سلطة النص
خلال الدورة الثالثة لمسابقة المسرح المفتوح للعروض القصيرة كنت أتقصى شكل الوعي المسرحي الجديد في طوره " التجريبي " للتقليل من " سطوة النص " ولكن يبدو أن العلاقة لا زالت محسومة وحتى إشعار آخر، لصالح " العلامة اللسانية " فالنص لا زال قيمة مهيمنة ينساق خلفها كل عناصر العرض المسرحي بشكل محير، إذ يحتل " الكلام " هامشا واسعا يجعل من الممثل بوقا محقونا بغرغرة خطابية، كما يحيل العرض بمجمله إلى منصة لتصدير فائض الأفكار واللغة المختزنة في الذات المنتجة للنص، وتوسيع هامش " الزمن الميت " المسبب لإملال المتفرج.
استمرار " سطوة النص " بهذه الشكل الاستحواذي له من الدلالات الفنية والموضوعية ما يعني انتفاء أثر الصورة والمشهدية لصالح " الكلمة " بما هي لغة تخاطب يومي واستخدامي عميقة التجذر في الوعي الثقافي وفي الوجدان الشعبي على حد سواء، وعليه فإن غلبة النص، والإتكاء الفارط على الكلمة، لا يخل بمعادلة المسرح كمكان للفرجة وعرض الخبرات الثقافية وحسب، بل يؤخر من تناميات " الحساسية التجريبية " بما هي اشتغال مغاير من أجل مسرح جديد، يعكس بالضرورة حداثة الحياة الإجتماعية وبالتالي حداثة الكائن.
ولأن المسرح فرصة للتخاطب بكافة الحواس، لاحظت أن أغلب العروض أصيبت بشيء من العطالة والإرتباك نتيجة التعويل على استعارة أسماع المتفرجين، دون تفعيل كوامن الفضاء المسرحي، وتحريك كافة عناصر العرض بشيء من التوازن الحسي، فالعروض في مجملها كانت مهمومة بالتأكيد على " الفكرة " وتحويل الممثل إلى لوحة شعارات لغوية متحركة، من خلال اللغة وليس عبر سيمياء المسرح، وهو ما يعني التفريط في " العلامة المسرحية " بما هي فرصة الممثل والمخرج في آن لاستعراض ممكناتهما الإيمائية والحركية وما يمكن التعبير عنه بخدع بصرية وتشخيصية، وحتى بتجسيم حركي لما يصدر من حنجرة الممثل.
ورغم اكتظاظ العروض بالعلامات المسرحية التي يفترض أن تكون مولّدة للمعاني، إلا أنها لم تكن أكثر من بهرجة شكلانية، لا تحدث تماسها بالنص في علاقة تبادلية تخفف من غلواء الكلمة لصالح الفرجة، وتحد من سطوة المألوف اللساني لتصعيد المراوغ من المجازات المسرحية، وهو ما يعني التضحية بالمعنى، المتأتية أصلا من عطالة الرسالة المتخثرة ككودات في ذهنية ووعي المخرج، فالمسرح عملية إتصالية في المقام الأول تتجاوز مهمة عرض الفكرة أو الموضوع إلى إثارة الوعي بتحريك الحواس، وما فوقها إن أمكن.
|