في الذكرى الاربعين لتأسيس منظمة العفو الدولية تداولت الاوساط الثقافية صورة فوتوغرافية هي عبارة عن ملصق (بوستر) لحزمة أقلام مختلفة الأشكال والاحجام، ما بين الحبر والجاف والرصاص،وقد كتب أسفل الصورة "اذا كنت تمتلك واحدة من هذه الوسائل البسيطة فبإمكانك تحرير انسان" في اشارة الى اهمية الكلمة للدفاع عن المضطهدين، وللتأكيد على ان الكتابة الحقيقية هي التي تحدث داخل جواهر الاشياء، حيث لا يمكن لكاتب شاهد على عصره أن ينجو بكلمته من سلطة مكانه وزمانه.
ويبدو أن ذلك النداء الانساني لم يصل الى مسامع المثقف العربي فالطاهر بن جلون مثلاً، وبكل أقلامه الفخمة وسمعته الادبية، كان مغترباً عن ذلك المنزع الحقوقي، فلم يكتب إلا من أجل الوصول الى جائزة "الغونكور" او هذا ما بدى عليه الامر بعد ان سكت دهراً عن الممارسات القمعية للبوليس السياسي في المغرب، ثم ادعى بطولة متأخرة في كتابه "تلك العتمة الباهرة" حيث تحدث بأثر رجعي عن شهادة لأحد معتقلي سجن "تزمامارت" وكأنه فوجئ كما حدث لغيره بمدى ما يمكن ان يصل اليه التوحش والقهر للانسان عندما يفكر في التعبير عن رأيه، وعليه قرر تفضيح منظومة زمن بائد، واضاءة دهاليز الاقبية المعتمة رهاناً على شهرته الادبية، ولكن بعد فوات الاوان.
واليوم، يتعرض عبدالرحمن منيف لهجمة مشابهة ازاء مواقفه ومبادئه، خصوصاً من قبل المثقفين العراقيين، فقد صنفوه كمتواطئ مع نظام غير مأسوف عليه بالنظر الى انه أحد الصامتين عن ويلات الانسان العراقي، اذ لم يتحدث عن جرائم ذلك النظام من تقييد للحريات، والتي تكشفت على شكل مقابر جماعية مروعة، فيما كان منيف يكتب ثلاثيته "أرض السواد"، مبتعداً عن نقد الراهن، او التجابه مع نظام هو نتاجه اصلاً، والأهم انه طرح نفسه في جملة من رواياته وأبحاثه كحقوقي همه الاول الدفاع عن حرية الانسان، كما في روايته "شرق المتوسط" التي قدمها ببنود من اعلان حقوق الانسان المؤكدة على حرية الاعتقاد، وايضاً في روايته "الآن هنا - شرق المتوسط مرة اخرى" وكأنه يريد التأكيد على ان الاستبداد العربي حالة قدرية او هكذا يراد له ان يكون طقساً قمعياً.
منيف اذا، لا يختلف عن غيره من المثقفين العرب، فقد اراد تبئير المجابهة الحقوقية او الانحياز بها الى منطقة هلامية "شرق متوسطية" فراراً ربما من استحقاقات التصادم مع نظام مستبد، لم يجرؤ أحد على انتقاده علانية، حتى ادونيس بكل جبروته الثقافي انتظر نهاية النظام ليطلق نكتته السمجة (انظر الى سيف الطاغية كيف يشحذ والى الاعناق كيف تتهيأ للضرب) مدعياً انه كتب تلك الانطباعات خلال زيارته الوحيدة للعراق ضمن وفد اتحاد الكتاب اللبنانيين سنة 1969. ولولا الاسباب الشخصية المتعلقة بمحنة والده لما تجرأ المرحوم مؤنس الرزاز ليفضح جانباً من مملكة الصمت تلك في روايته "اعترافات كاتم صوت".
وفيما رثى منيف "عروة الزمان الباهي" في المغرب الذي راح ضحية غدر سياسي مبيت، سكت عن مصير مثقفين عراقيين أبيدوا في اقبية السجون، ولم يتحرك قلمه ايضاً لتحرير أي منهم، حتى نال هو الآخر جائزة الرواية العربية في كرنفالها الاول، الذي بدى حينها مسيساً بل مبرراً للتنكيل بدول معينة، وبثقافة الاطراف تحديداً، الامر الذي يطرح تساؤلات غاية في الاهمية، ليس بشأن معيارية الجائزة وحسب، بل ازاء الرواية العربية التي أراد البعض تحزيبها او عسكرتها والارتكاس بها احياناً الى الماضوية بحجة التأصيل وهكذا، لتنكتب على هامش الحياة او خارج تاريخ الرواية واشتراطاتها الزمنية بالمعنى النقدي، أي تحت وصاية السلطة، فيما يفترض ان تكون الرواية سلطة بالاساس، او على الاقل تحاول بكل ما تملكه من مقومات تعبيرية انتزاع جانب منها.
