منسأة عرفات

منسأة عرفات

ليس في هجعة عرفات ما هو شعري أو بطولي، بل هي السياسة بكل ما تعنيه الكلمة من دسائس ومكر ومؤامرات، وليس كما هي معرّفة مدرسيا في القواميس كفن لإدارة المجتمعات، فجثمان الختيار المسجى في موت اكلينيكي، ليس له الآن أي خيار إلا أن يكون ملعبا ولاعبا سياسيا في آن، فيما يمكن تسميته بدبلوماسية الغيبوبة. وهو - أي عرفات - ليس بحاجة لأن يلتفت إلى الوراء، أو ربما لم يعد بمقدوره الإلتفات أصلا، ليتعرف على الماركة التجارية لخنجر بروتوس ورفاقه المصطفّين في طابور طويل من رام الله إلى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا.

وكما أن قدر الشاعر وجمال جوهره يكمن في كونه شاعرا حتى لحظة تقليم أظافره كما هو حال غوته مثلا الذي لم يتحسس وجوده إلا بمجس جمالي، كذلك السياسي ليس له إلا أن يكون سياسيا، متواطئا ضد نفسه، حتى في شكل ميتاته، وهذا ما حدث ويحدث مع الختيار عرفات الذي أتقن " دبلوماسية الجنائز " لتوضيب مصالحات تاريخية وعرة وتصحيح ما تجاوزه بالشعارات، وها هو يربك بهجعته الأخيرة في كوما عميقة، ما سمّاه يوما فنون المستحيل والممكن والواقع.

كما يفعل الحواة اختصر عرفات القضية الفلسطينية في طيات كوفيته الفولكلورية، وعرف كيف يراوح بفلسطين الأرض والقضية بين غصن زيتون أخضر لم تبق الجرافات الصهيونية على ما تيبس منه، وبين بندقية طالما أخطأت هدفها فلم تئز طلقاتها إلا للذوذ عن الزعيم كضرورة نفسية وتاريخية، وهذا ما يفسر قدراته الخفية والاستثنائية على الإحتفاظ بعصا المايسترو السياسي وإدارة جوقة القيادة الفلسطينية من أعماق غيبوبته.

بالتأكيد هذا حدث استثنائي، يليق بالزعيم، أو الوجه الذي تحبه الكاميرا، فهو ليس محمد الدرة الذي لم يكن بمقدوره أن يواري رعبه أو يخفي دموعه ويكتم صهيل طفولته لحظة مواجهة الموت، وليس ذلك من متطلبات وجوده كإنسان أصلا، على عكس عرفات الذي حمل إلى المستشفى تحت وطأة المخدر والمضادات دون أن يتخلى عن عاداته المستفزة لأصدقائه وأعدائه على حد سواء، حيث أفرط وإن بجسد منهك في توزيع الإبتسامات والقبل وأصر بإباء على رفع شارات النصر.

إنه الزعيم، بل أفضل من يمثل الزعامات الديمقراتورية، أي تلك التي فسرها بارغاس يوسا كقيادات سياسية مراوغة لديها من القدرة على اللعب بمزدوجة المعنى السياسي من حيث إظهار أو تمثيل حس ديمقراطي شكلاني، واستبطان فائض سلطة أو قسوة دكتاتورية أصيلة، وهذا هو الفارق المجازي والواقعي بين الزعامة والرئاسة، ولذلك لم يجرؤ أحد حتى الآن على الإقتراب من كرسيه الخالي، فيتامى القيادة الفلسطينية في حالة انعقاد دائم للتودد إلى كرسي فارغ، والزعم بتداول الشأن الفلسطيني مع شبح عرفات، الآخذ في تلبس الروح المهدوية، ومنافسة غودو في رحلة عودته التي لم تحدث.

