" خدعة سوكال "
قذارات مقابل أخرى
بعد أن أصدر آلان سوكال وزميله جون بريكمونت كتابهما التفضيحي " خداع ثقافي - اساءات فيلسوف ما بعد الحداثة للعلم " اندلع سجال ثقافي سرعان ما انزاح الى " حرب علمية " بين الثقافة الأنجلوسكسونية والفرنسية، وكالعادة تحدّر من جنبات ذلك التجابه جدل عربي على هامش أصل السجال، الذي حمّلت بموجبه الحداثة الغربية، والفرنسية بوجه خاص مسئولية فشل المشروع النهضوي العربي، فالكتاب الذي استطاع بشيء من التدليل المنطقي التشكيك في مبررات غموض الخطاب النقدي، ألمح الى عبثية واستعصاء بعض النصوص المابعد حداثية، وقد يطال منجزات ابداعية موغلة في القدم، حسب قراءة كريستوفر نوريس للكتاب.
وقد أغرى هذا التحدي المعرفي المؤسس على براهين جدلية جهات ثقافية عربية بالتورط في حرب قائمة على توظيف المكون الثقافي لتأكيد إرادات الهيمنة، ولا تسمح بمقاربتها الا من الأطراف، اما باعلان الشماتة على الاتجاهات المابعد حداثية ، وبالتالي تصعيد الحرب ضدها ، بل وباستعارة ذلك التشكيك لتطبيقه على مشروع النسخة العربية للحداثة، باعتبارها حالة مستنسخة من الأصل الغربي، أو بالاصطفاف التعاضدي مع جهة دون أخرى، انطلاقا من تحزبات لا تمت الى السياقات المعرفية بصلة، وهذا هو ما حدث بالفعل في المشهد الثقافي العربي من خلال كتابات تحوم حول هوامش الجدل ولا تطال جوهره .
ويتعرض الكتاب لموجة جديدة من القراءات الجادة ، ضمن الدائرة الغربية، بأقلام ذات سمعة ومكانة ابداعية في مختلف المنابر الثقافية، تعيد الى الأذهان سطوة الثقافة الخارجة على أروقة الجامعات، وذلك بعد ترجمته الى الانجليزية، فيما اكتفت الأسماء العربية بتعليقات الحاقية على أصل القراءات، تماما كما حدث عندما صدرت نسخته الفرنسية في العام 1997 ، وهكذا جاءت أغلب المطالعات اما مهللة للفضيحة الثقافية التي منيت بها الحداثة وما بعدها من منتجات انسانية مرعبة، أو منكرة ومستنكرة لما جاء في الكتاب، دون سند علمي، حتى قبل أن يترجم للعربية، فمن طالعه اكتفى بالمقدمة التي تسرد حكاية الفضيحة بكثير من الحماس والانبهار والتشفي.
أما حكاية الكتاب فتبدأ سنة 1996 ، عندما نشر آلان سوكال، وهو استاذ الفيزياء الرياضية في جامعة نيويورك، دراسة مفبركة في مجلة SOCIAL TEXT مبنية على تجميع فقرات من كتابات مختلفة لدرجة يصعب امتصاص مراداتها، بدءا من عنوانها شديد التعقيد والارتباك، ما لبث أن نقضها، مؤكدا انها لم تكن أكثر من تهويمات ملفقة ومركبة للتضليل، فهي مجرد محاكاة ساخرة للدراسات المابعد حداثية، لا تندرج ضمن أي نسق علمي، ومهمتها اختبار وفضح جانب من الاشتغالات الاكاديمية في العلوم الانسانية وتعرية مزاعم بعض رموزها.
وعندما أراد ان ينشر ذلك توضيحا لخدعته في ذات المجلة، قوبل بالرفض فنشر مقالته التفضيحية في مجلة LINGUA FRANCA ليفاجأ بخبر خدعته الثقافية يتصدر الصفحات الأولى لأشهر الصحف العالمية، الأمر الذي شجعه بمساعدة زميله الفيزيائي البلجيكي جون بريكمونت، على تصعيد الهجوم واصدار كتابهما المثير للجدل " خداع ثقافي " الذي اتهما فيه أسماء ثقافية مرموقة كجوليا كريستيفا، وجاك لاكان، وجاك دريدا، وجيل دولوز، وجان بودريارد، وحتى ريجيس دوبريه، بالاساءة لقدسية المفاهيم ورصانة المصطلحات العلمية، وشككا في الكفاءة العلمية لطابور طويل من المشتغلين بالعلوم الانسانية، الذين يحاولون توظيف تلك المفاهيم العلمية بلغة غامضة ومتعالية، وخارج سياقها العلمي، كما جاء في مقدمة الكتاب.
