قصص وروايات ما بعد الحداثة
زيارة ذاتية للتاريخ
القص ظاهرة كونية شديدة الارتباط بوجود الانسان ، فهي تجسيد لحسه الدرامي بالتاريخ كحكاية أزلية ، يبحث من خلالها - سرديا - عن المعنى الضائع لأصالة الوجود ، وبالتالي تعكس حقيقة ومستوى احساسه الروحي والمادي بتعقيدات الظاهرة الحياتية . ويتبدى في النص القصصي ما يمكن اعتباره اشارات مرسلة وصريحة ، تتمدد بانسيابية على سطح النص ، أو ما تتوارى غامضة ومؤجلة في الزمن . وربما لهذا السبب الجوهري يحظى القص باهتمام عالمي متعاظم ، ككتابة أدبية مغايرة ، وكمقاربة تنظيرية متجاوزة ، يكثر الاختلاف حولها ، خصوصا فيما بات يعرف عالميا بأدب “ ما بعد الحداثة “ ، حيث تحقق الكتابة القصصية كاستعاضة للوجود الأصيل ، ما يعتبره جاك دريدا ديمومة حاضرة للمعنى ، او فائضا دلاليا مؤجلا .
وكمصطلح اشكالي يتعرض مفهوم “ ما بعد الحداثة “ لموجة من الاجتهادات المكثفة ، وربما المتضاربة ، بالنظر الى ما يعانيه من الالتباس الفني والثقافي والتاريخي ، اذ تنعدم فيه الخطوط الفاصلة بين ما هو اجتماعي ، وما يمكن تصنيفه كشأن ثقافي خالص ، وبالتالي تعجز النظرية عن الربط الدقيق بين الواقع الاجتماعي ومبرراتها التأويلية ، فامبرتو إكو ، أكثر المشتغلين على هذا المصطلح نقديا وابداعيا ، يستصعب تعريف “ ما بعد الحداثة “ من الوجهة التاريخية ، بالنظر الى كونها مقولة مثالية ، بل هي ، من وجهة نظره ، مصطلح فضفاض يستعمل اليوم بمرونة مفرطة ، ليدل على أي شيء حسب رغبة وتأويل مستعمله ، وان كان يؤكد بأن لكل مرحلة ما بعد حداثيتها ، ومن هذا المنطلق يميل الى أن “ ما بعد الحداثة “ اليوم هي ظاهرة امريكية بالدرجة الأولى .
واذا كانت الثقافة ما بعد الحداثية هي التي أصبحت روائية ، فهي التي تنتج الحكايات بغزارة ، حسب ستيفن هيث ، فلا بد من الوقوف على ما صنف روائيا ، أو قصصيا ، كاشتغال أدبي ما بعد حداثي ، أو على الأقل خضع لمعيارية فنية ما بعد حداثية ، فهناك ملامح مشتركة ، وان اختلف على مدى حضورها ما بعد الحداثي ، الا أنها تشترك في مواصفات يمكن القبول بمجادلتها ، فجون بارث المصنف كأديب ما بعد حداثي ، وواحد من أكبر المتجادلين بهذا المصطلح ، ان لم يكن أكثرهم اعتناء به ، يرسم ملامح التوجه العام للكتابة ما بعد الحداثية فيشير الى أن الرواية بعد الحديثة ستتجاوز جدلية الصراع التقليدي القائم بين الواقعية واللاواقعية ، وبين مزدوجة الشكل والمضمون ، أو بين ما يعرف بالأدب الخالص والأدب الموجه .
وعلى الجانب الآخر تحدد كريستين بروك الجهة التي ستنحى اليها الكتابة ما بعد الحداثية ، استنادا الى ما يتوفر من نماذج مصنفة ككتابات ما بعد حداثية ، أو على الأقل مجادلة ضمن هذا التصور ، فترى في تحليلها للمفهوم الأحدث للواقعية السحرية كرافد من روافد الأدب ما بعد الحداثي أن آلية " المحو والكتابة " هي السمة الأهم في الكتابة ما بعد الحداثية ، بمعنى ان يعطي الكاتب لنفسه الحق باعادة تركيب التاريخ بمرونة فائقة ، فيها الكثير من الحذف والتصرف ، الذي غالبا ما يجنح للخيال الجامح ، أو ما ماوراءه ، تغليبا للمتوهم والمتخيل على الواقعي ، أو ما يسميه امبرتو إكو زيارة واعية وضرورية للتاريخ .
