حادثة ( جبة ) من منظور رولان بارت

وهكذا ضاعت الحقيقة بين عبارتين، أولهما ما أعلنته جريدة الوطن كسبق صحفي بالكشف عن رسالة تركها معاذ لوالده الشيخ سلمان العودة " موعدنا الجنة بإذن الله.. سأسافر إلى العراق للجهاد " والثانية كما جاءت تكذيبا من الشيخ نفسه، موضّحا أن ابنه ترك رسالة على الجوال " حللونا وأنتم بحل " قبيل دخوله مع صاحبيه في منطقة لا يغطيها الإرسال، في محاولة منه كما يبدو لتبسيط الواقعة وتجريدها من طابعها الواقعي إلى حالة من التجريد، أو ربما التقليل من تداعياتها.


 


وبتصوري أن الأمر لا يحتاج لأكثر من مثول الطرفين لخمس دقائق أمام أحد القضاة المشهود لهم بالنزاهة فيتبين حبر الخبر الصحفي الأسود من بياض الواقعة وبراءة الشخوص من فرية الفرار خلسة إلى العراق للجهاد، أو على الأقل أن تعلن الجهات الأمنية حقيقة بحثها بكل صدقية فتنتهي المسألة، حتى شركة الإتصالات يمكن أن تسهم في حل هذا اللغز المبالغ في تعقيداته، ولكن هذا لن يحدث لأسباب على درجة من الحساسية، ليس أقلها عداء مجتمعنا المزمن للحقيقة وافتقاره إلى أبسط المكونات المؤسساتية، بالاضافة إلى أن الالتباس الحاصل له علاقة بموازين السلطة، وما حدث بالفعل هو حالة من التجابه بين فريقين يختزنان فائضا من الثأر وأوهام القوة أو تمثل شكل من أشكال السلطة، حتى قبل مأساة الحادي عشر من ربيع الأول، وحرب الإطاحة برؤوساء التحرير.


 


جريدة الوطن تعتقد أنها، وبكل ارتباكاتها المهنية تمثل رأس حربة السلطة الرابعة، وأنها تقدم شهادة تعرية على تحولات داخلية دراماتيكية بدون هوادة ولا مهادنة، حتى وإن تهابطت - مهنيا - إلى مستوى صحافة التابلويد، أما الشيخ سلمان العودة - وبكل تناقضاته -  فيتكيء على مؤثرية المؤسسة الدينية، وعلى ذاكرة مجتمع يعيش المرحلة الشفاهية أو ما قبل التدوينية، وكلتاهما تراهنان على عاطفة الجماهير، والمبالغة في التودد إلى السلطة الرسمية، أو استعداء بعض أجنحتها على الطرف المضاد، وعليه فإن الحقيقة، وكالعادة، ستكون هي الضحية، ففي حالات المواجهات تموت الحقيقة فيما تنهض أدوات التدليس والترهيب والتشويش، ويستمر التلويح من كلا الجانبين بحقهما المؤجل، أو المتحفظ عليه، في رفع دعوى قضائية، فيما يؤكد التخوف المتبادل بينهما من الإحتكام الفعلي إلى ما يسميه فوكو " مبيان القوة ".


 


ثمة واقعة بالتأكيد، وخبر جريدة الوطن لا ينم عن ضغينة الضعيف، ولكنه أيضا لا يخلو من الترصد المبيت، ولسنا هنا بصدد الكشف عن ملابستها، بقدر ما نحن بحاجة إلى تحليل أعمق لواقعة شخصية أخذت كل ذلك الإهتمام الإعلامي والجماهيري، فذلك يندرج تحت ما يسميه رولان بارت " بنية خبر الآحاد " ونعني به هنا الخبر المتعلق بفرد وليس المتواتر عن فرد، والذي طال مؤخرا اللاعب الدولي محيسن الجمعان، حيث أشيع خبر مقتله في الفلوجة، وكذلك رانيا الباز، بكل ما تحمله تلك الأخبار من تداعيات حقوقية ودينية واجتماعية، فهذه سمة من سمات المجتمع الارستقراطي في طراده الدائم لنجوم السينما والطرب والرياضيين والدعاة أيضا.


