خطابات ثقافية للخروج من التاريخ

الخطابات أعراض بتصور فرويد ، ووفق هذا التصور قرأ روجيه غارودي الفترة التي أعقبت حرب الخليج الثانية ، حيث أعلن توجسه من أمراض ثقافية سماها " أعراض العام 1992 " أي عندما استولد جورج بوش الأب بقسرية دولية نظامه العالمي الجديد ، كطراز من مذهبية التبرير للفوضى، التي وسمت حينها - استهزاء - بالفوضى العالمية الجديدة ، أو اللانظام العالمي الجديد ، إذ بدى ذلك النظام في صيغته الليبرالية المتوحشة  بلا ملامح ، ولا بصيرة ، ولا ضمير ، الأمر استوجب من نعوم تشومسكي أيضا سلسلة طويلة من الكتب التفضيحية لما عرف بالأمريكانزم كمعادل للفاشيزم والنازيزم.


 


وقد عاضده في ذلك التحذير طابور من المثقفين ، كان من بينهم كريستوفر نوريس الذي تطرق في كتابه " ما بعد الحداثة - المثقفون وحرب الخليج " إلى جناية اختزال الأنظمة المعرفية في ألعاب خطابية ، لا تنبني إلا بواسطة اللغة أو فيها ، أو ما سماه آلن بيرو القمع اللغوي ، وذلك في بحثه " التقنية والسلطة والعنف " حين ترتدي الكلمات سحرا لفظيا جديدا لكنها تفرغ من المعنى ، وحيث لا تكون اللغة تفكيرا فلسفيا حول مصير الانسان في هذه المغامرة بل سفسطة جديدة .


 


و منذ تلك الهزيمة الثقافية الذي يشبه رديفها اليوم فاضل سلطاني بالزلزال الثقافي ، تعرض الجسد الثقافي العربي لنوبات من النكوص الثقافي تصب كلها في ذلك العنوان ، أي أعراض ما بعد الحرب ، المملاة من فوقية ثقافة الغالب على مشهد تحتي مغلوب، فقد تفشت المشاريع السياسية العلنية كمدريد والمنسوجة في الخفاء كأوسلو ، وما تلاها من دعوات للشرق أوسطية كما أعلنها شمعون بيريز مشروعا وتلقفها لطفي الخولي تنظيرا ، وعلي سالم كزيارات ميدانية وكتبشير عبر مطالب لإشاعة " ثقافة السلام " مع أبناء العمومة الصهاينة ، في محاولة لإماتة فكرة القومية ، وتسفيه وأحلام الوحدة ، وإلغاء الذاكرة العربية بما هي المعادل للتاريخ ، واستبدالها بالاقتصاد والسياسة .


 


وعلى ذلك الاحتدام واجهت الثقافة العربية دعوات التطبيع حيث اشتبك سعد الدين وهبه مع لطفي الخولي وتلاسنا بكل الأدوات والدعاوى الثقافية بعد أن أصر الأول على افتتاح مهرجان السينما بفلم " الطريق إلى ايلات " حتى توجت تلك المعركة التطبيعية بطرد أدونيس من اتحاد الكتاب العرب في سوريا ، إثر مشاركته في غرناطة ، بدعوى الحق لامتلاك وتفعيل هامش الحوار مع " الآخر " ولو بالكيفة والمكان الذي أراده ذلك " الآخر " ثم المواجهة الصاخبة مع جماعة كوبنهاجن التطبيعية والتي لا زالت تلقي بظلالها على المشهد الثقافي ، حيث احتج الطاهر بن جلون على كتاب روجيه غارودي " الأساطير المؤسسة لإسرائيل " إذ رأى فيه شكلا من أشكال تجديد الصراع ، الأمر الذي أتاح لتلك الخطابات التراجعية تحت ذريعة أو مسمى المراجعة أن تفصح عن نوايا ذرائعية كامنة في الثقافة العربية مغلفة بلبوسات العقلانية ، فيما كانت تمتص مبرراتها من الأمر بؤس الواقع وليس من مرونة الواقعية كمنهج.


