كبسولات

فيما تستمر مظاهر العسكرة المحتمة بالضرورات الأمنية في حياتنا اليومية ، يستمر الحديث عن تفجيرات الحادي عشر من ربيع الأول بحثا في الأسباب ، وتحليلا للنتائج ، وتوصيفا للعلاج ، فبعد أن تبين خطر هذا النمط من التفكير وما يولّده من فئات متطرفة مؤكدة بأقسى الطرق العنفية على حقها في الوجود وإلغاء " الآخر " بكل أطيافه ، وارتباطها الأكيد بحركة أممية التوجه ، سقطت نظرية " التغرير " دون حاجة إلى سجالات عقيمة ، ولم يعد بالإمكان التمسك بوهم أو أكذوبة الخصوصية بمعانيها الإجتماعية أو الثقافية أو التاريخية أو حتى الحقوقية لإنسان هذا الوطن ، وهكذا قفز الجدال إلى حق مواطنة تذوب ضمنها ، أو بمعنى أدق ترفدها كل التباينات القبلية والمذهبية والطبقية، فالأحداث الكبيرة لا تدّمر الأوهام وحسب بل الرموز والنظريات ، بما هي الإختبار الحقيقي للإعتقادات.


 


وبات في حكم المؤكد أن كبسولات " طاش ما طاش " لم تعد مجدية لمواجهة هذا العنف اللانمطي ، إذ لم يكن ذلك المسلسل أكثر من خطاب إعلامي تربوي بائت ، أريد له أن يعمل كمخدر مدّر للتغابي والهلوسة ، ولا يتناسب بحال مع ورم يستشري بوحشية وصفته " نوفل أوبسرفاتور " بمملكة تحت الأرض في المملكة " ترسم خارطتها الجيوسياسية والديمغرافية غابة من اللحى القادمة من لحظة تاريخية آفلة ، مشروعها وأداتها ليس الموت بمعناه القدري ، بل القتل بما هو حاجة وضرورة إنسانية أشبه بتنظيرات المستقبليين التي أسست للفاشية .


 


هكذا يبدو ذلك المشهد المدبر ، فالخطر الذي تنامى برعاية مدروسة ، وليس في غفلة كما يعتقد ، وجد ضالته في خراب تنموي أشمل ، وما ظهر منه حتى الآن ليس سوى رأس أبيض لجبل مطمور بأوحال قاتمة تحت الأرض ، ولذلك فهو أكبر من أن يعالج بوصفه وعظية يبثها رجل دين من على دكة منبر ، ولا باستتابة فئة من المغرر بهم بمداهمات فرق أمنية لا تجيد سوى تفتيش المساكن والضمائر ، ولا بصولات إعلامية توعوية لا يتعدى مفعولها حملات التوعية المرورية.


 


المسألة أكبر من كل هذه المضادات الكلاسيكية فلا بد أولا من تسمية هذا الوباء . أهو مشروع !؟ أم أداة موظّفة بيد قوى متنفذة !؟ أم هو مجرد ردة فعل يائسة على لحظة الهبوط الحضاري للأمة !؟ فهؤلاء بتصور جيرولد بوست ، مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي في وكالة الاستخبارات الأمريكية ، ليسوا مجرد مجانين يائسين أو مهزومين نفسيا ، ولا ينبغي النظر الى فعلتهم من منظور التعصب والمرض النفسي وحسب ، فهم في مجتمعاتهم ، برأيه ، نماذج للسلوك المثالي . أجل ، ولا زال هنالك من يشيد ببطولاتهم ، ويؤمل في قرارة نفسه بأن تعاد الكرة بشكل أكثر دموية.


 


إذا ، لا بد من تسمية هذا الذي يحدث الآن . أجل ، لا بد من تأطيره بعنوان حتى يمكن التعاطي معه بجدية ، فتسمية الشيء تعني الدراية به ، والإلمام بسر نشأته وراهنه ، وما يمكن أن يكونه ، وبالتالي الطريقة المثلى لمجابهته ، فهذا الخطر أكبر من مسمى التطرف ، وأخطر من مفهوم " الإرهاب " كما يتداول في أدبيات البروباغندا السياسية الأمريكية . إنه عنف لا نمطي ، ولا بد من مواجهته بخبرات إنسانية شاملة وغير اعتيادية ، وليس بردود أفعال أمنية واجتماعية وثقافية منفصلة عن بعضها.


