فيها، ويحتجان عليها في الآن نفسه. ولا منجى لأحد منها. فلا إبنة الطبقة المرفهة تخلت عن ترفها وقيم طبقتها، ولا إبن الحي الشعبي صعّد نفسه بالفهلوة ليندس إلى عالمها. وهكذا افترقا بحُبٍّ، ورغبات مقموعة، وحسرات طافحة.
يبدأ الفيلم بلقطة لبركة ( هشام فقيه ) وهو يتأمل حمّالة صدر، كعلامة أولى في حقل العلامات التي يحاول محمود صباغ استزراعها في الفيلم. على اعتبار أن السينما فن إيحائي في جوهره. أو هكذا يرتب أبنية وشفرات وأنساق فيلمه. حيث توحي اللقطة بكائن مصاب بالفيتشية، إلا أن الفيلم سرعان ما يفصح عن سر رغبته في الحصول على تلك القطعة من المتعلقات النسائية. فهو بصدد تمثيل دور أوفيليا، ذات الصدر الفسيح، في مسرحية ( هاملت ) أو كما ينطقها ببراءته وعفويته ( هامليت ). وذلك كجزء من هوايته في التمثيل المسرحي. أما وظيفته الأساسية فهي العمل ضمن فريق أمانة بلدية جدة لضبط المخالفين من الباعة والمقاولين. وهي مهمة تتناقض مع طيبته ونقاء سريرته وعشقه للحياة البسيطة. إذ لا يمكنه إيذاء أي أحد حتى ولو كان ذلك بموجب القانون.
وذات جولة ميدانية يصله بلاغ بوجود فريق فني على أحد الشواطىء لتصوير نجمة إنستغرام مشهورة لإعلانات تجارية. وهو أمر يخالف عادات وتقاليد المجتمع. ولكنه يتغاضى عن بعض الخروقات ليستمر التصوير. إلا أن قلبه يلتقط الإشارات الأولى من جانب النجمة بيبي ( فاطمة البنوي ). التي لمحها من قبل بجانب البوتيك الذي تعمل به. ثم يصادفها مرة أخرى في معرض تشكيلي مفاهيمي ( معرض الأجيال الواعدة ) وهي في مهمة الترويج لمنتج. وهناك يحدث بينهما حوار هو بمثابة الهوة التي يصعب ردمها ما بين امرأة عصرية متحرّرة وجريئة ورجل محدود الخبرة، قليل التجربة، قادم من زمن آفل. وأثناء حديثهما الجانبي يأتي من يخبرهما بصراخ هامس، بضرورة تهريب النساء من الموقع لأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد وصلت. فتمرّر له رقم هاتفها للتواصل وتختفي كالسندريلا.
وبالفعل يستمر التواصل التليفوني فيما بينهما، مع تعذر اللقاء في أي مكان لأن المجتمع كله محاصر بالعادات والتقاليد وبالشرطة الدينية التي تطارد العشاق. وهنا تدخل العدسة لترسم سيناريوهات المحرمات الإجتماعية المحلوم بها والمتعذرة في آن. إذ لا مواعدات في حياة خالية من الرومانس بتعبير بيبي، التي تستعرض الممكن الشاعري بحسرة: مطعم حالم بمأكولات شهية على ضوء الشموع. شاطىء يطل على ( بحر ربّنا ) حسب تعبير بركة. جولة بانورامية بالسيارة. إلا أن كل تلك السيناريوهات الإستيهامية تفشل، ويتم التخلي عنها لأسباب رقابية. وعليه يتسللان إلى الصدليات وبقالات الجاليات ليتحدثا إلى بعضهما البعض ظَهراً لظهر. حيث لم تنفع كل وصايا إبن الحارة ( دعاش ) في تذليل أي عقبة من عقبات لقاء العاشقين. إلى أن يقرر بركة استخدام الحرز الذي أعطته إياه دادا ( سعدية ). فهو حرز ( يحبّل العاقر، ويعقل الشقي، ويقرّب الحبيب ). كما يذبح خروفاً لإزالة النحس عن علاقتهما.