 


وكل ذلك الإنفضاح في مواقف المثقفين أثار دهشة بندر عبدالحميد ليتساءل عن " سر الخراب المفاجيء في سلوك بعض المثقفين العرب " الذين باتوا يعملون بمثابة " مارينز ثقافي " لدرجة أن المهدي المنجرة وجد نفسه في حالة توجس ثقافية قصوى ، وقد قرر ألا يشارك في الندوات الثقافية إلا بالعازل الطبي ، حسب قوله ، لأنه يخشى الأيدز الثقافي ، خصوصا عندما أعلن سعد الدين ابراهيم وصايته وتبنيه لقضايا الأقليات بحماسة لافتة ، فيما حذر ادوارد سعيد من تزييف الوعي الحاصل آنذاك بصناعة المعرفة المنحرفة ، المعتمدة برأيه على " إنتاج وتسويق النصوص والنصانية " وصار يطالب بضرورة " التفكير العلني " للعناوين المضللة ، حتى منعت كتبه في وطنه.


 


أما الخطوة التنظيرية فجاءت من محيي الدين اللاذقاني الذي أعلن نهاية النظام الثقافي العربي القديم ، والتبشير بولادة نظام ثقافي عربي  جديد أخلاقي وفاعل ، كاستتباع للنظام العالمي الجديد الذي رسم معالمه جورج بوش الأب على دوي المدافع . وإذ أعلن توجسه من مصطلح قليل الشعبية أو سيء السمعة ، عاد بالنظام الثقافي القديم الى بداية الحملة النابليونية ثم بعصر التنوير فمرحلة الصراع من أجل الاستقلال الى أن بدأ يذوي بعد هزيمة حزيران 1967 لتطلق عليه رصاصة الرحمة في أغسطس 1990 .


 


وقد بدت المفصلة السياسية للحقب السبع التي رسم معالمها اللاذقاني حادة وصارمة فبعض الحقب تتوقف عند حدث سياسي هام متعلق بالخلافة الاسلامية ، وبعضها تنتهي بسقوط مدن ثقافية ، كما يحدث الآن من احتلال لبغداد يتمناها البعض توأمة حضارية لغزوة نابليون ، وهي احداث عسكرية مترجمة لميزان القوى السياسية ، حيث لم ير تفسيرا لحلقته السابعة سوى الصدفة التاريخية ، حتى حلقة " الغفوة " لم تكن سوى ترجمة جاهزة لتحقيبات سابقة لعل ابرزها ما تحدث عنه داريوش شايغان في كتابه الشهير " النفس المبتورة " حين أوضح المفارقة بين اشتغالات صدرا الشيرازي الماضوية كلبنة أخيرة للغيبية وفتوحات ديكارت العصرية .


 


واذا كان اللاذقاني قد حدد بعض ملامح النظام الثقافي العربي الجديد ممثلا " باختفاء نظرية المركز والاطراف وزوال الظل الطويل لعواصم الثقافة التقليدية " ومستندا على " لائحة أولويات ليست طويلة كما يتبادر للذهن فهناك بعد التعددية والعدالة الاجتماعية والتنمية " فانه حصر دور المثقفين المستقلين الذين أوكل اليهم مهمة تشييد المشهد الثقافي الجديد في الانسلاخ من الأيدلوجيا والتحلل من المرجعيات ، وكأنه الخيار الأوحد لنسق الثقافة العربية الجديدة ، تماما كما قرر علي حرب بمتوالية كتابية عن أوهام المثقف وهامشيته ولا جدوى تنظيراته حتى وصل به إلى حتمية نهايته أو ضرورة إماتته.


 


إذا ، تم الاستغناء بشكل تنظيري عن القوة الرمزية للمثقف ، ولم يبق سوى البيع العلني للقوة الثقافية ، أو هذا ما شخصّه عبدالإله بلقزيز آنذاك في " خطاب التوبة " الذي ينجز فيه المثقف التائب انتقاله الفجائعي من توسل المعرفة إلى توسل السلطة ، بكثير من الإدعاء وقليل من الخجل ، بما هو ضرب من النقد الذاتي الشبيه بالحمام النفسي ، فبعد أن تعرض المثقفون للتكديح والتهميش لزمن تحولوا من مالكين لرأسمال رمزي ، هو الرأسمال الثقافي ، إلى مالكين لقوة عمل ثقافية قابلة للبيع لدى مالك الرأسمال المادي ، كما تمثل في المؤسسات والقوى القادرة على إعادة شكل الحياة العربية من خلال البعد الثقافي ، وبطابور مأجور ومستهلك من المثقفين.


