البنيوية ...أحقا ماتت بالسكتة المعرفية !؟

البنيوية ...
أحقا ماتت بالسكتة المعرفية !؟

المنهج الذي أعلن موت الإنسان، كل يوم يعلن عن موت جديد له، فلم يكن بمقدور " البنيوية " أن تنشأ وتموت كنشاط معرفي خالص مستقل عما يدبّر في خلفية المشهد الثقافي العالمي. وكغيرها من المنتجات الثقافية لم تسلم من تراشقات الحرب الباردة، وصراع المذهبيات السياسية والعرقية، منذ أن عرفت الدول أهمية الصناعات الثقافية، فالعالم كخارطة اعتقادات مؤسس على حالة من التجابه لا تقبل أدنى درجات التعايش حتى بين الخيارات الموضوعية.

هكذا يبدو الحياد مرفوضا، ولا نجاة لأي مذهب فني أو نظرية أدبية، من التلوث بحروب العقائد، حتى وإن كانت مؤسسة على مقاصد معرفية، أو وفق حاثات إبداعية، وعليه تعرضت البنيوية كمنجز معرفي انساني لموجات من الشد والجذب، وخضعت طوال مراحلها لتفسيرات تجزيئية، كما طالها جانب من التحريف والتقنيع على الدوام بوجوه متباينة توحي ببنيويات متغايرة أو متخالفة لا بنيوية واحدة، بذريعة تأوينها أو تصفيتها من الشوائب المعرفية.

الماركسيون اضطهدوا أنصارها لارتباطها بتروتسكي حسب بعض تفسيراتهم الابتدائية، فاعتبرها هنري لوفيفر أداة ايدلوجية رأسمالية لفرملة التطور التاريخي والإنتصار للرجعية، فيما اعتبرها جان بول سارتر المتحمس آنذاك لما سماه بالأدب الملتزم، الجدار البرجوازي الأخير ضد الماركسية، وذلك دفاعا عن مذهبه الوجودي الذي فقد بعض بريقه أمام وهج البنيوية وجاذبية حداثتها. ومن منطلق مشابه رفضها روجيه غارودي، يوم كان يقف يسارا وينظر الى العالم من تلك الزاوية، لأنها أعلنت موت الانسان.

وربما لهذا السبب أيضا فصل لوسيان سيباج من الحزب الشيوعي الفرنسي لأنه بالغ كثيرا في اعتماده على البنيوية لدراسة الفكر الماركسي كما فسر لاحقا، ولم يكن أمام الماركسيين العرب إلا الإستجابة لتلك الهجمة، امتثالا لتوصيات الكومنترن، فأعلن محمود امين العالم وغالي شكري وغيرهما الحرب عليها، تشكيكا وتضئيلا لفاعليتها، كما تعرضت في أكثر من معترك عربي إلى معركة كسر عظم احتجاجا على مفهوم موت الانسان ذاته، وأنسنة النص المقدس، كما حدث مثلا بين عبدالله الغذامي وحسن الهويمل، حتى بدأ الإعلان عن موتها بالتقسيط.

فهل كانت البنيوية بالفعل أداة تدمير للمعطى الإنساني؟ وهل هي، ضمن تلك الموجة الرافضة، وكما قد يتبادر الى الذهن، مجرد أداة لعب سياسية ارادت به الليبرالية المعاصرة إرعاب المعسكر الشرقي!؟ وهل يمكن تجريدها من أبعادها المعرفية لمجرد انها استلبت قسرا وطوّح بها الى هذا الطرف او ذاك!؟

بالتأكيد لا، فهذا التصور غير صحيح الا في جوانب محدودة، فالبنيوية منهج مغضوب عليه في الأوساط الغارقة في ارتكاسية ما يسمى بالثوابت وأصالة الماضوي، لأنها تنتهك المقدس بالمعنى الذي أسس له طقسيا وليس من الناحية العقائدية الصرفة كنص أول، بل أن اصحاب الحس الإنساني رفضوا البنيوية وتوجسوا منها فيما يشبه " الميسونية " التي يعرّفها يونغ بالخوف العميق والخرافي من الحداثة، وقد كانت البنيوية حينها عنوانا من عناوين الحداثة المربكة.