حتى هذه اللحظة تبدو المصادفات غير مقنعة، واللقاءات المدبرة غير منطقية. إذ كيف لنجمة مشهورة يطاردها المعجبون أن تلتفت لموظف بلدية إسمه ( بركة ). بما يختزنه هذا الإسم من بساطة وقدرية وشعبية. أو كما وصفته ( بيبي ) لصديقتها بأنه ( بلدي ). أي أنه من طبقة دنيا لا ترتقي إلى مكانتها. وإنما هي بصدد التسلي به. لكن الفيلم الذي لا يرمي كل حبال حبكته دفعة واحدة، يعكس إتجاه الرؤية بشكل كامل لتتحول كل تلك المتوالية إلى أدلة عشق حقيقي، إلا أنها مضمرة ومكبوتة بسبب الزيف والكذب والإزدواجية التي عاشتها ( بيبي ) حتى نسيت إسمها. حيث يكشف الفيلم عن أن إسمها الأصلي هو ( بركة ) أيضاً. وأنها بمجرد أن التقطت إسمه لأول مرة شعرت بأنه قد رمى لها طوق نجاتها من حياة المراوغة والمخاتلة. بمعنى أن الفيلم هنا قد بدأ يكشف عن ثيمته الغائرة وحمولاته من الرسائل. وصار بالفعل يأخذ صيغته كقوة إجتماعية. أو هكذا أراده محمود صباغ كسيكولوجيا إجتماعية تحرّرية.
وعلى هذا الأساس ارتد بسرديته إلى الوراء لينسخ الواقع بمرآوية صريحة. حيث انبنى السيناريو على عرض سردي للأحداث. كما شكل أيضاً، وهو الأهم، الدافع لمادة الفيلم. وذلك لتفكيك إزدواجية المجتمع على إيقاع قصة حب مستحيلة. حيث يكشف الفيلم أيضاً أن ( بيبي ) ليست إبنة مدام ( ميادة ) بل الموديل الأول في بوتيكها الشهير ( كراكوزة ). وأنها يتيمة، مجهولة الأب، تم التقاطها وتأهيلها لتصبح دمية شقراء في بيت بلا مشاعر، ولا علاقات دافئة، وكل ما فيه مصنوع. وأن مدام ( ميادة ) التي لم ترزق بأي طفل، تفكر في الإحتفاظ بها كديكور منزلي حتى بعد أن حبلت بمساعدة الداية ( سعدية ). التي عُرفت بمهارتها وأعاجيبها. فهي ( متصيّطة ) حسب منطوق الفيلم. حيث تحاول تزويجها بأخ زوجها لتظل في مدار العائلة. وهنا تتمرد ( بيبي ) وترفض، خصوصاً بعد أن طلبت منها أن تنزع حمالة صدرها لزوم عرض الأزياء وكأنها لا تمتلك حتى حق التصرف في حميمياتها.
ونظراً لتراكم المتناقضات ونفاد صبرها إزاء واقعها المزيف في ذلك السجن الاجتماعي القاتل للمشاعر تخرج إلى الشارع برفقة ( بركة ). وتشكي له همّها وضيقها بتلك العيشة البائسة. وأثناء تجوالهما تحاول نزع حمالتها بغضب لتأكيد الرمزية المضادة للعلامة المزروعة في أول الفيلم، فيستفسر منها بعفوية وخفة إن كانت حمّالتها من النوع الرافع للصدر إلى الأعلى Push Up Bra لأنه يحتاج إلى مثلها لأتقان دور أوفيليا. وما أن تلامس أذنها كلمة حمّالة حتى تنفجر غضباً وتقفز من السيارة. لتجلس على درج لعبور المشاة، ويبقى في سيارته لحراستها إلى الفجر لكنها لا تعود. وعلى هذا المشهد تنكتب نهاية العلاقة العاطفية بينهما.
