اميركانيزم ثقافي

المعنى الرمزي لحدث الحادي عشر من سبتمبر لم يؤسس مفهوما جديدا للثقافة، بقدر ما كان تأكيدا على أن ثقافة العصر أميركية الملامح، استنادا إلى جملة من إشارات العولمة، ودلالات القوة المبثوثة بواسطة شبكة ميديا قراطية، تديره المؤسسة على أوسع نطاق، عبر تنظيم ثقافي معقد كان هو سلاحها السري إبان الحرب الباردة لتأميم الصوت الثقافي العالمي.


 


هذه الحتمية الثقافية منغرسة بعمق في الوجدان الأمريكي بما يشبه العقيدة، بالنظر إلى التلازم البنيوي الذي تتقصده المؤسسة لتوأمة السياسي بالثقافي، فمقولة " من ليس معنا فهو ضدنا " التي أعلنها جورج بوش بعد زلزال البرجين لها من الدلالات الثقافية ما يفوق معانيها السياسية، وتدمير المعنى الرمزي الأميركي حتّم شيئا من التهدم في المعنى الثقافي، وهو ما بدى في الإستخفاف الأمريكي بكل ما تعاهد عليه العالم الحديث حقوقيا واقتصاديا وسياسيا.


 


بهذا تقود أميركا العالم، في عصر يقر بالأهمية الفائقة للصناعات الثقافية، ويحتم شيئا من التوجيه الإستراتيجي لمفهوم ومعنى ووظائفية الثقافة، وهو ما أوحى باستثمار نرجسية الجرح الإمبراطوري في رسم خرائط خغراسية تتناسب مع إرادات الهيمنة، حيث تتم عمليات معقدة لإعادة ابتكار الحياة الإجتماعية، بتخليق وسائط فاعلة بين الثقافة والإقتصاد والسياسة، فأميركا لا تعي أثر المثقف في ترسيم ملامح العالم الجديد وحسب، بل تجيد توظيف أهميته المطردة، وبصيغة استخدامية يتم فيها فصل الأداة عن المعنى الثقافي.


 


هكذا يتم تدجين الثقافات المضادة، بمخطط يفوق مكر المكارثية فالمطلوب اليوم طرازات ثقافية تتجاوز إعادة تكييف الفرد والمجتمع لتستخدم كسياق عابر للثقافات تحقيقا لمطامح الإمبراطورية، وكأن الواقع يفضح خبيئة الإنفصام في خطاب المؤسسة وممارساتها، ويعود التاريخ إلى اللحظة التي تحررت فيها الولايات المتحدة من تبعيتها الإستعمارية، ليجيب على سر تأخرها عن انتاج جيل من المثقفين يتناسب مع تطورها الصناعي المذهل، ويفسر نهمها اليوم للإستحواذ الثقافي، فرغم أنها نهضت بمبادئ الحرية والعدالة والتسامح الديني، وليس على الدوغما، إلا أن المثقف الأمريكي أخذ طريقته في التفكير عبر الرحم الأوروبي قبل أن يعلن رالف والدو أمرسون دعوته الصريحة للإنفصال عن المرجعية الأوروبية، ووضع اللبنة الأولى للأميركانزم بصيغته التحررية وليست الفاشية كما تبدو اليوم، حيث ابتناه بروح نقدية كانت بمثابة الإعلان عن الإستقلال.


 


ولأن كل الثورات تدير ظهرها للديمقراطية، فعلت أميركا الشيء ذاته اثر تعرضها للإعتداء وتكريس كل طاقاتها لقيادة العالم، لكن ذلك التجمع البشري الذي يحتوي طاقة من الجمال والعقلانية والديمقراطية، انقلب على مفاهيمه التأسيسية لتحقيق " المصلحة الحيوية العليا " بما هي الأس الذي تقوم عليه الحياة والسياسة الأمريكية، فهذا الكيان الذي ابتنى طموحاته بالثورة، وعاشها كحداثة إنقطاعية عن القديم، رافضا كل أشكال التسوية مع الخرافة واللاهوت، عاد إلى " قلب الظلام " برأي ادوارد سعيد، ودخل في حالة من صدام الجهالات، بما يعني افتضاح أكذوبة " البوتقة الصاهرة " وتعطيل نظريات ما بعد الحداثة التي تقر بالإختلاف والتنوع الثقافي كشرط لتحديد دينامية معنى الثقافة.


 


وبتصور المثقف المعولم، لم يعد التغيير خارج التصور الأميركي سوى فكرة ارتكاسية متولدة من أوهام الفقر والأيدلوجيا، وباتت مفردة " الثورة " قرينة للإرهاب،  إذ تحمل من المعاني السلبية أكثر مما تتضمن من الدلالات الإجتماعية الإيجابية، فكل نزعة معادية لأميركا هي شكل من أشكال الحماقة الأيدلوجية، بما يعني إدخال المعنى الثقافي في علاقة ملتبسة مع الأداة والممارسة، حيث تم تسويغ الحرب، وابتكار أضاليل  " محور الشر " و " الحرب العادلة " من خلال طابور طويل من المثقفين المستدمجين في المؤسسة، المبشرين بأميركا أخرى مسالمة منذورة لخلاص العالم.


 


تحدث تلك المبايعة الثقافية رغم أن ضمير أميركا الثقافي لا زال منفصما ما بين وطنية انكفائية ورغبة استبدادية في التمدد الامبراطوري ولعب دور بوليس العالم، تحت مظلة ثقافية هي مزيج من النزعة المادية وارتكاسات الحس الديني الخلاصي المتجذر في الوعي الشعبي، وعليه صارت " جمهورية النظرية " تصدر أوهامها التي تحكم مفاصل الحياة الثقافية كنهاية التاريخ، وصدام الحضارات، والدولة المارقة، والاحتواء المزدوج، والضربات الإستباقية، والنظام العالمي الجديد، ولذلك لم يكن من المستغرب أن يصادق مثقفو أميركا على أدبيات المؤسسة تسويغا للحرب في بيانهم " رسالة من أميركا، مبررات المعركة ".


 


أمام كل ذلك الطيش الامبراطوري تشير الدلائل إلى ضرورة وصعوبة تشكل جبهة ثقافية قادرة على مجابهة هذا النظام وتداعياته الثقافية، بالنظر إلى قدرته على مصادرة الحقول الثقافية كالمنابر الأكاديمية والإعلامية ومؤسسات البحث العلمي وحتى قنوات الثقافة الشعبية، واستيعاب النخب الثقافية، وإعادة انتاجها في صيغ مموهة لمثقف عضوي، لا يحمل من مقترحات غرامشي إلا العنوان، فهذا هو النمط الثقافي الإستشاري المنتج في مختبرات المؤسسة، كعنوان للمرحلة فهو يجيد فن الإرتقاء بالكذب الثقافي.


 


عودة للرئيسة