الخارج من الكيتش منصور النقيدان | |
في واحدة من أروع قصص عزيز نيسين الساخرة تبدأ بمغادرة البطل السجن متخيلا لفرط الشوق أن الأشجار ستمتد ناحيته كأخطبوط من الأذرع المتأهبة لاحتضانه ، واهما أن الحياة تحتاجه إلى هذا الحد ، لكنه لم يجد سوى الصقيع ، حتى أصحابه الخمسة الذين واعدوه بلقاء يخططون فيه لحياة جديدة يمارسون فيها عاداتهم القديمة في تعقيم الآخرين ، لم يجد أحدا منهم في انتظاره ، فكل واحد اختط له طريقا مغايرا كان نتيجة طبيعة لما حدّث به نفسه في السجن.
ومنصور النقيدان ، الخارج من سجنه ومن كيتش التكفير ، والموروط في محنة تكفيره ، لا يختلف عن أي من أولئك الذين يعبرون تجربة السجن تحت وابل من الأسئلة الحادة ، ولا يخرجون منه الا بندبة روحية تكون هي حبل نجاته وسر مأساته مع الآخرين الذي اعتادهم ضمن أفقية الحياة الإعتيادية، فهو كما يبدو لا يشبه أولئك الذين يشذبون لحاهم ويسبلون ثيابهم ، ويدمنون الحديث عن التغيير والتغير، لكنهم لا يتغيرون ، فهو كما يبدو صار أبعد عن مأساة التوهم ، وأقدر على أن يعيش واقعه لا ما يتوهمه عن نفسه.
الأسئلة التي داهمته هي ذاتها التي أزاحت ريجيس دوبريه عن حماسته الثورية لغيفارا والخروج من سجنه بكتاب عميق الدلالة " مذكرات برجوازي صغير بين أربعة جدران ونارين " . وبالتأكيد لا تختلف تلك الأسئلة المؤرقة عن الهاجس الذي أضاء لسيد قطب رهافة الكتابة عن " أفراح الروح " فتجربة السجن حضّانة نموذجية لتغيير الأفكار أو تعزيزها ، وهي الوصفة الأمثل للخبرات الأمنية ، فكم عاند جورج سوليداد جبروت من وما أرادوا أن يكونه ، اصرارا على ما كانه وما يريد هو أن يكونه، وكم تمنى فؤاد حداد – شعريا - أن يجد جوابا لصيرورة الحياة التي لا تريد أن تتوقف بكل مباهجها وآلية اعتياداتها اليومية لأهله وأصحابه ، فيما هو يعاني في ظلمات السجون.
هناك تتقشر الأوهام . أجل ، الأوهام التي لها لذات مكلفة ، بتعبير نيتشة ، والتي لا تقل كلفة ولذة تقويضها عن كلفة ولذة اعتناقها أو استنباتها من الفراغ . فلم يكن منصور النقيدان بحاجة الى السجن ليقترب أكثر من مفهوم وحس الاغتراب الذي يميزه هيجل عن معنى الغربة المكانية ، فهو كبطل تراجيدي ، كما يشرح ارسطو ذلك المكمن الانساني ، ليس مجرد فرد وانما انسان من نمط معين تتجسد فيه خصائص مشتركة مع أناس آخرين ، تختصر فيه المحنة الانسانية ولو بصورة مصغرة ، وعلى ذلك يمكن التصديق اجرائيا على ان انعطافته لم تكن بقصد أو نتيجة البحث عن معلومة مغايرة ، بل هو التاريخ نفسه ، وحياته هي مادة الباحث وهو دارسها ومحللها ، أي أن شخصيته هي تاريخ لحركة الفكر الاسلامي في السعودية ، كما يعبر صديقة مشاري الذايدي .