تلك هي الحبكة التي يقوم عليها الفيلم. حيث يعبىء محمود صباغ شخصياته بالأفكار والعواطف والمعتقدات والأوهام ليبنيها بمقتضى حاجة الفيلم. بركة، بلسان الحارة الشعبي، وبسمته البسيط، الذي يخرج من حالة موظف البلدية إلى حالة الشاب ( الكول ) في الأماسي ولحظة لقائه ببيبي. تلقائيته التي تصل حد السذاجة وهو يتدرب على نص شكسبيري أثناء تطوافه بسيارة البلدية أو لحظات مكوثه في الحمام ( إني لا أعرفك يا مولاي ولكني أخشاك ). وعلى دكة المسرح وهو في حالة من النعاس بعد أن أوصل الداية سعدية إلى بيت إحدى الحوامل فجراً ( ولكن يا مولاي أيكون للجمال رفيق أكثر من العفاف ). ولحظة أدائه للعرض وهو يرمي الورود ( إني لا أملك إلا البكاء كلما تذكرت أنهم سيرمونه في الأرض الباردة ). واحتجاجه الأخلاقي على كلمة ( قوّادة ) وكأنه يحاول بكل ترسباته المجتمعية تعقيم النص الشكسبيري.
أما حواراته مع ( دعاش ) و ( سعدية ) فلها نكهة مغايرة. حيث اعتمد محمود صباغ اللهجة الحجازية كمكوّن بنيوي في الفيلم. الأمر الذي فصّح خطاب الشخصيات وأكسبها معالمها النفسية والوجودية. ليس في فضاء الحارة الشعبية وحسب، بل أيضاً في عوالم النخب ممثلة في مدام ( ميادة ) وزوجها وموديلات بوتيكها. فهنا لهجة حجازية بمستويين هما إنفعاليين عاطفيين أخلاقيين فكريين. البساطة والعفوية والتلقائية والحماسة والبهجة الطافحة في الحارة، مقابل اللهجة المتكلفة المفتعلة المطعّمة بمفردات مستعارة، الباردة، الخالية من الإنفعالات الصادقة. وكأنه يضع ( بركة بنت حارث ) المصنوعة في مختبر الطبقة العليا، مقابل ( بركة عرابي ) النابت بشكل طبيعي في أرضه وبين ناسه. إذ لا يخفى انحياز الفيلم إلى فكرة التأصيل الإجتماعي بما يستعرضه من أزياء ومأكولات وأثاث وفضاءات معاشة.
وهذا هو بالتحديد ما أوقع الفيلم في مزيج من الوعظية والرثائية. حيث تتحرك الكاميرا باستمرار وبتعمق في زوايا الماضي كمكان وإنسان، وتتلفت بريبة وتوجس وعدم رضا في فضاءات الحاضر. وهناك مقارنات خطابية مباشرة بين ما كانه المجتمع وما صار عليه. لدرجة أنه توقف في بعض مفاصله عند لقطات ديكودرامية. سواء على مستوى مساءلة الموجة الدينية، أو أفول الحس الفني، وموت الشغف بالحياة الواقعية مقابل الحياة المزيفة. وهنا مطب مجمل الأفلام في السعودية. التي تحاول تحشيد كل القضايا الإشكالية في شريط بصري محدود. كما يتضح ذلك من خلال جولات الكاميرا المقصودة على الكتابات والخربشات التي تملأ جدران الحارات، والتفاتات العدسة إلى خطابات وعظية على الشاشة ورجال دين يهتفون بالناس ويحرضونهم على تكسير آلات الفن والمعازف. ولقطات الإبل الهائمة على إيقاع دعوة بيبي لبركة لسفرة ترويحية إلى دبي فراراً من الحصار الإجتماعي. ومشاهد المصحف والتعويذات الدينية التي تصطف في سيارته كإشارة للتديّن الشكلي الإستعراضي.
