قارئ نوعي بلغة كاملة | |
الإصدارات الإبداعية المتلاحقة تعيش يتمها بانتظار ناقد، أو هذا ما يتردد في جنبات المشهد الثقافي. وأظنها أحوج إلى قارئ بمواصفات تفاعلية، فهذا هو المدار الذي يتحرك فيه النص ومنتجه، أي تنشيط فعل القراءة النوعي، رهانا على قارئ يقارب النص كمؤلف مضاد، فثمة ضرورة لكائن تداولي، لا يكتفي بملامسة النص أو المنتج الإبداعي بمعزل عن عملية انتاجه، إنما يمارس التفكير المعلن في شروط تولده التاريخية والإجتماعية والنفسية، لتفتيت وهم الملكية الفردية للنص، المتأتية من الإيمان الأحادي باللغة، فهذا هو الكفيل بقراءة وثيقة الصلة بالمعنى الخلاق للثقافة، لا ترتهن للاستهلاكي أو اليومي الذي لا معنى له.
وبالتأكيد ثمة قاعدة قراء عريضة، مؤكدة من خلال الإقبال الواسع على اقتناء الكتب، وتهافت دور النشر على طباعة الكتاب المحلي وتوزيعه والترويج له كسلعة، أو حتى كمنشور سياسي، ومن خلال التلاسن في منتديات الانترنت، بين أشباه القراء، حول أفضلية هذا الكتاب أو ذاك، ولكن فعل " المقروئية " الحقيقي هو الفريضة الغائبة، بالنظر إلى تدني مستوى الوعي بأهمية وجود القارئ التفاعلي في العملية الثقافية، والتنازل اللاواعي عن العلة المادية للنص، أو الاعتقاد القاصر بوجود شيء خارجه، وكل ذلك يتأتى من تراجع المعنى الوظيفي للثقافة، وعدم الإقتناع بمحمولات النص الموضوعية القادرة على تغيير بؤس الواقع.
ويبدو أن القراءة الجادة معطلة نتيجة اعتقادات ثقافية مغلوطة، تبدأ من وهم الإجهاز على " متعة النص " ولا تنتهي عند الخوف من " موت المؤلف " وما يستتبع ذلك من تعقيدات تطال المقدس والمصطلح، وهذا هو ديدن القارئ المستعجل قبالة " أنا " المؤلف العليا، كما يستمسك بامتيازها بعض المبدعين، وهذه خرافة مزمنة استطاعت نظريات القراءة تقويضها، فالمبدع كائن يشبه نصه إلى حد كبير، وليس مخلوقا منبتا عن نسيجه الإجتماعي، وبالتالي فإن مثل هذا الفعل القرائي يبدو ضرورة، فهو لا يهب القارئ فرصة التماس بالنص واعتصار معانيه المتعددة وحسب، بل يؤهله لمطاولة شاعرية النص، والتداني الفاعل من الذات المنتجة له.
إذا، ثمة حاجة ماسة لقارئ يعي دوره كمنتج، ولا يكتفي باستهلاك المنتج النصي على علاته، فالقارئ الحقيقي، قد يستأنس بسماع صوته داخل النص، ولكنه يغادر هذا الخدر بسرعة، ليفر باللغة من محاولات التعيين والشخصنة، وليؤكد من خلال مقروئيته الواعية على المعنى الوظيفي للثقافة عموما. وبشكل ما من أشكال المقروئية المتجاوزة يستمتع بلذة النص المفرداتية، لكنه لا يغفل عن المضمر منه، وعلى ذلك يختبر كل ما تقع عليه عينه بخبرات من خارج مدارات تشكل النص، فالقراءة وإن كانت فعلا شديد التماس بالموضوع، فإنها منذورة كفعل ثقافي لتجاوز كل ذلك لتطال حتى مكمن الأسلوب.
قد تبدو هذه القراءة صعبة، بل أقرب إلى فعل المناقدة بالنسبة للبعض، ولكنها تضاعف فرصة التمتع بلذة النص، والتماس مع منتجه بحميمية لا تتأتى من خلال القراءة الفضولية المستعجلة، والأهم أنها تعطي القارئ إمكانية استثنائية لإعادة إنتاج النص، أو تخليقه وفق مقروئية مغايرة، وثيقة الصلة بمركباته العضوية، وهنا تكمن الحاجة إلى قارئ على هذه الدرجة من الدربة والشغف بالقراءة لتحفيز الفعل الإبداعي، ليس بمعنى العمل كوسيط نقدي بين المؤلف والقارئ، ولكن من خلال القراءة المفتوحة، فتاريخ الرواية مثلا يؤكد على أثر القارئ في تطوير هذا اللون الإبداعي بمستوى لا يقل أهمية عن الكاتب ولا عن الناقد، على اعتبار أن الرواية هي خطاب الناس، وهي الفعل المشتق من الحياة أصلا ولأجلها.