ولأنه خالف ندماء المسجد القديم ، وأراد بكل انفتاح أن يقطع المسافة التي رسمها الصادق النيهوم بين مفهومي الجامع والمسجد، أعاد أرباب الفكر التكفيري تركيب صورته كخصم لدى القراء ، وصاغوا ملامح وجهه من جديد ليخرج لنا شيطانا عتيا يتربص بالحق وأهله الدوائر ، بتعبير الذايدي ، الذي حاول هو الآخر إعادة تركيب وجهه بصورة مضادة ، ممنتجة ، ومزينة بقلق أزلي ، أي بوجه له سمة الانتباهة والتسامح والمرونة . ولكن أي الوجهين أو القناعين يتلبسهما الآن منصور العائد من " ايثاكا " ؟ سؤال لن يغادرنا ما دام يصر على التفكير ويواجهونه بالتكفير ، فالروائي ماريو بارغاس يوسا لم يجد في روايته " امتداح الخالة " قناعا يلبسه الشيطان ليهدم حياة امرأة أليق من وجه طفل بريء المحيا.
يحق لنا التهليل للقادم إلى نادي الآدمية ، ليس كمثقفين ، ولا كمتحزبين ، ولا كمتمذهبين ، إنما فرحا بفراره من مشروع قتل الحياة وإماتة أي مظهر من مظاهرها ، الى مشروع احياء النزعة الانسانية . وكبشر نستأنس بكل ما بشري وبأي إضافة ذات معنى . ولكن لنسأل النقيدان كما نسائل أنفسنا ، وكأننا نراجع حال ومآل ذوات تمارس الركض نحو أشباهها . أحقا يعيد منصور النقيدان أنتاج نفسه اليوم نتيجة انتباهة ، أم يعاد إنتاجه ؟ أمتمرد هو على من وما أرادوا أن يكونه ، وفرح حقا هو بما صاره ؟ أكان بحاجة إلى كل تلك الدروس القاسية ليتوب عن اعتقادات تعيد الكائن البشري إلى ما هو أدنى من الآدمية ، أو ما اعتبره " ثقافة العفن والصديد " ؟
ما زال النقيدان مدينا لكثيرين ، وأظنه سيسمي الأشياء والشخوص بأسمائهم وأدوارهم ، أولئك الذين لا زالوا يحتلون مواقع مؤثرة ، فهو مدين للذين ضاعت حياتهم في وهم رسم هو بعض متاهاته ، لابن القرية البريء الذي بدأ طالبا جامعيا وانتهى بفعل التضليل والتجهيل الى بائع جح ( حبحب ) وكاد أن يصبح قاتلا ، قبل أن ينتبه ، ويسجل شهادة تطرفه وفراره من دائرة الحقد والموت إلى حقيقة ورحابة الحياة ، كما سردها بروح مؤثرة على منتديات الانترنت ، وهنالك من حكى عن مأسي ما طالها النقيدان حتى الآن .
ذات يوم كان مع الأغلبية المتحكمة وفشل في الإصغاء لصوت الآخر المغلوب القليل ، بل فشل حتى في الانتباه إلى نفسه ، لأنه لم يكن يسمع الا صوته ، وكان يمتلك القوة والسلطة ، وفشل أيضا في الاستبداد بها ، وإساءة استخدامها . هكذا يحكم على كفاءة المرء ومروءته بمنتهى التجرد ، أي عندما يمتلك كل مبررات السلطة ، وعلى نفس المقياس نسمع نبرته ، أي عندما يكون مع الأقلية. وهو ككل البشر يحق له الكثير من الأخطاء الصغيرة ، ولكن من غير المسموح له أي يقترف الخطأ القاتل ، ذلك الخطأ الذي يميت كل شيء. هو اليوم مع الأقلية الآخذة في التكاثر ، وهنا يختبر كما لم يختبر من قبل.
لم يكن بحاجة إلى فكرة بقدر ما كان أحوج إلى قفزة نفسية لإعادة تماسه بالحياة ، ففي لحظة من لحظات الوهم والغفلة صار واحدا من أساطين الفكر الجهادي ، ليس على المستوى النظري فحسب ، وإنما على المستوى الحركي ، بتوصيف محمد عبدالله ناب ، وكان مع المكّفرين لأنهم الأعلى صوتا والأكثر حظوة ، واليوم هو أقرب إلى الاعتدال وهو التيار الذي يراد له اليوم أن يسود ، فهل يصيغ النقيدان تحالفاته مع أبرز مظاهر القوة كعادة بعض المثقفين ؟ أم يحطم أصنامه على إيقاع العصابي النادم على ما فات والمتأهب للقادم بروح التائب.