كذلك يمكن ملاحظة نبرة الإنتصار لما كان مقابل ما يبدو عليه المجتمع في مشاهد الطرب الشعبية الممتلئة بالحياة. كحفلة العرس التي دعاها لمشاهدتها من سطح البيت. بما حملته تلك الحفلة من بهجة طافحة. وهذا أيضاً أحد الإنتصارات التي تحاول السينما تسجيلها دائماً ضد طبقة أو فئة أو لحظة. وهي مشاهد جاذبة ومؤثرة بدون شك، وتدخل بشكل بنيوي في مركبات الفيلم وسياقاته ورسائله. ولكن يؤخذ عليها ارتفاع منسوب اللغة الخطابية مقابل الشريط البصري. وهو ارتباك تم تفاديه ببراعة في مشهد حفلة عيد ميلاد بيبي التي رتّبها على ظهر مركب بوجود فرقة موسيقية تعزف لحناً حجازياً مدوخاً. لولا أن محمود صباغ كان يقطع تلك المشاهد بشكل باتر ويحد من استطرادها، على الرغم من كونها الجوهر الروحي للفيلم. وهو مأخذ يمكن تسجيله على خشونة النقلات في المونتاج. حيث أسست تلك القفزات الخاطفة حالة إيقاعية سريعة لا تتناسب مع مرادات الفيلم وطابعه التفصيلي.
كل لقطة في الفيلم كانت تريد أن تشير إلى شيء ما، جمالي أو قبحي. إلا أن لغة اللقطات السينمائية كانت تتحرك بسرعة يصعب معها امتصاص فحوى الرسالة. كما أن الفيلم ذاته لم ينحسم نحو قالب تعبيري مهيمن. فهو يراوح في مزيج من الاجتماعي والكوميدي والرومانسي. لولا أن شخصية هشام فقيه رجحت الحسّ الكوميدي، بصيغته الرثائية الساخرة للواقع. الأمر الذي قوّض أي إمكانية لارتفاع منسوب التوتر الدرامي. وهو انحياز قد يكون بموجب اجتهاد شخصي منه، بالنظر إلى طاقته الإضحاكية المعروفة. إلا أن اللغة المكتوبة للفيلم، كانت من القوة والكثافة بحيث زودت السياق البصري ببنية دلالية في هذا الإتجاه. إذ لم تفرض تلك البنية الدلالية سطوتها من خارج الفيلم، بل تأتت من داخل إطاره ومستوجباته. بمعنى أن الشريط اللغوي في الفيلم كان أكثر مما يحتمله الفيلم مقارنة بما يتطلبه الشريط البصري. فما يتم تصويره للسينما واستعراضه على الشاشة هو العالم غير المصوغ، وليس ذلك المؤطر بالكلام والتنظير.
وهنا يمكن التأكيد على أن أجمل مشاهد الفيلم هي تلك التي كانت تبدو فيها الحياة مفعمة بالبهجة الطافحة من خلال لغة الوجوه، وبدون بيانات. وهي مشاهد برع فيها الممثلون بأدائهم اللافت. بركة، وبيبي، ودعاش، وسعدية، وميادة وحتى عرابي الصامت طوال الفيلم الحاضر بجسده ونظراته. حيث جاء الحوار المكتوب بحرفية عالية كمكّون بنائي للشخصيات. وكأن محمود صباغ يريد القول بأن وجودهم الأنطوقي هو مرآة حضورهم الحياتي. أو هكذا تنغلق حلقة الفيلم على دعوة لعدم الإسراف في العواطف. وإحكام الطوق على الشخوص في مداراتهم الحياتية الضيقة التي تشبه السجن. دعاش طريحاً في غيبوبة عشق الحارة. سعدية فرحة بهدايا ميادة التي قد تُخرجها جزئياً وشكلياً ومؤقتاً من واقعها البائس. وميادة لم يتغير في عالمها البلاستيكي إلا استبدال لوحة الفن المفاهيمي بتعويذة استيهامية. أما بيبي فقد خرجت من سجن ميادة إلى سجن شركة إعلان إحتكارية. فيما استمر بركة يجول بسيارة البلدية بحثاً عن المخالفين وعن امرأة تنقذه من ورطة اغترابه.
القدس العربي -