هنالك من هم أولى بالشفقة من الختيار الراقد في بياض الغيبوبة، فقد بدأ أبو مازن وأبو العلاء لعبة الكراسي الموسيقية على أنغام مارش جنائزي، والكاميرا التي لا ترحم الحاضرين تفضحهما، وتبين عن تحديقهما الدائم إلى فراغ كرسي عرفات، وانهمامهما بتقاسم ذلك العرش عبر النظرات المتبائسة، وبصورة أقرب إلى الرسومات الكاريكاتورية، أما محمد دحلان وخالد سلام فيجولان في أروقة فنادق باريس ويحاولان ملأ الشاشة بالتصريحات المتناقضة حول صحة الزعيم الغائب عن الوعي، دون أن ينسى أي منهما تصفيف شعره ببلسم يزيده لمعانا، وكأن الزعامة يمكن أن تورث أو تسرق تحت أضواء الفلاشات وسطوة السلطة الرابعة.

حتى هذا التناقض في التصريحات يأتي بشكل مبرمج ومدروس، فليلى شهيد هي أول من يعلم وليس آخرهم، إنما يتم ذلك لتحويل الأنظار عن مأساة شعب يعيش الدياسبورا العاطفية إلى عقم الجدالات حول أقدم سلاح تاريخي للإغتيال السياسي، فقد أتهموا شارون باستخدامه فعليا حسب توصية تلمودية، ليلصقوا به شرفا لم يتنصل منه قط، وليؤكدوا على الحكمة المعلقة في ضمائر كل الدكتاتوريين كوعيد أو مأثور رباني " لله جنود من عسل ".

التنافس على أشده في مسلسل عربي طويل ومزمن أعده هيجل منذ زمن تحت عنوان " دولة الإستبداد الشرقي " أو ما يسمونه كمعضل ثيوقراطي " المستبد العادل " وكل ما يتناسل تحت هذا العنوان من تنويعات دكتاتورية، فثمة تقليد عربي عتيد لا يقر ما يسمى في الأدبيات السياسية برئيس دولة سابق، وهكذا بات كل طرف يبحث عن دور له ولو ككومبارس في دراما الخفاء والتجلي، المهم ألا يغيب عن ذاكرة المتفرج، فهنالك من يغيبون بغياب الملك والعكس صحيح.

كل تلك الدراما منسوجة بهاجس سياسي لترتيب البيت الفلسطيني وإعادة شعب الله الفلسطيني المحتار إلى خارطة طريق رسم معالمها شعب الله الصهيوني المختار، ودبر خباياها شعب الله الأمريكي المحتال، كما أختصر تلك المأساة ناجي العلي - ذات رسم كاريكاتوري فطن ومفجع - حتى مستشفى بيرسي الفرنسي لم يمانع في التضحية بسمعته الطبية استجابة لما تمليه السياسة، وحتى سها عرفات التي قبلت بأن تكون " ضرة القضية " ليس لها الحق في إماتته. وحماس أيضا، بكل برامجها السياسية العلنية والخفية، لا تستطيع انتهاك اللعبة السياسية، وتخرج على ما تفترضه دبلوماسية الغيبوبة.

الشعوب تسامح زعاماتها مهما كانت دكتاتورية عندما يجردها الموت من أسطوريتها فتتأكد أنها ليست سوى مخلوقات، وها هو الشعب الفلسطيني يتحلق حول رمزه وضرورته النضالية والتاريخية. لا أحد من أولئك الفقراء يريد أن يصدق أن إغماضته هذه قد تكون الأخيرة، ولن يصدق أحد من أولئك المقهورين أن منقذهم انتهت مهمته عند هذا الحد، وأن كل ما قاله محمود درويش عنه ليس سوى أنشودة لإنعاش الذاكرة الفلسطينية، وإن عرفات يشبه إلى حد كبير البرتقال الحزين والزيتون المر.

أظنهم بانتظار دابة الأرض لتدلهم على موته، فمنسأته تتآكل على نفس ايقاع عدادات النبض الالكترونية المتهابطة، وعرفات الذي أصر على ألا يموت في مخبئه إلا " شهيدا .. شهيدا .. شهيدا " لا تنطبق عليه نبوءة غالب هلسا حين تنبأ بما سمّاه الفلسطيني التائه، أو العاشق النيكروفيلي للموت، الذي لا يمتلك إلا خيار وحيدا، وهو شكل موتته.

أتراه - أي عرفات - ومن عمق الطابق الرابع لغيبوبته يشاور جسده بغياب نبيل يليق بتاريخه!!؟؟


عودة للرئيسة