ربما قفز من عربة معطوبة تتدحرج يأسا عكس غائية التاريخ ، ولكنه لم يقفز في الهواء ، انما على حافة عربة متحركة ، مؤثثة بالوعود . وقد تأملته مقروءا عبر مقالاته اللافتة منذ اطلالته التشريحية لواقعنا البائس ، وسألت نفسي : هذا الرجل لا يواري اعتقاداته ، ولا يختفي وراءها . إذا ، هو بطل أو يريد يتلبس هذا الدور ، فهو يمتلك صوته ، أو هكذا يبدو ، ولديه الاستعداد لتعديل مواقفه ، وللتضحية بالكثر من أمنه النفسي قبل المادي من أجل أرائه . ولأني أعرف وطيس معركة علا سناها منذ ما عرف تضليلا بفكرة " الصحوة " أشفقت عليه ، فقد اختار أن يكون بطلا على الطريقة الاغريفية، وهكذا جاء تكفيره أول صلصلة لحرب ضروس الله وحده أعلم بما ستؤول اليه.
كل هذا الألم المعنوي والمادي ربما ما هو إلا ترجمة ، لما هو عليه الآن وما يستحقه بالفعل ، فهو كائن لا يستوي في الظل مطلقا ، بل في جمر المجابهات ، فهذا جانب من أسه التكويني اذا ما سبرنا روحه عموديا . وبالتأكيد ، هو يشعر ببعض الحموضة والمرارة عندما يلتفت الى الوراء ليراقب أولئك الذين شاطرهم جزءا من أحلامه ، فيما يتوجس الفرحون بانضمامه اليهم من بقايا أصولية أظنها لن تغادره بسهولة ، وليس " الإرجاء " إلا بعضها كمفهوم وفلسفة وموقف ، وكذلك الدعوة أو القفز إلى الحداثة ، كما يقترحها صديقه مشاري الذايدي ، بشيء من الاستعجال ، أو ردة الفعل ربما على " ثقافة الصديد " وهو أمر مفهوم ومتوقع فمن ينتمي لجماعة يصعب عليه ، حسب العلوم الاجتماعية انتقادها أو توجيه اللوم لمريديها ، لكنه ما أن يغادرها حتى يكون أقسى في تشريح عيوبها وتبيان أمراضها.
البطولة فعل عظيم ، خصوصا عندما يكون الخصم عنيدا وباطشا ولا يحتكم إلى أي شكل من أشكال التفاهم أو الرحمة ، وهي - أي البطولة - ليست صراعا ضد آخرين ، انما هي شعلة نحملها في داخلنا على الدوام ، واذا كان لا بد من أعداء مفروضين أو مفترضين فلنختر الكبار منهم ، كما يوصي نيتشة ، فبقدر ما يكون الأعداء كبارا ومتوحشين تتصعد المواجهة ، ويعلو في داخلنا الفرح بجدارة المواجهة ، كما نحس بنبل الهدف والقيمة التي نقاتل من أجلها . وبهدا كان النقيدان ومن معه أبطالا عندما قرروا التجابه مع الذين أوهموهم بالخلاص وبجنة على الأرض تشبه تلك التي زينها حسن الصباح للحشاشين تحت تأثير القنب الهندي . أجل ، هم اليوم مشروع أبطال ، لأن عدولهم عن المجابهة ، وتنازلهم عن المواجهة هو رفض لعظمة الحياة .
اذا ، اختار النقيدان أن ينوجد وما هاب أن تتكرر أمثولة الشيخ حسن المالكي وغيره من أصحاب الرأي. وهكذا قرر الخروج من الكيتش ، بتعبير ميلان كونديرا في روايته " كائن لا تحتمل خفته " . والكيتش ، كما فهمته أروى صالح في كتابها " المبتسرون " هو نوع من الرومانسية والعاطفية المستبدة ، التي يرادف معناها حلم الخلاص الجماعي، ويقع كما وصفه كونديرا عند نقطة التماس بين النداء العام وبين الدوافع الخفية ، أي الوفاق التام للمتحمسين ثوريا مع الوجود وعدم الوفاق مع أنفسهم لدرجة مقامرة الانسان لحظة الانتشاء بامكانية تجاوز وجوده ومصيره الفردي ، فهو داخل لحظة حرية ، وعلى حافة خفة شعورية لا تحتمل لفرط رومانسيتها.