 


وفي جانب آخر تنامى تيار جامح أراد مصادرة الثقافي لصالح الديني فيما عرف اجرائيا بالأصولية ، وقد ظهرت تلك النزعة الاستحواذية كوريث ثقافي وسياسي للفكر القومي واليساري ، على أنقاض الأحلام والمشاريع الوحدوية  المجهضة ، وبمساندة جهد مؤسساتي لافت . وتأهلت لاحقا كرادع أو منافس فكروي لحركة التنوير العربية ، ولفكرة اليوتوبيا الأممية ، ثم جرى الإعداد في المختبرات الدولية لإحلالها كعدو بديل للتعويض عن غياب الكتلة الشرقية ، وقد بدت في شكل استقطابات دينية حادة غايتها التجابه مع " الآخر " حتى بلغت أوجها التصادمي في تنظيم " القاعدة " وما آل اليه ذلك التجابه ، الذي هيأ له هنتنغتون أصلا في مصادمته المفتعلة للحضارات ، بحدث الحادي عشر من سبتمبر.


 


وكانت هذه الموجة قد أصابت نجيب محفوظ بطعنة في الرقبة ، وأخرست فرج فودة برصاصة تنفيذا لفتوى ، ولم تقف عند حد تكفير نصر حامد أبو زيد بل أصرت على تطليقه من زوجته ، كما استتابت حسن حنفي وسيد القمني وغيرهما ، وطالبت بتطهير روجيه غارودي ليتم اسلامه ، ولوحت لمارسيل خليفة بالمحاكمة التي طالت شعراء وروائيين كموسى حوامدة وحيدر حيدر وعالية شعيب وغيرهم ، كما أعادت تلك النزعة الأصولية طباعة روايات احسان عبدالقدوس بعد تعقيمها ، وتخفيف منسوب حرارتها العاطفية ، وعبثت بأهم أثر أدبي عربي وهو كتاب " الف ليلة وليلة ".


 


كما انتعشت جدالات مكثفة حول دور المثقف في الحياة السياسية والاجتماعية ، ومدى ما يمكن أن ينهض به في التأسيس للمجتمع المدني ، واستحضار الحس الديمقراطي في الحياة العربية ، اضطلع فيها اليسار بمراجعات معمقة على جانب المشهد الثقافي ، لدرجة أن الكثير من الأحزاب الثورية اليسارية التي أنجزت مراجعتها في لحظة من لحظات انعدام الوزن انحازت إلى اليمين فتأمركت أو تمدينت تحت مظلة العولمة ، لتعيد تعريف " الآخر " بما هو حاجة للتحضر وليس مجرد عدو.


 


وعلى ذلك التراجع جاءت الحجج والذرائع الثقافية ، حيث انقسم المصريون حول الاحتفال بغزو نابليون لمصر ، فللحاق بالغرب المتحضر المنتصر ماديا لا بد من استجلاب حداثته ، أو التعرض لصدمة " الآخر " الغازي المحتل ، كما يرجح تركي الحمد اليوم ، فالحداثة لا تأتي إلا من الخارج ، وقد يجلب هذا " الآخر " معه الحل السحري للحداثة والديمقراطية . وكما لم ير رفاعة الطهطاوي أي خطر من فرنسا وهي تحتل أجزاء هامة ومفاصل من خارطة الوطن العربي ، طالب طه حسين ذات هزيمة بتقليد الآخر الغربي ، وأراد بموجب ذلك التصور سلخ مصر من محيطها العربي الاسلامي واعتبرها " جزءا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية ".


 


وتحت مظلة تلك العناوين تم تغييب عروة الزمان الباهي ، وانتحرت أروى صالح ، وأعدت قوائم سوداء وطويلة لكتاب ومبدعين وحتى لرياضيين ، فيما يشبه التفتيش الدوري لضمائر وعقول الانسان العربي ، كما امتنع اتحاد الكتاب العرب في سوريا من المشاركة في تشييع سعد الله ونوس ، واتهم حميد سعيد بحصوله على رتبة إعدام الخونة وبجريرة تصفية خصوم النظام ، وانتقل عبدالكبير الخطيبي من أقصى اليسار إلى قلب تل أبيب ، وتم بالفعل مأسسة كواتم الصوت فيما كان العرب عموما " يدفعون فيتدافعون خارج التاريخ " بتعبير فوزي منصور.


