الحداثة بين انفعالين
مرة أخرى يراد للحداثة أن تختبر على حافة خطابين متضادين، ليتأجج أوار المجابهة إلى درجة حرارة 451 فهرنهايت، وهي الدرجة الضرورية لحرق الكتب، حسب رواية براد بيري الخيالية، والتي يمكن أن تتحقق واقعيا لتقويض ما تبرعم ثقافيا في التسعينيات، بعد أن تم الإجهاز على منجز الثمانينيات، والشواهد على أرضية المشهد الثقافي أكثر من أن تحصى، رغم مظاهر التجاور، وشعارات التحاور، فهاهي الحداثة يعاد اختبارها مرة أخرى في " ميزان الإسلام " بين انفعالين وليس بين وعيين.
ليس طرفا واحدا من يريد اختطاف الشأن الثقافي بمنابره ومؤسساته، أو تأميم الصوت الثقافي لصالحه، فالنسق المتعدد أمر مرفوض في مجتمع شمولي النزعة، لا يقر التنوع بأي شكل من الأشكال، ولا يعي أهمية " الإختلاف " مهما تزيّا بالعناوين المضللة، وبالتالي فإن أغلب الكتابات الداعية إلى الأصالة والوحدة والمراجعة النقدية وحتى المواطنة، لا تعدو كونها شعارات لتدمير ذلك الهامش التعددي، حتى " حكاية الحداثة " عندما تصدى لها أحد الموصومين بها، لم تنسرد إلا وفق تصورات فردية ومزاجية واستئثارية.
هكذا تتم محاربة الحداثة مرة أخرى تحت مظلة من العناوين الخادعة، حتى بواسطة جلاديها وضحاياها، وعليه يتم استداج طراز من المثقفين مثقوبي الذاكرة إلى معركة خاسرة الغالب فيها مغلوب لأنها تحدث في الهامش. وقد يستجيب المثقف الذي عاش عطالة انتظار اللاشيء لئلا يتهم، صراحة أو ضمنا، بأنه أصل أو سبب لجملة من التناقضات التي تهدد وحدة النسيج الإجتماعي، وإرباك الهوية، وكأن هذا " الذهن الأفقي " لا يكف عن تدوير أسئلته المستهلكة.
في المجتمعات الناهضة، والمنظومات الثقافية التي تختزن حيوية التجادل، ينهض طراز من المثقفين يكون " الإختلاف " هو المكوّن البنائي في فكرهم وأدبهم، بحيث يصبح عدم الإتفاق هو الأصل، أما في المجتمعات الإرتكاسية المثقلة بالإحترازات والتحوطات فالعكس هو ما يحدث، إذ تبدو المغايرة مروقاً عن نص الأمة الجامع، وهو انحراف ينبغي تقويمه باللسان وإن أمكن باليد، ويتم هذا بهدف واضح وصريح وهو إماتة أي بادرة للإعتراف بحقيقة التناقض ومبررات انبثاقه بأي صيغة من الصيغ.
ليس هذا من قبيل التشاؤم، أو عدم الإيمان بجدوى التحاور، ولكن التفكير بواقعية ومسئولية أمر ملح اليوم، فدرجة حرارة التجابه المصمم مستصغر شررها في المختبرات بعناية ترتفع من جديد، وهنالك فصيل من المثقفين المهووسين بالتماهي مع ابن رشد في محنته، قد لا يدركون أن النار لم تقنع بجسد ابن المقفع مشويا على السفافيد، ولم يسمح لجثمانه حتى أن يأخذ شكل " الجثة الجميلة " كما تفنن السورياليون في رسمها، فهنالك من يجيد تمثيل الوقوف على الحياد السلبي فلا يلعن الظلام، ولا ينير دربه بشمعه، ولكنه يبتهج لمرأى رزمة من الكتب المحروقة، فالأمثولة التاريخية لا تموت بموت صاحبها، أو بخفوت صوته.