وتؤكد كريستين على مفهومها في آلية " المحو والكتابة " من خلال الاستشهاد برواية " مائة عام من العزلة " لغابريل غارثيا ماركيز ، التي يشاطرها الاعجاب فيها جون بارث ويقترحها كنموذج للكتابة ما بعد الحداثية ، بالنظر الى ما تحتويه من العناصر الاسطورية ، والواقعية ، ولفاعلية المحو الذي مارسه ماركيز بوعي يسمح للذات بالاندغام بالتاريخ وتأسيس تاريخ شخصي ، لا يلغي التاريخ العام بل يعززه بوجهة نظر محدّثة تعتمد مقاربة الحقب التاريخية وتكثيفها بجاذبية جمالية هي مزيج من الخيال والواقع . كما يقترح بارث ايضا رواية " كوزميكومكس " لايتالو كالفينو ، باعتبارها عملا أدبيا فانتازيا يجمع بين آليات السرد الايطالي القديم ، وحساسية الذائقة العصرية فيما يشبه الكولاجات ، التي تشكل سمة من سمات الكتابة والتشكيل وكافة الفنون ما بعد الحداثية .
وهذا المفهوم التجميعي الموشى بالخرافة والسحرية والواقعية يتطابق عربيا بشكل كبير مع اجتهادات محمود جنداري الكتابية ، الذي يراه عواد علي في تقديمه لمجموعة " مصاطب الآلهة " مؤسسا لسياق جديد ومتفرد في السرد القصصي " يقوم على مبدأ المغايرة الكلية للسياق السردي المألوف ، فهو يستثمر التاريخ العربي ، والأساطير العراقية القديمة ، ليعيد انتاجها برؤية أيدلوجية خاصة مقتطعا أجزاء منها ليمضي في تركيبها على نحو غرائبي ، ومحاورتها ، وهتك أسرارها ، واستنطاق المسكوت عنه بين سطورها بطريقة سردية يمكن أن نصطلح عليها ، السرد الكولاجي ، حيث يغدو جسد النص لوحة فسيفسائية تتجاوز فيها حقب تاريخية متباينة ، وأحداث تنتمي الى عصور شتى ، وشخصيات متباعدة عن بعضها في الزمان والمكان ، تجمعها نظرة شاملة للتاريخ " .
وبعض تلك الملامح للكتابة ما بعد الحداثية العربية ، التي يرسم قسماتها عواد علي ضمن تجربة محمود جنداري ، يتلمسها عابد خزندار عند رجاء عالم ، فيما يسميه بالاستحواذ ، الذي نراه واضحا وصريحا في استعادات خورخه لويس بورخيس لغرائبيات " الف ليلة وليلة " وهي استحواذات تتشابه مع ما يسميه محمد خضيّر في بحثه " مجرات التأثير " تعاقدا أدبيا في النصوص المتعاقبة ، تنسج بعضها لترتبط بمركز التأثير كأصل وتفارقه كامتداد ، وبالتالي فهي تختلف عن اقتباسات ايفان بونين مثلا ، التي تصل الى مستوى النقل دون معالجة فنية . أما الاستحواذ كما هو مطروح في مفاهيم الكتابة القصصية والروائية الأحدث فهو الذي يقبل على المادة التاريخية ليوّلد منها حدثا ومعنى جديدين ، استنادا الى أصل المادة التاريخية ، بمعنى الانتقال الزماني والمكاني داخل التاريخ وانتقاء حالة يمكن اعادة انتاجها برؤية عصرية .
ونلاحظ هذا التوجه مثلا في تجربة رجاء عالم من خلال قصة " الأصلة " من مجموعتها " نهر الحيوان " حيث نقف على فانتازيا حكائية تعتمد مطابقة التاريخ بنصوص غرائبية ، تنفتح بقوة وثبات على المادة التاريخية كنصوص ، وكجدليات زمانية ومكانية ، حيث تندغم " فاطمة المكية " باسطورة حي بن يقظان اندماجا كليا ، وتنحقن بموحياتها الفلسفية والدلالية ، وهو الأمر الذي نتلمسه في رواية " العاشق والمعشوق " لخيري عبدالجواد ، الجريئة في اعادة تركيب التاريخ وتذويته ، وكذلك في تجربة محمد خضيّر سواء في تنظيراته النقدية كما في كتاب " الحكاية الجديدة " أو في مجموعته القصصية " رؤيا خريف " أو بصورة أوضح وأكثر اقناعا في روايته الأشهر " بصرياثا - صورة مدينة " التي استولد فيها ذاته باستيلاد العمق التاريخي والعصري للبصرة .