 


وقد يكون الطقس المزخم ببذخ العقلانية آنذاك هو العنوان الأبرز للمشهد الثقافي العربي ، وهكذا يبدو اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية حرب الخليج الثانية ، وما نتج عنها من احتلال لبغداد ، حيث تتناسل دعاوى فكرية زاعمة بأن سر أسرار المنتصر عسكريا يكمن في ثقافته ، وبذلك يتحتم الالتجاء اليه ، وتقليده ، باعتباره النموذج المعياري للحقيقة ، والنماء الحضاري ، فيما تواصل بعض التحزبات الثقافية الموغلة في التأدلج على عدائها الصريح للمنظومة الفكرية لآلة المنتصر ، وترفض الانتحاء غربا ، لولا مراجعات ، هي أقرب الى التراجعات حتى ضمن بناها التكوينية ، التي تسعى لتعويم منظومة الفكر المنهزمة ، من خلال اسعافها ببعض العناصر الحية التي تعتبر مرجعيات قابلة للاسترفاد الدائم .


 


ويبدو أن الفئة الأولى قد انساقت وراء " الآخر " المنتصر ، أو هذا ما تحاول اعلانه بكل الطرق نتيجة استخفافها بفاعلية الظاهرة الروحية التي تحضر بأثر رجعي في التاريخ ، واحساسها المتعاظم بسطوة الظاهرة المادية ، التي تبدو نتيجة فرط القوة بمثابة القدر الذي يمكن تصنيعه في مختبر القوات المسلحة ، والقذف به كقوة تدميرية مرعبة فيما وراء الحدود ، لدرجة أن هناك من المثقفين من يراهن على حرب أهلية مبرمجة ، وفتن طائفية ضرورية لإعادة صياغة الحياة العربية .


 


أما الفئة الأخرى فقد تمنعت وتحصنت بعناد الايدلوجيا المغلوبة كقوة روحية معطوبة دون قدرة ملموسة على الحضور الفعلي ، لتبقى فئة ثالثة تراوح في حيرتها ، وتتمثل بخطابات ملتبسة بين البينين ، حيث تتجاذبها مغريات الاولى ومثاليات الثانية ، وقد يتأخر انحسام مرادات لأسباب لا يمكن الركون لحياديتها ، وفاعلية العقلانية فيها ، فهي تبدو ظاهريا مبدئية المنزع والشروط ، فيما تراهن على موازنات مدروسة ، تتحكم فيها منازع شخصية وسياسية وذرائعية ، يصعب تلمسها في أحيان كثيرة ، بل أن معالم تلك الدائرة من المثقفين يصعب تأطيرها مدرسيا أو حزبيا ، نظرا لقابليتها المرنة لقوانين المد والجزر ، وفقا لمعايير ومتغيرات لحظية.


 


المثقف العربي إذا ، يعيش حيرته الحضارية محاصرا بالضغوطات ، ومطالبا بالإندماج الكلي في المنظومة الغربية أو ما يمثلها من مؤسسات محلية بالوكالة مقابل فتات من المال و " هامش من الحرية يرضي نزواته " حسب هيثم مناع ، الذي يؤكد " ضياع بذرات المناهضة الفعلية في أحشاء المناهضة الإسمية ، ويتم فيها تزييف الوعي ، وعلى هذا المحك ينبغي قراءة أو استيلاد روح النظام الثقافي العربي ، فالسياسي لن يتحرك إلا على ما يبشر به المثقف أو يبتدعه في هذا المختبر الثقافي الذي يسير اليوم على " خارطة طريق " قسرا ، فيما يناقش المثقفون العرب في القاهرة مشروع خطاب ثقافي جديد لمواجهة الأزمات تحت عنوان " الثقافة العربية من تحديات الحاضر الى آفاق المستقبل " . أجل يناقشون ذلك بعد أن فاقت الكارثة القومية أي مخيال ، ولكن دون أن يكون على الأجندة لا فلسطين ولا العراق.

 


عودة للرئيسة