رازي زمانه .. أحب الحقيقة حتى صارت أغنيته
محمد أركون علامة ثقافية مثيرة للجدل ، تصلح لأن تكون صيغة اختبارية للذهنية الأفقية في تلقيها للمنتجات الفكرية الصادمة ، إذ يؤسس بروح منجزه السجالية جبهتين متعارضتين ، أحداهما تتلمس أفكاره براهنية حس حداثي ( هدمي/ بنائي ) فتؤيدة حد الانتماء والعصبوية أحيانا، وأخرى تقارب منتجه بمعيارية ماضوية ، مغلولة لعادات قرائية ، لا تمل من شد نصوصه على كرسي الاعتراف ، لتقويلها ، أو تأويلها بشكل استخدامي في أحسن الأحوال، وتستبسل لإمحائه من خارطة التفكير العربي الاسلامي المعاصر ، لدرجة يبدو فيها التلفظ باسمه بدعة ، والجهر به جريمة. إذا ، هو بهذا المعنى الاختلافي " آخر " بالنسبة للثقافة العربية الاسلامية ، منشق على ثقافة امتثالية . أما حضوره الفارد بهذه الصيغة الحادة فلا يتأتى من وفرة انتاجه الكمي ، حيث تنطبع بصمته الفطنة على كل قضية سجالية تأجل فيها الحسم عربيا وإسلاميا، ولا لفرادة منتجه النوعي وحسب ، انما بالتحديد ، نتيجة اشتغاله على " النص " فهو عند المريدين بمثابة فاتح ضروري ومطلوب لإطلاق طاقته الهاجعة، وملعون بكل ما تعنيه الكلمة من تأثيم عند الفريق الآخر المتمترس بقدسية النص. أدونيس المتحمس على الدوام الى الأسماء الجدلية المتمردة على سكونية التراث أعلن بمنتهى التأييد والوضوح بأن ما يكتبه حول النصوص الأولى " هو أعمق ما يكتب الآن " . ومؤاخيه في محنة التكفير والتأثيم نصر حامد أبو زيد رفعه الى رتبة الثوريين المحركين للعقول من خلال اصراره الدائم على " التحدي والدخول الى المناطق المحرمة ، مناطق اللا مفكر فيه " ، أما أهميته بالنسبة لمحيي الدين اللاذقاني فلأنه باحث دؤوب عن الجوانب الانسانية في تراثنا ، يفتح باشتغاله على ثيمة الأنسنة " الوجه الآخر المطموس والمخفي لاسباب سلطوية وفئوية، وعقائدية وطائفية متشنجة ". وبالنظر الى جدية طرحه ، وكثافة حضوره الجدلي أعتبره ناصر الغيلاني " صاحب واحد من أهم المشاريع الفكرية والمعرفية التي فتحت آفاقا واسعة للفكر العربي الاسلامي عبر تطبيقاتها لمنجزات العلوم الانسانية الحديثة " فيما صنّفه عبدالعظيم المشيخص ممثلا لمدرسة " أخذت عهدا على نفسها لتدمير آخر قلاع الميتافيزيقيا على المنوال الدريدي لأنه بدون ذلك سوف لن تنفتح الآفاق أمام النص" داعيا الى تقصيه في ضوء التحليل التفكيكي الدريدي. هذا هو أركون ، كما يراه ويتمناه بعض مشايعيه ، أما بالنسبة للمتوجسين من نقديته النبشية الحادة فهو " رازي زمانه " كما يصمه أعداؤه تهكما ، ويصفونه بالمطرود من بلاده ، فهو بالنسبة لهم أحد " الآرائيين " أصحاب البدع بالنظر الى محاولاته المتطرفة الدائبة لابتداع أصول فقه جديد لفهم النص ، فهو وفق مقروئية عوض القرني " تأويلي مدمر للتراث " ويوافقه على هذا الرأي أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ، إذ يراه " أحد المضللين ، وصاحب فكر استفزازي كثير المغالطة ". ومن منظور محمد عمراني ليس سوى " صنم من أصنام المشاريع وثقافة الذباب " وبالنسبة لعبدالسلام بسيوني