النص عنواني ومحل إقامتي!! | |
حتى في الجزء الفاسد من اليوم، كما سمى تنسي وليامز فترة الظهيرة، كل يوم أمارس السياحة البصرية على الشاطيء. أتسمر قبالته لأكتحل بالزرقة. وبالتأكيد، لا أواعد أفروديت لتخرج من التاريخ أو من أسطورية زبده، ولكن لأتأمل الموجة الخليجية الوادعة وهي تتقدم ناحيتي. أراقبها وهي تتعضل.. تتشاهق .. وتنسدل، ثم ترتطم بالشاطيء فيما يشبه الإنتحار كأنها دموع كائن أزرق، غامض، اسمه البحر. لكن هلوساتي لا تصل إلى حد تخيلها تسير إلى الوراء كما توهمها ايتالو كالفينو بعبث آسر، أو هكذا أرادها أن تكون ليغريني بإمكانية القبض على فكرة الإحساس بالزمن.
هذا هو أحد ممراتي السرية إلى أناي، أي تذويت الوجود بمنادمة الحسيين من البشر، فكلما صرنا موضوعيين كانت مهمتنا التدرب على مشاهدة الحياة عوضا عن صناعتها، كما يعاضدني الشاعر العجوز كورنيل أولاتيتشو، فالذين يتخففون من ذاتيتهم، ويجعلون الموضوعية دينا لهم كاذبون. وبرأي صاحبي الأسطوري ادواردو غاليانو في معانقاته، هم خائفون من الألم الإنساني، ويريدون أن يكونوا أشياء، لكي لا يعانوا، وذلك بالتحديد، ما حذرني منه لاكان، ذات مداولة نفسانية، لأمنع تشتيت أناي المتوهمة، والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها على الأقل، للتقليل من اغترابها.
ولأني لا أقر كليانية " الحقائق الآريانية " كما يقترحها البوذي لإماتة الألم بخيلولة تصوفية، وبفائض من الأوهام المدبرة، من أجل عيش نبيل، أقر بأن المعاناة تتلازم بالحياة، بسبب الرغبة بالتأكيد، ولكن الحل بالنسبة لي، لا يكمن بالضرورة في كبح الرغبات أو قتلها لتتوقف المعاناة، فالسعادة ليست كلانية الادراك بل مجموع اللذة، كما يقرها المبدأ المادي لملكة الرغبة، بحيث تصبح السعادة كما دسها امانويل كانت في وعيي ولا وعيي مجرد حلم مبهم للقبول بالحياة، مرافق بالضرورة ودون انقطاع لكل الوجود.
إذا، فالاستجابة لمثل هذه الوصايا التكيفية فلن تتيح لذاتي سوى انتاج نصها الحياتي البديل في الهامش، وعليه أتعاطى النص القائم على أحلام اليقظة، بكل تطييفاته وتبدلاته كمكان للإقامة الافتراضية، فهذا هو ما يغريني للإعتقاد بأنا أيكولوجية كخلاص فردي، يكون فيها النص ملتبسا بالحياة ومتهما بها حد التطابق، كما دربني نيتشة على فن يشتهي الحياة، فمنذ أن سمعت دو شاذال يقول " العيون أجمل أماكن اللقاء " وأنا لا أواعدهن إلا هناك، في أقصى متاهات الجسد، وأحاول بكل ما أوتيت من احساس تنصيص ذاتي لأقيم في لوحة أو قصيدة فالنص بكل تلوناته وتجنيساته هو عنواني، ومهما تبرجت الأماكن ليس ثمة ما هو أرحب من النص مكانا للإقامة.
في رحم تلك النصوص أحدث وأتشكل، إعتقادا بالحب المتطرف، فعلى هذه الحافة الحسية يتم تأويني، أو هذا هو مكمن أوهامي وحقي في الحلم، كما آمن به غاستون باشلار، وأقنعني بجداوه، عندما جسده فعلا وكتابة في " الحق في الحلم " اعتمادا على ثقته القصوى في المخيلة البشرية، كما تنم جملة من كتبه التأملية، وايمانه المطلق بطاقة الهلوسة البصرية المرتبطة بالأحلام، فما نحلم به حقيقة معاشة في مكان ما من اللاوعي، وعليه افتتن بذلك الكائن الأسود ( الليل ) الذي يتحرك فينا، وحاول بكل شفافية الحالم أن ينغرس مشدوها أمام مصطبة بيته ليتلمس الكيفية التي يعمل بها ذلك الكائن، فالليل لا يستثير لديه النشوة، بقدر ما يقوده كحلم الى زاوية قصوى من روحه، أي الى تلك النقطة الجوانية المظلمة، أو السر الذي يملكه كل إنسان ولا يمكن له ان يدركه إلا من خلال معطيات الحلم.