 


ومن الخطأ ، كما كان يحدث سابقا ، الإلتفاف عليه بخطة عابرة ، أو التورط في نوبة زار وطنية كما يحدث الآن عبر مقالات تبالغ في إعلاء نبرة التحدي فيما تواري عورات هذه المنظومة الشرسة تحت ذريعة الحفاظ على الدين والقيم والخصوصية ، وكل تلك المتوالية من " أكذوبة التطرف " الموظفّة كخطافة لترهيب الآخرين ، وإبعادهم عن المشاركة في فعل التنمية ، وبالتالي تعطيل ، بل  إفشال كل محاولة للتقدم إلى الأمام ، فهذا النمط من التفكير لا يؤمن لا بالعلم ولا بالمعرفة ، ولا بالفنون ، حتى المدرسة عندما اضطر للقبول بها كأمر واقع حولها إلى " مسجد ضرار " . وبما له من قدرة على التلون استطاع الحضور بوجوه مختلفة ، وإلا ما معنى أن يعلن ما يعرف بتيار الإعتدال والوسطية بأنه لن يسمح لليبراليين باغتنام هذه الفرصة للهجوم على مبادئه من خلال عقد حلف جديد مع النظام السياسي ، وكأن المعركة هي بين تيارين متناقضين ، بدت ملامحها في التشفي الصريح بأقالة رئيس تحرير جريدة الوطن جمال خاشقي ، لننسى ربما ، أهمية التصدي للتطرف بما هو فكرة وواقع ومخطط استرتيجي.


 


ومنذ أن تمادى هذا التيار في الإستحواذ على مقدرات الحياة اليومية للناس ، بدأ الحديث عن مخططات لتغيير خريطة المنطقة ، وواقع ناسها ، وسيستمر الحديث حتى يصبح واقعا ، فهنالك حديث الآن يتجاوز فكرة تقسيم الوطن إلى ما هو أخطر ، وفي المختبرات الدولية سيناريوهات على درجة من الغرابة والخطورة الآن ، ولا يمكن تصور حدوثها ، أو بالأحرى إمكانية تنفيذها ، إلا إذا استمرت هذه الفئة في تصدر واجهة الحياة العربية الاسلامية ، فالغربيون أخذوا يحذرون من استشراء ظاهرة تجدد الحضور الدعوي لتلاميذ " كالفن الرمال " أي الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، حيث باتوا يشبهونه بالمصلح جون كالفن الذي ساند مارتن لوثر في ظهور البروتستانتية ، كما وضعوا أعينهم على فائض رأس المال الخليجي الذي تكدس في بنوك الغرب إثر الطفرة النفطية ، والذي لم يعد  يستثمر، حسب الدعاوى الغربية، في التنمية والترويج للديمقراطية بقدر ما يستنفذ أغراضه في الإرهاب ، وبالتأكيد ستشهد أروقة المحاكم الأمريكية ودهاليزها محاكمات وابتزازات لرأس المال الخليجي.


 


وعما حدث في الرياض قيل وسيقال الكثير ، عن أهمية تجفيف المصادر المالية للارهاب ، وضرورة رفع الغطاء الشرعي عنه ، وعن دعوات لتغيير المناهج ، وترشيد الصحوة ، وربما تورطنا في لعبة لغوية يراد بها فك الالتباس بين مفهومي الديمقراطية والشورى ، وها هو الجدال يدور حول الاستفادة من خيارات التجربة الأمنية المصرية أو التونسية أو حتى الإسرائيلية لمواجهة هذا الشكل من التطرف ، رغم وجود سوابق في التاريخ العربي الاسلامي تحت مسمى " الفتن " لم تستأصل من جذورها لاعتمادها على مجابهات دامية ، ونتيجة لعدم الإهتداء الى المختبر الفكري الذي أنتج فيروس التطرف ، وبسبب الاعتماد على فلسفة الإستتابة و " الإرجاء " كما حدث بعد فتنة احتلال الحرم فتلك الضربة التي لم تقصم ظهر التطرف زادته قوة وخبرة ، والأخطر أن ذلك الحدث أقنع أطرافا خارجية بإمكانية ترشيح التطرف كبديل أو ذريعة ، فوجود مثل هذا النمط من التفكير يحقق للامبراطوريات فرصة التدخل تحت غطاء المصالح الاقتصادية ، بل وبسند قانوني وحقوقي يمكن أن تجمع عليه المؤسسات الدولية.