هو أحد " أساتذة الاستعلاء والتنصل والنخب الأليطة ، وأحد مدمني العبارات اللزجة " وباستنتاج عبدالحليم عويس الذي يمارس عليه آلية طرد عنفية ، وغير محببة على الاطلاق ، لا يعدو كونه أحد المتمّسحين بالاسلام ، أو مجرد متدثر بعتباته لتحقيق أغراض شخصية ، وهكذا يمكن تسجيل عشرات الآراء الهجائية التي لا تتقاطع مع منجزه الحيوي الا بالشتائم والتكفير والتعهير، التي تؤكد مجتمعة على خطورة المكمن الذي حاول الحفر في تكلساته والتصدي لعلاته المزمنة، انطلاقا من مهمة نقد وتحرير العقل الاسلامي. ذلك الطابور الطويل من الخائفين على " بيضة الاسلام " يستكمل بآراء تبدو في ظاهرها عقلانية، فيما تستبطن في مجرياتها الباطنية محاولة لإخضاع أفكاره الى ملاحظات شكلانية أحيانا ، قوامها التشكيك في نواياه وتطال حتى ضمائرية منهجياته ، فيما ينم بوضوح عن الذهنية التي تستقبل نقدياته ، فجميل قاسم الذي يعتبره أحد المهمومين بالتحديث الديني من خلال اصراره على " ادراج الدين في الحداثة وادراج الحداثة في الدين " يتفق معه على ضرورة " نقد العقل الاسلامي " بغية اكتشاف المناطق اللامعقولة ، أي اللا مفكر فيه ، الا انه يختلف معه في موقفه من علاقة اللغة بالفكر ، فهذه الرؤية القاصرة عنده ، برأيه ، تودي الى نية عصبوية تتعارض مع مجمل دعوته الانسانية والعلمية. وحتى بالنسبة للتنويري رضوان السيد ، يمثل المفكر أركون باقتحامه محميات اللامفكر فيه ، أكبر خطر يهدد الفكر الاسلامي المعاصر بمحاولته إعادة " قراءة النص من أجل تخريبه " حسب تصوره ، لأنه لا يرى امكانية للنهوض العربي الاسلامي الا بالطريقة التي تقدم بها الغرب ، حيث يرجع سر تطوره الى فراره من قدسية النصوص ، فيما يتوجس زكي الميلاد من صرامته الشديدة والجذرية في التعامل مع النص الاسلامي ، ويأخذ عليه " الافراط الشديد في استخدام المفاهيم والمصطلحات التي تنسب الى الفكر الأوروبي والمغالاة في تطبيق منهجيات الألسنيات والعلوم الانسانية الاجتماعية والتقليل من شأن منهجيات الفقه واللغة والتفسير ". هكذا تستقبل ذهنية الثنائيات ( أما .. أو ) اجتهاداته المغايرة في التفكير، فالثقافة العربية الاسلامية باحترازاتها الآخذة في التفاقم تتطفل على منجزه الفكري الإستثنائي ، تمتصه كالأسفنجة العطشى ، وتبني مبررات عطالتها على تعالياته ، وتستثمر طاقته وفطنته الى أقصى حد ، ثم تلعن الذات المنتجة له ، فيما تكتفي الفئة المناصرة لك بالتصفيق دون أن تستكمل مشروعه بحوارية ، تنهض بتصعيد طروحاته ككائنات بيولوجية قابلة للنماء ، ولو في بؤرة اختلاف على حد الحافة بالحافة ، وربما تحتاج هذه الثقافة المحترزة على الدوام ، الى عين ثالثة لتنجز مقروئية مقنعة لقامة متمادية تأويليا بحجمه ونواياه. إذا ، لقد شطح هذا " الأركون " الداعي الى العلمنة باعتبارها " إحدى مكتسبات وفتوح الروح البشرية " ليردفها بمفهوم الحرية المفترض انجاز قفزتها الانسانية الهائلة بواسطة الروح ، التي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة ، حسب تصوره . كما تطاول بنواياه ، بما