القارئ الأفقي لا يهمه من الرواية إلا مستوى الحكاية بما هي معلومة ووقائع، على اعتبار أن السرد يعمل دائما كمكّون بنيوي في ذهنية القارئ، فهو القوة الفاعلة التي قد تزيح القارئ عن طيات النص الخفية، أو تقصيه عن شبكة المعاني والشفرات، فأفق التوقع القرائي يحدث في الغالب ضمن هذا المنظور، وبموجب ذلك الوعي لا يتعاطى القارئ النوعي السرد كمعادل للحكاية، بل كفعل ابداعي متعدد المستويات، وله من الحراك الأفقي والعمودي ما يشابك جملة من العناصر الفنية في أنساق متباينة لا تأخذ معانيها إلا داخل علاقات دينامية هي الأخرى، بمعنى التعامل مع نسق النص العلوي، ومن هنا تتأتى أهمية القارئ الذي يقترب من هذه التخوم ليؤسس صوته الخاص، المضاد لصوت المؤلف بالمعنى التقويضي والبنائي في آن.
لا توجد كتابة بريئة، فكل نص يريد أن يأخذ القارئ إلى جهة ما من الجهات حتى وإن كانت لذة مثلا، وعليه فإن على القارئ مراعاة هذه الخدعة المبيتة من المؤلف، فمن السهل الإنتباه لمرادات الكاتب الموضوعية، ولكن الأصعب هو تلمس نسيج النص الجمالي، خصوصا عندما يكون النص مستزرعا بجملة من المعاني المؤجلة، بالنظر إلى لحظة إنجازه مثلا، أو نتيجة تشكله في فضاء جغرافي مختلف، أو حتى إذا صدر من ذات على درجة من الالتباس وهكذا، فمثل هذه الإحتمالات قد تورط المتلقي في سلوك قرائي منحرف، إذ لا ينبغي النظر إلى المنتج الإبداعي المحلي ككتلة اعتباطية، وعدم التنبه للاعتبارات السوسيو-ثقافية.
ثمة حركة جوهرية أصيلة داخل فعل الكتابة تؤكد على وجود معنى، وهي تقود فعل القراءة إلى شيء من هذا الوهم أو الحقيقية لتسمّيه، وعليه فإن اللعب القرائي باللغة خارج النص يساوي عدم قراءته، ففي ذلك النوع من القراءات حالة من التغافل عن شفرات النص المتعددة، بما هو منطقة الإلتقاء بين " أنا " المؤلف وصورته كما يرسمها، وكما يعيد تركيبها القارئ في لعبة المتخيل، فالحاجة هنا ماسة لافتضاض بطانة النص الوجدانية والأيدلوجية ربما، لتأكيد معنى على درجة من التقدم لمفهوم الثقافة كما يقوم على التنوع والاختلاف والتباين بكافة أشكاله كما يستبطنها النص، ويتم تفكيكها بوعي قرائي منفتح.
إذا، القارئ كاتب في المقام الأول ولكنه لا يمارس الكتابة، فهو ينتج نصه من خلال قراءة واعية تكون معادلا للكتابة من حيث كونهما عملية انتاجية وتوليدية، فالقراءة الأفقية لا تنتج أي معنى، وعلى عكسها تأتي القراءة الحقيقية التي لا تردد صوت المؤلف بل تعني بناء ما تستقبله، وذلك هو فعل " التسمية " الذي يتجاوز به القارئ النوعي بساطة التقصي لخيط الحكاية مثلا، إلى ملاحظة شريط اللغة المصاحب، وهنا يكمن الوجه الخفي لعملية التصارع، أو تناهب المعاني، الخفي منها والظاهر، بين منتج النص ومستهلكه، فالنص متعدد الأبعاد والمستويات يستفز القارئ لإنتاج ما يقابل ذلك التعدد من مخزون المعاني، بحيث لا يبدو فيها فعل القراءة بعيدا عن مهمة الكتابة، فالتفاعل مع لحظة القراءة ومادتها، كان منقوشا أصلا في وعي القارئ.
هكذا تكون القراءة فعل بناء، تتم فيه مراعاة عملية الإنتاج بنفس الدرجة التي يحدث فيها التماس بالمنجز شكلا ومضمونا، لئلا يسجل القارئ فشله المسبق قبالة سطوة الكاتب، بمعنى مقاربة اللغة كمركب بنائي، وليس كأداة توصيلة، فليس هذا ما ينزرع في النص، على اعتبار أنه حالة من التواصل الضدي، بين الكاتب والقارئ للوصول إلى ما يسمى باللغة الكاملة، الكفيلة بتدمير التلقي النسقي، فهكذا ينمو النص إذا توفر شرط القراءة فبقدر ما يحتشد بالمعلومات، يكون عامل تغيير حيوي شديد التماس بالخطابات الإنسانية الكفيلة بانتاج منظومة من القيم المادية واللامادية.
لإقتصادية - الثلاثاء 28 ديسمبر 2004 |