وبالنظر إلى وجود ذهنيات شديدة الميل إلى فكر المؤامرة صنفت بعض الاوساط الثقافية كتاب سوكال في خانة الهجاء الانكلوسكسوني للثقافة الفرنسية، الذي بات تقليدا يطالها مع كل اصدار يجادل عيوب الحداثة وما بعدها، فقد اعتبرت صحيفة لوفيغارو الكتاب اعلانا للحرب، فهو يصف رموز فرنسا الثقافية بالبلادة والإبهام التضليلي، كما رأت أوساط أخرى أن الأمر يتعدى صراع ثقافتين الى محاكمة تيارات ما بعد الحداثة، وما يعتريها من الإدعاء والانحراف عن مسارات التنوير الغربي، وخيانة أو تخريب الحافز الانساني بتعبير برايان ابليارد في قراءته للظاهرة من وجهتها الارتدادية، وبطبيعة الحال، ومن موقعه الانكلوسكسوني.
ويبدو أن ذلك التوسع في جبهة المواجهة ، يشير الى اشكاليات عميقة في الفكر الغربي، ويأتي كاستكمال معرفي لمحاولة " نقد الحداثة " عند آلان تورين ، و " انحدار الحداثة " عند بيتر برغر وحتى عند تيري ايغلتون لاحقا بكتابه " أوهام ما بعد الحداثة " وغيرهم، وبالتأكيد فان ذلك التجابه العلني والضمني لا يسمح بتورط أو توريط ثقافات خارج هذا المدار دون مبررات ثقافية موجبة للتقاطع، بما في ذلك الثقافة العربية، التي لا تسمح لها اسهامتها المتواضعة آنيا بالتجادل مع تلك القضية الملتبسة الا من موقع المتفرج.
هكذا بدت الثقافة الفرنسية الأحدث متهمة قبل كتاب سوكال بمحدودية الأفق، وبالانقلاب الأهوج على عصر التنوير، قبل أن تصاب منظومة مدارسها بالسكتة المعرفية، فهي مؤثّمة باستخدام خطاب طليعي، قائم على لغة تبالغ في العماية، والاسهاب النظري، بل ومدانة بمناوءة المسعى الانساني نحو المعنى، رغم اعتماد الأوساط الأكاديمية الأمريكية على الثقافة الفرنسية لفترة طويلة من الزمن.
وعندما تتأهب أطراف ثقافية عربية لنجدة الثقافة الفرنسية، أو لتعزيم الهجوم الأنجلوسكسوني، فانها انما تقتحم معركة لا تعي منها الا عناوينها، فهذه الحرب التي تبدو معرفية، ان هي الا امتداد ونتيجة لارادات الهيمنة، ولتأكيد الدافعية الاقتحامية في للثقافة الامريكية خصوصا، التي باتت سمة من سمات العولمة، فظاهرها معرفي أما باطنها فمحقون بنوايا لا معرفية، وقد ظهرت بوادر ذلك الاحتقان إبان مساجلات اتفاقية الجات، حيث أصرت فرنسا على استثناء الشأن الثقافي منها، رغم انكار ريجيس دوبريه، الخارج على الايدلوجيا ذلك الاستثناء الثقافي، في معرض رده الشهير على مقالة ماريو فارغاس " قذارات مقابل أخرى " معتبرا أن الانسان في تجانسه المأتمي لا يشبه ما يأكل، بل يشبه ما يقرأ.
اذا ليست المسألة تفشيلا مبيتا لمشاريع الحداثة وما بعدها، اذ يتعدى ذلك الاشتجار الأطر المعرفية الى نبش النوايا بأثر رجعي، فهذا أوليفر تود المحتج باستهجان على قراءة ادوارد سعيد لسيرة البير كامو الروائية الثقافية، خصوصا في جانب العودة بها الى حواضن الروح الاستعمارية، يحاول فرز المثقفين الفرنسيين ليرمي سارتر بمنتهى التوحش التصنيفي إلى خارج التاريخ، ويهلل لانبعاثة انسانية لكل من البير كامو وريمون آرون على وجه التحديد، لأسباب مفهومة ضمن التحولات الانسانية الكبرى التي هيمنت على طقس نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي.
والثقافة العربية هنا ليست معنية بالبحث، وتثبيت البصمة الأمريكية في خدعة سوكال، أو رد الشبهة عن أصالة الثقافة الفرنسية بالنيابة أو عبر بيادق اعلامية، فهذا جدل هامشي، مثله مثل استخدام ذات الخدعة للتشكيك في الحداثة العربية انطلاقا من انخداش النسخة الغربية، وتحطم بعض أصنامها، بل هي مسئولة عن وضع أصل ذلك الجدل في المتناول للاحاطة بجذره المعرفي، فهذا هو المكان الذي يمكن الإفادة منه، والبناء عليه، والموقف النقدي الجاد ازاء حدث ثقافي بخطورة وأهمية " خدعة سوكال " يحتم الارتطام بها من الداخل، لا التحويم حولها.
|