لكل منا حلمه إذا، وعاداته التهويمية الفارطة في الانزياح عن الواقع انتصارا لشعرية الوجود المضيعة أو حتى لشعارات الأيدلوجيا والوعود المنكوص بها. بريخت مثلا أصر على الإقامة في شقة قبالة مقبرة ينام فيها هيجل، وطالما فاخر بذلك الجوار الحالم، فهذا هو حلم البروليتاري الذي أراد هدم الحاجز ما بين دكة المسرح وواقع الحياة. راقني هذا المحراب الموغل في توثين الكائن، ولكن تلك المسافة لم أختصرها إلا بمصاحبة جان جاك روسو الذي دعا الى مثاقفة الطبيعة بمختلف المقترحات الواقعية والدلالية تحقيقا لتلك " الأنا الأيكولوجية " حين هجر المدينة وفر الى بحيرة بيّان، ليكتب " أحلام المتنزه الوحيد " وليحكي عن كائن مسائي منفعل حد الذوبان بموسيقى كونية يعزفها حفيف الشجر، وخرير المياه.
تلك الخفة الشعورية، المتأتية في المقام الأول من دراية حسية بالأنا، تعلمتها من زمرة أصدقاء حسيين، استدعيهم من التاريخ والقصائد والأفكار، فهي ذات الخفة التي أرادها الحلاج وهلوس بها، عندما تصور نفسه يمتطي منديلا ويختفي، وهي ذات اليد التي تمناها ابن عربي أن تمتد اليه من البحر ساحلا، فكل هؤلاء أرادوا الإستغناء عن كل متعلقات واشتراطات التوازن لتحرير طاقة الخيال، حيث التداني إلى " ايروس " كما سمى بانكيت تلك الرغبة العاطفية السامية المضادة لسطوة " اللوغوس " تحريرا لمخيالية متطرفة من ربقة العقل، هي بمثابة النقطة العمياء للمعرفة كما أغواني بها بول ريكور.
هيجل أيضا صادقته بمجرد أن عرفت بأنه ينتمي بصيغة ما من اصيغ إلى نادي الحسيين، فالفن كما فلسفّه لي هو مجرد تعبير حسي عن الفكرة، وكأنه يؤكد على مقولة المفتون بالطبيعة غوته الذي كان يدرب حواسه على تأمل الطبيعة تتنفس ككائن بيولوجي، وعليه أوصاني بألا أقارب هذا الوجود إلا عبر الحواس، أي بنفس المجس الاستجمالي الذي أسلمني سرّه نوفاليس، وهذا هو تقريبا ما زعزعني به هنري ميللر كشاب ديونيزي خصوصا في رحلته إلى اليونان، فعندما يتعلق الأمر بصبوة الحياة يتراجع الجميع أمام هذا الفارط في حسيته، حيث حقق حلمه وعاشه ذروة ديونيزوسيتكية، كما روى لي جانبا منها عن صديقه كاتسيمبالس في " عملاق ماروسي ".
هكذا يكون الواقع مضمارا لحرقة التجربة، ومحكا للخبرة الحسية، ليبقى الخيال هو العنصر المحرك لإنشاء تلك الصور الحسية التي تحال فنيا إلى صيغ إبداعية، يكون لها سطوة الدهشة وقابلية الخلود، فما يخلد في الارض يؤسسه الشعراء كما أفهمني هايدجر، أو كما جادلني هولدرن بحساسية جمالية، بأن الفن لا يكون فنا إلا بالعودة الى جوهر الطبيعة ذلك لأن الصفة الأساسية لهذه العودة هي في اكتشاف الشاعر التناسق الحيوي بين مفردات الطبيعة في علاقتها ببعضها البعض من جهة وعلاقتها مع الشاعر من جهة أخرى، وإن أربكني هذا التصور البكر لحقيقة الأشياء، فما زلت مأخوذا بوحشية الغابة كفعل جمالي للطبيعة، ومفتونا بما حكاه لي جلال الدين الرومي عن فردوسية الحدائق الفارسية، وذلك تحديدا ما زينّه لي مارسيل بروست في زمنه المفقود، حين قال بأن التحفة الفنية تتفوق على الحياة اليومية، وعليه فإن الانفعال الخاص أمام العمل الفني أهم بكثير من رد الفعل الفكري. |