ورغم ان جملة من الدلالات الثقافية الى ورطة المثقف العربي في رسالته الحقوقية، فيما عرف ضمن الادبيات السياسية التاريخية بمزدوجة المثقف والسلطان، إلا ان قراءات المركز المجحفة بحق ثقافة الاطراف نالت من الثقافة الخليجية لتخفي عوراتها التعبيرية، فلم تخرج في مصر مثلاً روايات تحاكم نظاماً في أوج قوته، فحتى رواية "العين ذات الجفن المعدنية" حاكمت معتقلات الاستعمار بعد أفوله ولم يتعرض كاتبها شريف حتاتة لحيف النظام الناصري، اما رواية "صراخ في جمجمة" لادريس علي فتتحدث عن قمع يستشري بدون تأوين رغم التسمية الحذرة وكأنها تحدث في واقع او مكان متخيل.
وبالنظر الى جاهزية الوصمة النفطية، صار ينظر الى المثقف الخليجي، وفق التصنيف القسري البغيض، وحسب ذلك التأويل التبخيسي، على انه اكثر المثقفين العرب انسجاماً من نظامه السياسي ونسيجه الاجتماعي، وهو امر يصعب رده كلياً لأسباب متداخلة، بل يمكن اختباره كتصور على ثلاثية تركي الحمد مثلاً التي وعدت - مضمونياً - بالكثير من الصراحة عندما مارست احمائها في "العدامة" ثم "الشميسي" لكنها وقعت في ذات المطب عن منعطفها الثالث "الكراديب" وكأن الرواية العربية تعيش خارج زمنها، ولا يمكن ان تحدث تماسها بالنسق الهدمية البنائية كما يتصورها جاك دريدا.
هكذا تبدو الرواية العربية في شقها السياسي، مجرد تعليق بائت على ما حدث، وفي أحسن الاحوال نميمة ثقافية سياسية، يثأر فيها الراوي لتاريخ نضالي مضيع، ويبحث بموجبها عن فردوسه ذاك ولكن ليس في المنطقة التي اضاع فيها وعيه، بل في مكان أقرب الى المنفى، كما حدث مع هاني الراهب في روايته "رسمت خطا على الرمال" فيما يستدعي قراءة معمقة لمفهوم "الآخر العربي" داخل الرواية العربية، فيحيى يخلف مثلاً يترك فلسطينه نهبا للمحتلين، وفساد مؤسساته ومنظماته الثورية، ليكتب هجاء مراً لمجتمع ومكان قروي في مركباته الانسانية في روايته "نجران تحت الصفر". وابراهيم عبدالمجيد لا يدخر مفردة من قاموسه الهجائي ليلعن مدينة تبوك، اللي تنسيك امك وابوك لكنه ما ان يقدم على اسكندريته حتى تغدو جنة مفعمة بحيوية المتناقضات في روايته الشهيرة "لا أحد ينام في الاسكندرية". وهكذا يتناسل النص الغائب من بنى الخوف والوشاية والتعريض، أي ككتابة عاجزة عن الفعل وتسمية الاشياء.
ما يحدث اذا هو خارج منطق وسلطة الرواية، اذ لا يمكن هنالك حياة ولا رواية حرة ضمن لحظة قاهرة، او هذا ما يمكن استخلاصه من مآل وحال بطل "تلك الرائحة" لصنع الله ابراهيم، وكذلك كريم الناصري بطل رواية "الوشم" لعبدالرحمن الربيعي، الذي لا يختلف كثيراً عن منصور عبدالسلام بطل "الاشجار واغتيال مرزوق". أما الفرد الاشكالي المؤمل عليه كتابة الرواية المقاومة، حسب لوسيان غولدمان، فلا يوجد في الحياة العربية،
فالراوي والمروي له لم ترتسم معالم أي منهما في ظل حياة حرة، وعلى ذلك تكتظ الرواية العربية بأبطال مصابين بالربو، حسب تعبير نيتشة، وليس ثمة روائي عربي ككونديرا يعتقد بأن الحياة بالفعل في مكان آخر ليذهب اليها ويعيشها واقعاً، وهذا ما يفسر عدم انضمام أي من الروائيين العرب لبرلمان الكتاب العالميين حتى الآن، وربما يفسر ايضاً انتباهة نجيب محفوظ مبكراً، وزهده في ألا يكون مصيره كبطله عمر الحمزاوي في روايته "الشحاذ".
|