 


ولا شك أن الشيخ العودة يشكل مادة ومثالا حيا لمثل هذه النوعية من الأخبار، فكل ما يتعرض له الشيخ سلمان العودة الآتي من أقصى " القطيعة " إلى متشابهات ما يسمونه " الإعتدال " يتحول إلى حكاية، كمشاركته في الحوار الوطني مثلا، ومصافحته التاريخية للشيخ حسن الصفار وهكذا. فما الذي يعنيه تقصي الإعلام والجماهير ما يحصل لفرد كالشيخ سلمان العودة!؟ خصوصا عند النظر إلى تحفظ أقطاب السلطة الرابعة على هفوات جريدة الوطن المهنية، وتنازلها لبرلمان المنتديات الالكترونية لتخليق جملة من الأوهام وردود الفعل العاطفية.


 


الشيخ سلمان العودة هو فرد بالتأكيد، ولكنه ليس كذلك أيضا، فهو شخص إشكالي وليس من العامة، وبالتالي فإن حس الصحفي الذي أتى بخبر الضياع أو الاختباء في صحراء " جبة " بحائل إنما تأتى من إدراك مهني واجتماعي وسياسي بأهمية مثل هذا الحدث، ولذلك تم استثمار اللحظة أو ما يسمى بالإطار أو القانون العام، فالشيخ العودة لا يمثل نفسه، بقدر ما يمثل تيارا، أو جبهة، وبالتالي فإن أي خبر يتعلق به، حتى وإن بدى شخصيا، لا يمكن التعامل معه كخبر خصوصي منغلق على نفسه، إذ لا بد من تأوينه على خلفية تحولات دراماتيكية يصعب التغافل عنها، خصوصا مع توفر عنصر " المفاجأة " من حيث ما تبدى لجريدة الوطن من ورطة لشيخ دعوي يتفانى بكل ما أوتي من هيبة ليناقض فعله الدعوي.


 


إذا، لا بد من إعادة مواضعات المواجهة، وترتيب كل ذلك في سياق التجابه المعروف بين جريدة الوطن، وتيار الشيخ العودة بما يحمله من عناوين واستتابات ونكوصات ومزاعم، بمعنى أن تحويل تلك الواقعة الأسرية أو الشخصية، أو مزحة العيد العائلية كما قيل عنها تبريرا إلى خبر، إنما تم وفق تصورين، أحدهما تم داخل تأطير أو إثارة إعلامية، والآخر استجلب من الخارج، أي من سياقات حياتية يصعب على الشيخ العودة التنصل منه كسيرة أو كفكرة أو حتى كانتماء، كما يصعب حتى على المجتمع تفويت فرصة تداولها.


 


المسألة إذا لا تكمن فقط في التقصي الثأري لأحد " الآحاد " أو الإنبهار بديمومة وحاضر هذا الفرد، واستثمار شخصيته الاعتبارية كما يتطلبها الولع الجماهيري بالنجوم، فكل يوم يذهب إلى العراق ويموت فيها من لا ترصده كل الوسائل الإعلامية، وبالتالي يكون أحد " الآحاد " الذين لا يمكن التعويل حتى على فجائعية مصيرهم، ولكنها تكمن في توظيف الأثر المترتب على واقعة تحمل في طياتها ما يمكن تصعيده إلى حالة تتجاوز الإخبار إلى مهمات إعلامية أكبر، وربما كان لهذا أكبر الأثر عند ماجد شبيب العتيبي حيث أتيحت له الفرصة الإعلامية للتأسف العلني على دم ابنه مقرن الذي ذهب ضحية فتاوى فقهاء أفسدوا عقول الشباب، حسب تصوره، وعلى ذلك لوّح بمقاضاتهم.


 


جريدة الوطن بكل ارتباكاتها المهنية ضمن هذا التجابه، وما يمكن أن تخسره فيما لو نقلت المعركة إلى أروقة المحاكم بدعوى التشهير، أظنها استطاعت أن ترفع منسوب المؤشر ناحية فضاء أو قانون ربما آخذ بالتشكل فيما يتعلق بأخبار " الآحاد " أو الأفراد المتنفذين أو الشخصيات الإعتبارية، بغض النظر عما يمثله ذلك الفرد دينيا أو فنيا أو اقتصاديا، المهم أنها استثمرت مناخ الانفتاح النسبي، وتورطت بشكل مقصود فيما يمكن بموجبه استثمار كل الأطر المسبقة لتحويل أي واقعة شخصية إلى خبر أو حتى إلى محاكمة جماهيرية أو شرعية أو قانونية أو أدبية على الأقل.


 ايلاف - الخميس 25 نوفمبر 2004


عودة للرئيسة