وقد لا يعقب التضييق والحصار ثورة كوبرنيكية، فهذا أمر لا يحدث على دكة المنبر، وعليه يكون " الصمت " هو النسق المضاد، كذلك الصوت، أو " النص الجديد " الذي تأسس في الظل، وكاد أن يزدهر، بحاجة إلى معركة إثبات وجود ليؤكد أصالته، وصلابة عوده كتيار، وأحقية حضوره، وليعزز معنى مضامينه، وجمالية طرازاته الشكلية، ولكن ليس بالتجابه مع بيادق هي بمثابة " الفرق الإنكشارية " لقوى لا تتعب ولا تمل من استعراض مفاعيل أو " مبيان " قوتها، والإستقواء دائما بما هو خارج الثقافي، أي بروح محاكم التفتيش.
وبالتأكيد ثمة حاجة إلى تعريف عصري وواقعي للثقافة يتناسب مع منسوب الخطر الذي تأسس على أحادية الرؤية، يحايث ذلك المؤسس بتعاليات " الآخر " ولا يغفل عن أصغر تداعيات الخصوصية، بمعنى أن هنالك ضرورة ماسة لإقرار التنوع العرقي والفئوي والمذهبي وحتى المزاجي بعيدا عن لهجة التأثيم وغمزات التشكيك ونوايا الإرجاء، فهذا هو الأفق الذي يموضع الفرد والمجتمع داخل صيرورة " العولمة " بحيث يصعب الفرار من مستوجباتها.
وهكذا تضاف اشتراطات أكثر التباسا وأهمية لتشكل المثقف، فهذا الذي يراد له الصمت، أو الإلغاء، او الغياب تحت وابل من الذرائع الترغيبية والترهيبية، يفترض أن يجد مبررات وجوده في كثرة الطرق على خرافة " النسق الأحادي " لتقويضها بالمتعدد والمغاير، واكتساب شرعية الإنشقاق، بمعنى الحراك لتفكيك السائد، والإرتطام النقدي الواعي مع منظومات الثبات، بما هي العائق المركزي لحيوية المعنى الثقافي، وممتطلبات الحداثة، وبالتالي فضح الخيط الرفيع الفاصل بين مستوجبات " التماثل " ومراودات " الإمتثال ".
الإختلاف ليس خطابا ثقافيا صرفا، فهو فلسفة أو رؤية متعددة الأبعاد، وعلى درجة من العمق لتصعيد وعي الفرد، وتحقيق نصاب أدبي من الجدل الفكري، ولكن هنالك من يدخل حلبة السجال حول الحداثة بفائض من " أوهام القوة " بما هو حارس الفضيلة، وصمّام أمان الهوية، والرمز الأوحد لمعنى الوحدة، ولذلك يبقى رهانه على الشمولية، لتذويب كل الفوارق والتشظيات الثقافية، بما يخدم حضوره المنبري، تأكيدا لمضامين قوته، وتعزيزا لسلطة خطابه، المؤازر أصلا من خلال ربطه بسلسلة من متواليات التأثير والسيطرة.
وعليه سيظل الطرف ( الآخر/الحداثي ) مجبرا على الدخول في معركة لم يتأهب لها أبدا، مبعثرا ومشتتا، وبالتالي متهما في هويته وضميره ووطنيته وحتى في قدرته على استيعاب عناوين الحداثة، فقد استمرأ عاداتها، لكنه لم يحاول أن يعيشها كحقيقة، وهكذا لن يكون الإنشقاق ديالكتيك الكائن الواعي للتقدم داخل اللحظة، بقدر ما سيكون وصمة.
كل من يعتقد بالإختلاف، حتى وإن لم يقاربه، مصيره الإقصاء، والنفي، وليس الإصغاء إلى فرادة نبرته، فهذا هامش لا يراد له أن يتسع لئلا يفارق قدسية النص، فهكذا تلتصق المجتمعات المرتبكة بالبائت من ماضيها لكي لا ترى راهنها، ولا مكان للمختلف حتى في فضاء المعرفي والجمالي، فهذه النزعة الإختلافية مرفوضة، حتى على مستوى الصدفة، أو التجريب، أو حتى لو كانت تلك الرؤية المغايرة فرصة لمراجعة التباسات الهوية، وإعادة بناء الصوت الوطني وفق تعددية لا تخل بوحدة كيان اجتماعي هو النص الجامع.
الإقتصادية - الثلاثاء 4 يناير 2005
|