وقد استطاعت الليبرالية " توضيب " العقول وإعادة إنتاج المعرفة بمواصفات خاصة تخدم مصالحها الاستراتيجية حسب روجيه غارودي، عبر جهد تبشيري واسع شارك فيه ريمون آرون كمنظّر أيدلوجي، على سبيل المثال والكثير من مفكري اوروبا الذين أتاحت لهم الليبرالية من المنابر الإعلامية ما يكفي لتقويض أجمل المبادئ والقيم الإنسانية، ونفختهم بالدعايات وما يتطلبه المشهد الثقافي كسوق، كما استطاعت ان تزرع وسط الماركسية متمركسين يعملون على تحريف وتقويض الماركسية واليسار عموما من الداخل، فيما عرف حينها بالتحريفية.

هكذا نجحت الليبرالية في تعليب جملة من المنتجات الفكرية الإنسانية، لكن هذا لا يعني أن البنيوية كانت رهينة سياسية لا صلة لها بالنشاط المعرفي، حتى وان صادرتها السطوة الليبرالية، فهي اشتغال انساني على درجة من التشظي كما يتأكد ذلك من خلال تأمل الأسماء الفاعلة في هذا الحقل المعرفي بتبايناتها المختلفة، الماركسية عند لوي التوسير، والابستمولوجية عند ميشيل فوكو، والسيكولوجية عند جاك لاكان، والأدبية عند رولان بارت، والانثربولوجية عند ليفي شتراوس، والألسنية عند سوسير، والرياضية عند مدرسة البورباكي.

ولكن يبقى السؤال الأكثر حدة وتعقيدا عما إذا كانت كل تلك الأسماء تعمل كعقول حرة وتمارس نشاطها بمعزل عن التوجيهات والنيات المصممة استراتيجيا أم هي خبرات شيطانية تمت برمجتها حتى باتت مسخّرة لخدمة قوى سياسية!

ربما كان أولئك أو بعضهم على علم بما يحاك في الظلام، ولذلك كان جان بياجيه يحاذر الإنحياز بها - اي البنيوية - عن حقلها المعرفي، ويفصل بينها كمنهج وبين موضوعاتها كعقيدة. وهنالك من كان لا يستطيع النظر الى رومان جاكبسون الهارب من الإتحاد السوفيتي الذي أسلم راية البنيوية لشتراوس كمثقف مضطهد دون اعتبار الملابسات السياسية آنذاك. بل أن البعض تشكك في سر انحسارها فقرأ شكل الإماتة المبرمجة لها وفق حوادث فردية كالموت المريب لرولان بارت وموت ميشيل فوكو وجنون التوسير.

لاشك ان البنيوية صدمت الإنسان باعتباره مجرد علاقات، وأرادت في لحظة ما أن تنحاز به إلى مستوى الآلة، كما استدرك أحد أقطابها وهو كلود ليفي شتراوس، وهذا بالتأكيد كان أحد أسباب اعتلالها وانحسار تأثيرها، ولكنها بالتأكيد كانت أيضا عاملا من عوامل تفجير العقل الإنساني والإنطلاق به نحو المغامرة في تعليل الظواهر واكتشاف الأسباب التي لا تنالها الأدوات التقليدية.

إذا، ستظل علامة هامة في تاريخ التفكير الإنساني كفكر حفري رائد، استطاع توسيع مدارك الإنسان بنفسه ومحيطه، رغم انطفاء وهجها، وانتفاء أثرها تقريبا، ورغم إعلان موتها على أكثر من صعيد، ليبقى السؤال الأهم وهو: هل صحيح أن موتها كان لأسباب معرفية بحتة!؟ أم لأنها لم تعد أداة مواجهة، ولأسباب خفية (لا ثقافية ) انتهت صلاحيتها!؟

ايلاف - الأربعاء 24 نوفمبر 2004



عودة للرئيسة