يكفي لاستفزاز أمصال ومضادات الثقافة العربية الاسلامية ، فقد فكر - متماديا - حتى في " تفكيك المصحف " أي " الوحي القرآني " الذي سماه أدونيس " النص الأول " الأمر الذي استنكره جميل قاسم فهذا المنحى النقدي المتطرف ، بمعيارية الذهن الحلقوي الذي لا يمل من المراوحة في سكونية القضايا واستعادتها دون حسم، يجعل من " الكلمة الالهية " باعتقاده ، نصا عاديا بعد لحظته الأولى ، ويكون " عرضة للقراءة التفسيرية والتأويلية المختلفة والمتعددة " وملكا للقارئ ، وهو ما يجعل " كلام الله " برأيه ، مجرد عقائد مؤطرة في مذاهب وفرق وملل ونحل. أتراه – أي أركون - محبطا من ذلك الاستقبال الشتائمي اللاحواري لمنجزه !؟ لا يبدو الأمر كذلك ، فخطابه لا يتحشرج بغصة أسى الخائب ، فما زال يمتهن التفكير في اللا مفكر فيه ، وأظنه على دراية تامة بحقيقة ما سماه " السياج الدوغمائي المغلق الذي يشكل خطا أحمر في الفكر والقول " وإن أبدى بعض التململ أحيانا ، وربما لذات السبب سجل عليك السيد ولد أباه قوله ان فكره لن يفهم قبل خمسين سنة على الأقل ، بالنظر الى ضآلة التجاوب مع مشروعه الطموح ، وأخذ عليه هذا الحكم المتعسف والنرجسي ، ولكن كيف لا يتشنج حتى القارئ المحايد عندما يطالع قراءة حمدان العاص لكتابه " نزعة الأنسنة في الفكر العربي " حيث يتهمه بالتقعر، واستزراع عنوان دخيل ، والإيحاء بالتبشير لأنسنة مجوسية لا عربية ، تعويضا لانتمائه العرقي القاصر هو ومترجمه هاشم صالح وكمال أبوديب وجورج طرابيشي ، وقسطنطين زريق الى أقليات مخنوقة تحت وطأة التهميش والحيف التاريخي، فيما يعتبره وصمة عرقية تستوجب الرد المتعالي في خطابه، لتعويض ما لا يقال سياسيا. أركون الذي يستشعر على الدوام - كمغترب - مسؤولية شخصية للإجابة على سؤال النهضة والتحديث ، لطالما أزيح قسرا عن مشروعه بالقراءت الاستفزازية الضالة، فقد أستدرج الى التباسات الاستشراق ، ولا حضارية الصراع العربي الصهيوني ، واعتراكات الأقليات الطائفية والعرقية ، واحتدامات الهوية المغاربية الملتبسة في تأسيسها على مقوم اللغة العربية ، لينفى عن مكمنه الألذ والأهم جدليا وهو " النص " الذي ينبش به وفيه سبب ضمور الفكر العقلاني في الساحة الاسلامية ، ويحاول جاهدا ومخلصا التأسيس لحس " الأنسنة " أو تأصيله ، فهو يحفر بالفعل في العتمة عما هو موجود وأصيل ، ولا يبحث – عبثا - عن شيء مضيع في بهرجة الضوء. ربما ، لهذا السبب ، نريده هنا - أي في النص – لا في الهوامش ، وأظنه لن يتوب عن هذه المهمة الجليلة ، أي التفكير فيما لم يفكر فيه ، وقراءة أصلانية النص كرؤيا للتاريخ والأفكار وليس مجرد مفردات ، فهذه هي الحقيقة التي أدمن البحث عنها حتى صارت أغنيته ، بل سيدعو ، كما عهدناه ، إلى احياء الموقف الفكري الدينامي المتفتح للمفكرين القدماء ، وسيلح في الوقت ذاته على " ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم واشكالياتهم ونظرتهم الى العالم والتاريخ والمجتمع والانسان " فهو ابن لحظته، ونتاج حداثة تقوم على ذات تستشعر حضورها بحدة على خط الزمن.
|