 


لقد تبرع وسيتبرع الكثيرون  بمقترحات لتفكيك فكرة هذه الجماعات وتقويض هياكلها من داخلها ومن خارجها ، كالتحاور معهم بالحسنى فكرة لفكرة وحجة بحجة ، أو تفضيح منظومتهم من داخلها بواسطة فصيل من التائبين المطلعين على جوانب من مخططاتهم الإجرامية بعيدة المدى ، وتعرية نواياهم العدوانية تجاه كل ما هو انساني ، وكل هذا معروف منذ زمن فالجامعات العربية تخرج سنويا من الدعاة أضعاف ما تخرج من الأطباء والمهندسين لسبب بسيط هو أن النظام السياسي العربي بإطلاقه لا يقوم إلا على تلك المزاوجة البراغماتية بالمؤسسة الدينية ، ولن يكون هنالك أي تغيير يذكر ما لم ينفرط هذا الحلف.


 


وقد بح صوت المثقفين الذين لم يتم استيعابهم ، أو أسلمتهم على الطريقة الطالبانية ، تحذيرا من هذا الخطر القادم في مصر والجزائر ، وتوسيع دائرة المشاركة دون الغاء أو اقصاء لأحد حتى سالت دماءهم على مرأى من العلماء والسياسيين ، ولكن دون جدوى فالأفغنة لم تكن مجرد بندقية هوجاء وموظفة من قبل قوى كبرى بقدر ما كانت فكرة تتبرعم في عتمة مختبرات أقدم وأدهى بكثير من هذا المنعطف ، حتى باتت شعورا إيمانيا عميقا ، وقد آن للمثقف اليوم بعد أن أعيته النداءات أن يستند إلى " الحيطة " ويسمع " الزيطة " إذا أصّر على التمادي في سلبيته أو الاستسلام لمن أراد تهميشه ، أو ربما النجاة بحياته، ولكن ليس على طريقة البيانات البائسة " على أي أساس نتعايش " و " معا في خندق الشرفاء " و " شركاء في الوطن " إلى آخر تلك الألعاب الحقوقية المثيرة للأسى والسخرية.


 


المسألة ليست فقهية في المقام الأول ليتم تدارسها وفق النصوص الشرعية ، أو باستدعاء طابور طويل من فقهاء المذاهب والتيارات الاسلامية المختلفة لتفنيد فكرة العنف من وجهة شرعية . وأسبابها تتعدى الشأن المادي اليومي وبالتالي لا يمكن الركون إلى حلول اقتصادية تكفل المعاش لكل فرد ، وهي ليست ظاهرة عنف مجاني لتتم محاصرتها بالحلول الأمنية التي تقسم المجتمع الآن وفق وصفات بوليسية النزعة بالمتعاطفين مع التيار والمنفذين لسياساته ومخططاته والمغرر بهم ، بل هي كل هذا وأكثر وليس طرد الفرنجة والصليبيين من أرض الحرمين إلا مجرد عنوان مضلل مستولد في مختبر هنتنغتون لمصادمة الحضارات بصورة مفتعلة ، وبالتالي فإن حوار الحضارات الذي استوجبت لحظته ، وفق منطق المهرجات الثقافية لا يحل شيئا بقدر ما يحشر زمرة من المهرجين في حلبة سيرك ، فذلك " الآخر " الغربي الذي حضر الجنادرية للمساجلة ، لا زال يصر على عنف " تكويني " في الثقافة الاسلامية ، والفقيه أو العالم المسلم لا يمتلك إلا حق نفيها في الكتب ومن على دكة المنابر ، بينما يتواصل حوار الجثث.


