غلاف جديد لرواية جديدة

غلاف جديد لرواية جديدة

يوجد روائيون جدد، ولكن " الرواية الجديدة " ليست موجودة. هذه المقولة التي أراد بها روبير بانجي توصيف المشهد الروائي الفرنسي إبان حمى البحث عن رواية جديدة، قد تنطبق على شكل المنجز الروائي المحلي، فهنالك بالفعل راوٍ جديد يحاول الإنتساب لفعل إبداعي مغاير، وتحقيق نصاب أدبي على درجة من التماس بمفاهيم التجريب والتجاوز بما هي مكونات التجديد الروائي في مزدوجة ( الشكل/المضمون ) للتأكيد على الطابع الإنتقالي لمعنى ومفهوم الكتابة، وصولا إلى رواية جديدة مستنبة في حقل ثقافي، ولو على مستوى الأنماط التعبيرية، وليس بالمعنى المتطرف الذي أراده روب غرييه وميشال بوتور وباقي السلالة، حيث الإخلال ببنيتي الزمان والمكان، وتذويب الشخصية، وإلغاء الحدث.

و بالتأكيد ثمة محاولات جادة لتفكيك الأنظمة السردية القديمة من أجل إنتاج رواية حديثة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى انشقاقي، وبكل ما تفترضه الرواية الحديثة كمهمة هدمية بنائية، لتأكيد وجودها كظاهرة سردية وثقافية في آن، ففي مثل هذه المراودات إجابة على جملة من تطلعات الذات الفردية ومساءلات التلقي الجمعي، حول ما تم أنجازه بشكل ملموس لتوليد طقوس قراءة مختلفة، فالتحدي التجديدي يفترض أن يطال كل عناصر الرواية، بحيث يتجاوز المغامرة الشكلية إلى حقائق ذات علاقة بالمضامين وقد تتمثل منطوقة بلسان أبطال الرواية، وعليه لا يتوقف ذلك التحديث بتصعيد شيء من المسكوت عنه، بل يتأكد بدلالات من داخل وخارج الفعل الروائي، تطال خصائص النص الروائي الأسلوبية والبنيوية، فالروائي الجديد يجسد رؤية مغايرة لمجتمع يعي أنه يتغير، بلغة ومدارك وموضوعات وصياغات مضادة لكل ما هو قديم، لا أن يعيد تعليب الخطابي والوعظي والرومانسي في غلاف جديد.

هذا يستلزم البحث التأصيلي في المرجعيات الجمالية والموضوعية المتعلقة بالفعل الروائي، أي الوقوف على سر طفرة الرواية المحلية، واختبار وعي الروائيين الجدد على محك النظريات الأدبية المعنية بنشأة الرواية من مختلف الزوايا، باعتبارها نوعا سرديا، وبموجب الهامش التعبيري المتاح داخل هذا الفعل، بمعنى ملاحظة علاقتها بالموروث السردي، ومدى التصاقها بطرازات السرد الغربي، وتلمس منسوب التأثر عبر الوسائط الثقافية، كما يتمثل في الرواية العربية، فثمة قارئ مزود بذاكرة ورغبة في التحاور، وهو من الدراية والإطلاع بحيث يمكنه القبض على الحبل السري لتلك المؤثرية، التي لا تبدأ بنجيب محفوظ ولا تنتهي بأحلام مستغانمي.

ومن السهل التقاط مصادر وأشكال التشابه بين الرواية المحلية ومقابلها العربي، من خلال تحليل مفاهيم الفعل الروائي المشتركة، وطبيعة الأفعال الصادرة عن الشخصيات ضمن بنيتي الزمان والمكان، ورصد المعاني والمضامين والموضوعات المستعارة، ومقاربة جماليات التعبير لتفكيكها ضمن فرضيات الاقتباس والتأثر والتناص والإنتحال أيضا، فالإحتكام إلى التشابه، كخلية مفسّرة، كفيل بتبديد وهم الظروف الحضارية المشتركة التي تنتج بالضرورة ظاهرة أدبية تعطل جدلية التفاوت، أو تؤخر ظهور رواية بخصائص محلية لا تفارق السائد والمكرّس.

الرواية تحدث في لحظة التحول، وتعبر بوعي عن ذلك الإنتقال التاريخي، فهي أكثر نظم التمثيل اللغوي كفاءة، بالنظر إلى ما تتسم به من حيوية وتنوع يسمح بتعدد وجوه التعبير عن الحقيقة، ولذلك تبدو اليوم خيارا أدبيا مستهدفا وملزما بالتحديث على مستوى المرجعيات الجمالية والمفاهيمية، فهي خطاب استحواذي على درجة من الإشتباك بالمنظومات الفكرية والعقائدية والأخلاقية، ويتداخل فيها آخر طرازات السرد والتفكير الإنساني، بل هي الفضاء التواصلي الأصدق لتمثل شكل الحداثة الإجتماعية، وعليه يفترض في النص الروائي المحلي أن يعمل ضمن وظيفة تمثيلية كاشفة لطبيعة الوقائع، من خلال رواية جديدة هي بمثابة نص أدبي متعدد الأبعاد، لا يتخفف بحال من المعنى الوظيفي للثقافة.

هذا ما يفترضه النص الجديد حين يعبر عن حداثة الحياة، فبنية الرواية تماثل البنية الاجتماعية حد مطابقتها، ولأن التجديد طبيعة شبابية، يمكن الرهان بطابور جديد من الروائيين على تحديث الفعل الروائي، فرغم انعدام لافتات وشعارات البحث عن رواية جديدة، وتشتت الفصيل الروائي على هامش المشروع الحداثي، حتى النقد لا يمارس دوره كما ينبغي لتعزيز هذا التيار، إلا أن التواطؤ الضمني على انتاج رواية مختلفة يتوفر بقدر معقول، ولو على مسافة من معنى ومفهوم " الرواية الجديدة " فبعض الراوائيين الجدد يؤسسون بانتاجهم لمبادئ روائية مشتركة ولو في حدها الأدنى، ويمارسون هذا التجريب في أطار التنوع والإختلاف، وهو أمر قد يثمر بعد عدد من المحاولات الكمية عن إنجاز نوعي مغاير.

التجريب الفردي ليس عائقا، إذا ما تحقق بنية تفكيك سكونية المتجانس. وقد تكون الرواية في أصلها التعبيري سردا يعكس عزلة الفرد، ويؤكد على طبعه الإنشقاقي، ولكن الروائي مهما أغرق في المزاجية والخيال، والتبست علاقته بالواقع، لا يستطيع اختطاف الرواية من سياقها، فهي كما الثقافة شأن إجتماعي، وانجاز تاريخي على درجة من التوازي بتاريخ المجتمع، وكلما راهنت على التعددية، اقتربت من الكينونة الإنسانية، ولذلك تقاس حداثتها بقدرتها على الكشف والتعرية، أي التقويض والبناء، فهي وثيقة تتم فيها صياغة الإنسان الجديد، لأن تاريخها يرتبط بظهور الهوية، وقدرتها على تسمية اللحظة، فهي مرجعية ثقافية قبل أن تكون ظاهرة أدبية، وعليه لا يفترض أن يكون غلافها الجديد مجرد بطانة وجدانية مضللة لرواية قديمة.

الإقتصادية 11يناير 2005



عودة للرئيسة