وربما يلاحظ على الكتابة القصصية العربية ما بعد الحداثية ، اذا جاز لنا هذا التصنيف كمطابقة للاشتغالات العالمية ، استنادها بالاضافة الى مغامرة اللغة ، على بعدين يكثر التجادل بشأن اسهامهما وحدود فاعليتهما في الكتابة ما بعد الحداثية ، أولهما : حضور الذات كمركزية للعمل الأدبي بقوة وكثافة مهيمنة ، فيما يعتبره ايهاب حسن - روائيا - كتابة معبرة عن وعي الذات ، ونزعتها الثقافية التدميرية المنقطعة عن العالم ، فالكتابة ما بعد الحداثية صريحة التعبير عن الذاتية ، المعبرة بدورها بأشكال معرفية وفنية عن مفهوم المعرفة ذاته ، أي بالمعنى الذي يراه هيجل تطابقا بين التذويت التاريخي للفن ووعي الذات لتاريخها الخاص ، حيث يتحول الخطاب الى فلسفة . وثانيهما بروز التاريخ كعمق روحي وشعوري ممتد بشكل عمودي وأفقي ، وبالتالي كعاصم ثقافي لتلك الذات التي تجد فيه مهربا وجوديا لنزعتها التدميرية والفوضوية وربما المزاجية أيضا ، وهو الأمر الذي يعطي الانطباع بأن تلك الكتابة مشوبة بالكثير من الانكفائية والماضوية ، رغم حساسيتها الذوقية المعاصرة .
وغالبا ما تتمثل الذات ، الراوية منها على وجه الخصوص ضمن الكتابة ما بعد الحداثية بشكل أقرب الى الاتجاه " السيرذاتي " ولكن بدون تقريرية ولا مباشرة ، انما كمفردة شديدة الخصوصية تحت مظلة التاريخ العام ، لدرجة أن مخرجا سينمائيا كفيدريكو فيلليني تصنف أعماله في خانة ما بعد الحداثي ، وهو النهج الذي يسير عليه عربيا يوسف شاهين في سلسلة أعماله التي تستحضر سيرته الذاتية بشكل دائم ، خصوصا عند ملاحظة أن فن القص ما بعد الحداثي شديد الارتباط باللغة السينمائية وهيمنة الصورة عموما ، كما يشير برايان مكهيل .
وبالنسبة للتاريخ تتهم الكتابة ما بعد الحداثية بأنها كتابة لا تاريخية ، خصوصا من قبل التوجهات الماركسية ، لأنها تعلي من شأن الذاتية ، وتبالغ في التعويل على وعي الكاتب ، وتغليب الخيال على الوقائع ، بل تذهب الى حد القطيعة مع الأسس الجمالية القديمة ، وبالتالي تستنب قطيعة ذوقية مع القارى العادي فيما أخذ على كثير من الكتابات المصنفة ككتابات ما بعد حداثية ، مثلها مثل كافة التمثلات الفنية والابداعية الأخرى التي لا تأبه كثيرا لبساطة المتلقي العادي ، لكنها في حقيقة الأمر تقر ببنوة للتاريخ ، وان كانت مشروطة .
وهذا الانحياز الجازم للذاتي في مقابل التاريخي ، تنفيه بعض اتجاهات الكتابة ما بعد الحداثية بصورة قطعية ، محملة المتلقي مسؤلية فشل القراءة ، والكاتب مهمة الوعي بسر الصنعة الفنية ، مع تأكيدها على فاعليتي الاستقبال والتأويل ، وانوجاد النص -كتابة وقراءة - على أكثر من مستوى . وتقترح صيغة واعية شبيهة بآلية " المحو والكتابة " عند كريستين ، لكنها أكثر اصرارا على التدخل في مركبات النص التاريخية ، وتسميها ليندا هاتشيون " القصص التأريخي الشارح " وتضع تحت مظلتها رواية " اسم الوردة " لامبرتكو إكو ، باعتبارها صناعة جديدة ، أو ما بعد حداثية ، للنظرية التاريخية .