هذه هي اسطورة الخلاص الجماعي ، كما تخيلته أروى صالح قبل أن تنتحر ، فأيا كان الكيتش الذي يختاره المرء لنفسه فانه يدخل رأسا ملؤها الشر بل الجنون ، وحينئذ يفقد التسامح ولا يعود مستعدا لقبول أي تناقض مع الكيتش ، وهذا هو تماما ما حدث للنقيدان قبل انتباهته ، فقد دخل الكيتش استجابة لنداء التاريخ الذي سمعه من جهة عمياء ، ولدوافع خفية لا واعية ربما ، وربما لا يعرف لها الى اليوم تفسيرا ، حيث لم يعد البشر بالنسبة له عوالم حية ، بل أشياء يضعها على سرير بروكست ليفصمها ويفصلها على هواه ، وما يتناسب من تطرفاته ، أو ما يحدده الكيتش سواء دينيا كان أو شيوعيا ، فهذا اليقين المطلق هو الذي ارتكبت بموجبه كل المجازر ، وهو الذي أملى على النقيدان ومرافقيه في سيارة بشارع التحلية في الرياض محاولة حشر سائق سيارة أجنبي بنية مضايقته ، وهو الذي دعاه لتحين الفرصة للخوض في دماء الشيعة الى الركب .. وهكذا.
والآن بعد أن سقط الكيتش الديني المبرمج ، وانفضح سر ذلك الهوس المرسوم بتدبير بعيد المدى ، وفي حضانات امتلأت بالعفن لطول فترة الحضانة ، انكشف كل شيء أمام النقيدان ، فحين ينتهي الايمان بشيء أو بشخص أو عقيدة تتوضح كل المعالم ، ويكف المرء عن الروبصة ، حيث تبدو الأسباب والوقائع أهم من النتائج .
وهكذا خفت نداء التاريخ الذي كان يسمعه من تلك الجهات القصية ، وبقي هو كفرد أمام دوافعه الخفية ، يصارعها ، ولكنه يستدعى بين حين وآخر لمقارعات فقهية مع ندماء الماضي ، ويجر الى مستنقع التدليل على أوهام لم تكن موجودة إلا في أذهان حفنة من المنغلقين على أنفسهم ، فيما يفترض أنه كائن جديد ، خرج أو فر من ذلك الوهم إلى حقيقة أكثر رحابة ، والمفترض ألا يقع ضحية فذلكة معرفية أو أخلاقية لتجاوز خبرات ألم التحولات ، فالتناقض ضرورة لحيوية الكائن ، وصراع النقيدان ليس فقهيا في المقام الأول ، انما هو فرصة إحياء مظاهر الحياة التي اغتيلت على غرة من الوعي والاحساس بقيمتها ، أو أريد لها أن تموت.
ما زال الكيتش عتيا وبحاجة الى فضح عمودي يطال جذوره ورموزه ، ويسمي مكامن الشر فيه ، أو رؤوسه الكبيرة بتعبير العصابات الذين لا زالوا في مواقع القرار والتحكم في مصائر البسطاء ، ومن الوهم ملامسة قشوره أو مناهضته بوسائل بدائية ، فقد تضخم الكيتش بشكل مرعب ، واستشرى حتى صار خطابا ساطيا ، عميق الأثر في مجتمعنا، كما ولد كيتشات مضادة فئوية ومذهبية وقبلية وطائفية لا تقل عنه خطورة ، فالخطاب ، برأي فوكو ، أخطر من السلطة فهو يتغلغل كاعتقاد وتابوات في نسيج الناس الروحي والنفسي زالمادي بطبيعة الحال ، فيما لا تمتلك السلطة الا القوانين وأدوات القهر التي يمكن التواؤم معها أو القفز عليها . وقد تم الطلاق الآن بين الاثنين ، وبمعنى أدق لم يعد الثاني يرفد الأول ، بل يتوجس منه. |