 


أما طابور التائبين ، الناجين بأنفسهم من عنفوان التطرف إلى أغلبية الاعتدال ، المتحمسين اليوم لتعرية أفكار وواقع ومخطط تلك الجماعات ، فيصعب الإعتماد على آرائهم ، أو الإعتداد بسيّرهم كما تستعرض في مقالات نكوصية أشبه بالاستبراء النفسي ، لأنهم اليوم مجرد باعة لرأسمال رمزي ارتفع ثمنه مؤخرا وفق قوانين العرض والطلب التجارية ، لكن قوامه مجرد تجربة محدودة زمنيا ومكانيا وفكريا ، فهم حتى الآن لم يسموا الرؤوس الكبيرة ، ليس بذريعة الاحتراز وحسب ، ولكن لأنهم لم يبلغوا ضمن التراتبية الهرمية لمخطط الإماتة المبرمج ضمن تلك المنظومة منزلة تذكر ففي حصن الحشاشين " قلعة الموت " لا يقضي المنتمي إلا موتا، تماما كبعض القوميين واليساريين ، الذين تأسلموا - ذات هزيمة – فصاروا يبيعون تجاربهم وخبراتهم معززة بكثير من الإدعاء والمبالغة والبطولات الزائفة .


 


واليوم ، أي بعد الحادي عشر من ربيع الأول ، يحلو للمغرمين بتحقيب الحياة وفق الأحداث ، التهليل بميلاد انسان جديد ولكنهم لا يجيبون على طبيعة هذا الحدث أو تبيان حقيقته التاريخية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية ، ولذلك يبدو ذلك الانسان الجديد مجرد أمنية مستمدة من وهم التغير الدراماتيكي لشكل الحياة ومتوالياتها ، أو ربما هو مطمح أكثر مما هو واقع يعاش ، فالانسان الجديد حالة بنائية يستدعيها فعل التنمية وليس ردات فعل محتمة بالضروة.


 


وبالتالي ، هذا الانسان الجديد لا ينبغي أن يستولد من طابور المستتابين ، المعاد انتاجهم وفق الضرورة والحاجة . ولن يكون بالتأكيد من أولئك المركونين على الرف منذ دهر ويصار الآن إلى استدعائهم ليتفوهوا بما يفترض أن نكون قد تداولناه منذ زمن بعيد ، أي قبل أن تقع الفأس في جملة من الرؤوس وليس في رأس مبنى وحسب ، ليتعطل فعل التنمية لعقود . وليته ، أي ذلك الانسان الجديد ، لا يكون من أولئك المحدّقين الآن في السماء ، الغارقين في أحلام يقظة نهارية ، ينتظرونه هابطا من حاملات الطائرات الأمريكية ملاكا كما يحدّث نفسه البعض .


 


الانسان الجديد لا يتولد إلا في مجتمع شجاع لا تبدو بوادره مشجعة حتى الآن في مجتمعنا ، لأنه – أي ذلك الكائن - يؤمن حقا بالحياة ، وعلى ذلك الاعتقاد يحترم كل من هو مصنف ضمن دائرة " الآخر " أي هو المؤمن حقا بحق انتاج واستهلاك المعرفة للجميع دون وساطات ولا وصايا ولا محاذير فهو يؤمن بحق الانسان في الخطأ كطريق للمعرفة ، فمشروعه هو حب الحياة وتدولها مع الآخرين وليس الرهان على فكرة أو فئة أو رمز مهما بلغ ذلك الشخص.


 


هنا يكمن الحل بمنتهى البساطة ، أي في اتاحة الفرصة للجميع لتدول الحياة ، والوقوف جميعا سواسية أمام القضاء والمؤسسات والمعتقدات دون تمييز ، وليحضر ذلك العنف بكل طيشه وجبروته اللانمطي ، فعندها لن تقوم لتلك الفئة ولا للتطرف ولا للإرهاب قائمة ، لا لأن تلك الفئة المتعطشة للقتل لا تمتلك مقترحا مقنعا للحياة ، ولكن لأنها ستواجه بشرا يمتلك الكثير من الاستعداد والشراسة أيضا للدفاع عن حياة جديرة بأن تعاش حتى آخر رمق.


عودة للرئيسة