وبناء على ذلك التوجه الكتابي كان امبرتو إكو أميل في " اسم الوردة " أميل الى الصياغة التاريخية منه الى صيغة الرواية البوليسية ، فاستبعد العنوان الموحي بالتحري " دير الجريمة " ، والعنوان المحايد " أدسو دوملك " لصالح " اسم الوردة " باعتباره عنوانا مجردا ، وقابلا للتأول ، فالرواية مفتوحة على مساحة تاريخية تحاول من خلال العودة اليه بمداخلات نصية ، لا كحنين ساذج ، اكتشاف مركبات منطقه وصيرورته ، اعتمادا على طريقة عرض جديدة يجيز فيها إكو لنفسه ككاتب أن يرى التاريخ كما تتمثلها الأيدلوجيا ، بمعنى أن ذلك " القصص التاريخي الشارح " كما تسميه هاتشيون يشارك روائيا في التساؤل المعاصر عن طبيعة العرض في تدوين التاريخ ، فالتاريخ ذاته حكاية مسرودة روائيا ، ومعروضة على شكل وقائع ، تقوم الكتابة ما بعد الحداثية بمهمات تفكيكها كعرض ، يقبل اعادة الكتابة والقراءة بكيفيات وفي حالات شعورية ومعرفية مختلفة .
وتقوم الكتابة ما بعد الحداثية ايضا بمهمة فنية أخرى وهي تدمير تقاليد وأواليات العرض الروي الخطي القائم على الوحدة والترابط المنطقي والتقابل والعقدة بتعبير جيرالد غراف ، واستبداله بنظام عرض روائي مخالف يقوم على تمجيد الخبرات الذاتية والانصراف عن الاعتيادات المجتمعية ، فيما يسميه جاكوبسن بالأسلبة ، وربما لهذا السبب يرجع ايهاب حسن سر عدم شعبية الرواية الحداثية وما بعدها ، فهي رواية تنتخب قارئها وتستفرد به ، ولكن لا بد من ملاحظة أن ذلك الخيار النوعي لا يقسر الموروث ، انما يقوم على تفعيل وعي الانسان الجديد ، والاطلالة على التاريخ الانساني من منظور أكثر احساسا ووعيا لتحويل تلك الآثار المنقضية الى وقائع ومفهومات مروية .
وفي هذا الصدد يشير محمود جنداري في محاضرة له بعنوان " الأسطورة والنص القصصي الحديث " الى رحلته الكتابية المضنية في البحث عن " متكئات متينة ، ورصينة ، وغير مألوفة ، أو غير مستنفذة ، وبحدود الأطر القصصية المرنة والعامة ، معلوماتية ، أو تاريخية ، تتعلق بتطور الشكل " . كما يشير نقديا الى انه " مع تنوع الانساق السردية ، والمنتظمة والعرضية فان القراءة النقدية لتلك النصوص تكشف انها استبدلت الكثير من طرائق اتصالها بتأريخها الشخصي ، وانفردت عن طريق القول الأخرى عند أغلب الأجناس الأدبية ، وخاصة تلك الطرق التقليدية أو المحافظة " .
وهذه التقنية الكتابية هي تماما ما حاول أن يجسده جنكيز ايتماتوف في روايته " غيمة جنكيز خان البيضاء " من خلال ملاصقة حكاية موروثة من الذاكرة الشعبية عن جنكيز خان ، مع حكاية كوطيبابف الذي حارب النازيين . كما اجتهد ديفيد معلوف لتحقيقها في روايته " حياة متخيلة - أوفيد في المنفى " فقد تحدث عن روايته التي صار فيها غياب الوقائع عن حياة أوفيد نافعا بالنسبة لمعلوف باعتباره الشخصية المركزية لحكايته ، فقد سمح له بحرية الابتداع الطليق ، وما أراده ليس كتابة رواية تاريخية ، ولا سيرة ، بل قصة تمد جذورها في الحدث الممكن . اما بالنسبة لأوفيد فقد كان نزوعه الى الشك موازنا بحب الخرافي والمتجاوز ، وهذه الميزة الحديثة ، هي ما حاول اعادة خلقه ، على حد قوله .
وهنا نلاحظ أن اسلوب الكتابة ما بعد الحداثي ، يؤكد على أهمية المادة التاريخية ، وتفكيكها من منظور وعي ذاتي ، وبلغة مرآتية هي المصدر للمعرفة الموجبة للمتعة المنبعثة من المدى الممتد لاحتمالية النص التأويلية ، حسب امبرتو إكو ، وبما تعكس فخامة الشعور والوعي ، كما يعمل أيضا من الناحية الفنية على تشييد اسلوبية جديدة تقتلع كل أثر لأسلوب الروي الخطي الذي أدانه غراف ، لما فيه من الوعظية والإخبارية ، وهو الأمر الذي أراده محمود جنداري في تصميماته الفنية التي اعتمدها في نصوصه معللا ميلها الواضح " الى استبعاد وازاحة كل ما يوحي بأن شيئا مركزيا ، حدثا ، أو ثيمة ، يطغى على بقية الجوانب " .
كما أكد جنداري أيضا على عدم ادخال اسلوب الكتابة الأحدث في حالة صراع أو ازاحة بين الأجناس الأدبية ، فكان يجتهد لمجانسة تلك الألوان الابداعية للوصول بنصوصه الى حالة مقنعة من الكتابة التي يعتبرها حديثة حيث " لم يكن لتلك النصوص وظيفة شعرية ، كما ليس لها هدف تخريبي ، أو تشكيكي يسعى للنيل من بقية الأجناس الأدبية ، ولكنها استخدمت بشكل مجيد ، وبطريقة فظة امكانات الشعر ، والخطابة ، والملحمة ، والحس التفاؤلي ، والوعي الشديد بالتأريخ لتدعيم مساعيها ، واغناء مسيرتها لتكون بحق نصوصا قصصية حديثة " .
واذا كان لكل حالة حداثية ، مرحلة حداثة ، وما بعد حداثة ، بمفهوم امبرتو إكو ، فالبتأكيد لكل حالة حداثية جذور ، قد يساء توظيفها بناء على قصور الوعي بها ، لدرجة أن إكو ذاته لاحظ ، بشيء من الأسف ، أن هناك من يحاول أن يستخدمها معياريا بأثر رجعي ، ويصل بها الى محطات موغلة في تاريخ الكتابة تذهب الى اعتبار كتّاب ينتمون زمنيا الى مرحلة ما قبل الميلاد كرموز للكتابة ما بعد الحداثية ، ولكن هناك من يؤكد على وجود قطيعة ، مفهومية وجمالية أيضا بين أدب “ ما بعد الحداثة “ ، وما قبله ،كجون بارث ، فالحداثة كآخر مرحلة تسبق " ما بعد الحداثة " تجهد لتبديد الماضي والاعراض عنه باعتباره نكوصا وحنينا انسانيا ساذجا ، أو تاريخا أقرب الى الحكاية التي ينبغي الفرار من سذاجتها ، فيما تصر مرحلة " ما بعد الحداثة " على العودة الى ذلك التاريخ والانسجام معه عضويا ، لا لتعيد الحياة لبعض جوانبه ، انما لتتفحص قسماته بحس اكتشافي ، يذهب بالذات الانسانية الى ما وراء ذلك التاريخ .
ومن هنا يرى جون بارث ان مرحلة " ما بعد الحداثة " شديدة الاصرار على ابراز الحس الاغترابي للذات المبدعة ، وعلى نسف أي مبرر للروح العقلانية ، على عكس أدباء المراحل السابقة ، والأهم أن الكاتب ما بعد الحداثي يبالغ كثيرا في التعويل على اللغة على حساب المضمون ، فما يهمه هو طريقة الكتابة ، لا الكتابة ذاتها أو المضامين ، بمعنى تطوير تقنية الكتابة كعرض جديد لنظرية التاريخ ، حسب امبرتو إكو ، تضطلع فيه حتى بنية العبارة بتجديدات لفظية وشعورية مغايرة ، وذات مرجعيات فكرية وشعورية متحولة ، ولذلك وضعت " ما بعد الحداثة " أدواتها في مقابل النماذج التي تعاني من الثبات التكويني ، احتفاء بجاذبيات التشظي وديناميكية التعبير القائم على التبدلات الدائمة ، التي تجعل من الحياة تقليدا للفن ، ومن الفن حالة من الحياة لا صورة عنه .
والكتابة القصصية ما بعد الحداثية لا تبدأ بتلك الخطوط العريضة ، ولا تنتهي عندها بالتأكيد ، فهي نزعة أدبية مراهنة على الحراك وزعزعة الثوابت الجمالية والمنطقية ، وهذه العناوين مجرد مداخل فنية تتقاطع كثيرا مع منهجيات وأنماط ابداعية أقدم ، انما المهم هو الكيفية أو الطريقة التي يعبر بها الكاتب ما بعد الحداثي عن نياته ، اذ لا بد أن يكون على وعي تام بنسيج الكتابة الداخلي وتعقيداتها كمعلومات وأحاسيس ، فيما لا يمكن أن يرى أو يتلمس بسهوله وتقليدية الأدوات .
ومن هنا تبرز اشكالية تصنيف الأسماء والأعمال الأدبية المؤهلة لتمثيل تيار قصص " ما بعد الحداثة " حيث تكثر الأسماء والأعمال التي تحمل سمات من تلك الكتابة لكنها قد لا تمثل التيار بتطرفه الجمالي ، فالتقاط خطوط التوازي بين ما هو عصري وما هو ماضوي ، ثم تنصيصها قصصيا ، مهمة ليست يسيرة ، وموضعة الذات في النسيج المكتوب مسألة ليست اعتباطية ، فعملية المحو اذا لم تتم بروح فنية أصيلة ، طالما أكد عليها بودلير ، تعي مساراتها الارتجاعية داخل التاريخ ، وتتخفف بشفافية من النرجسية الفارغة ،، فقد تمسح التاريخ العام لصالح التاريخ الشخصي ، وهو الأمر الذي يؤدي بالعمل الفني الى الاختلال ، وينأى به ليس عن آفاق “ ما بعد الحداثة “ بل وعن العملية الابداعية عموما ، فالسرد ما بعد الحداثي يؤسس لما تسميه البنيوية " تطابق الألسن " أي تكثيف الرؤية ودمج مركبات الصوت المختلفة ، وليس الاستئثار بحساسية الذات المبدعة .
ولنلاحظ مثلا صعوبة ودقة المهمة في رواية “ العطر “ المصنفة ككتابة ما بعد حداثية ، المستندة على ثيمة متوارية ، او متناهية الصغر من " الف ليلة وليلة " والصادرة ترجمتها مؤخرا في طبعة ثانية عن دار المدى ، حيث جسد مؤلفها باتريك سوسكند ، بكفاءة شعورية ومفهومية عرضا تاريخيا واجتماعيا لحقبة من تاريخ فرنسا بموازاة التاريخ الشمي أو انطلاقا من موحياته ، وصولا الى ما يعرف قصصيا بايقاع اللحظة ، المستند أصلا على حساسية تتلمس تناقضات الواقع وما وراء تمظهرات الثقافة ، وتقوم فيه حاسة الشم بدور الوسيط ، أو السارد التاريخي ممثلة في بطل الرواية جان بابتست غرنوي .
وكان امبرتو إكو قد استحضر مناخ العصور الوسطى بعبقرية كتابية في روايته " اسم الوردة " التي دامج فيها مركبات زمانية ومكانية وعلمية وشعورية متباينة ، ليصل بروايته الى مزيج حسي مدهش كان نتيجة جهد مكثف ومركز من القراءات المتتابعة والمعمقة لوقائع معرفية وذوقية من القرون الوسطى لاستخلاص ايقاع تلك اللحظة التاريخية ، متحررا من كل شيء ، ولكن ليس من أصداء التنصيص ، فلم تكن نيته الكلام عن القرون الوسطى ، حسب قوله ، انما " الكلام في داخل القرون الوسطى ، وبلسان مدوّن حوادث من تلك الحقبة " .
ونتيجة اقتراب إكو من تلك المتاهات الحسية والمعرفية ، ودخوله الواعي والجريء في علاقة عضوية مع مكونات نصه التاريخية والاجتماعية والشعورية ، ومصادمة خبراته ، التي يرجع اليها ككاتب مقومات الابداع بما يسميه صراع العلل ، توقف عن الكتابة لسنة كاملة ، فقد اكتشف أمرا آخر ، يعرفه مسبقا ، انما أكد عليه ، أو أدركه بشكل أفضل حسب قوله “ فالرواية ليست لها علاقة ، للوهلة الأولى ، مع الكلمات ، فكتابة رواية هو أمر كوني " .