مخابئ وليد مسعود | |
من العبث النقدي " البحث عن وليد مسعود " خارج الشخصيات المساندة، فقد جردّه جبرا ليبقيه عصيا على " التسميةّ ". وبين طيات الرواية شخصية لا تقل أهمية عن " وليد مسعود " مصممة لتعيش حالة من التنادد مع الشخصية المحورية، وتشخيص حال مثقفين، يبنون خطابهم على مستوى ردات الفعل، وهجاء الآخر، والتقليل من قيمة أي شيء. أولئك الذين كانت " الكلمة " قدرهم العجيب، لكنهم عجزوا عن أن يكونوا جزءا من لحظتهم، فلاذوا بفروسية وهمية، ورؤى نحبوية غامضة، حتى تقزمت مواهبهم ازاء ضخامة الفواجع، فأنتجوا برثائية بائسة منظومة قيم مسكينة، صادرة عن هزيمة في الحياة.
هكذا رسم جبرا شخصية " كاظم اسماعيل " أعز أصدقاء وليد مسعود، والذي راهن على مصاحبته قبل أن تتعرض علاقتهما لهزة إثر صدور " الإنسان والحضارة " وتجرؤه بذريعة الأمانة الفكرية على وصف الكتاب بأنه " مجرد صدى آخر للأراء السهلة السائدة " الأمر الذي دعا وليد لاتهامه بأنه يختزن في نفسه ينبوعا من الحقد، ليرد عليه كاظم بصفاقة " في سبيل الدفاع عما أؤمن به، حتى الحقد يكون فضيلة " لدرجة أن أصدقاءهما أتهموه بقتله.
بمنتهى الفجاجة أنطقه جبرا ليكتب على إيقاع قهقهة شامتة " يجب أن أصوره على غير ما يتوقع - برجوازيا يجعل من الإنسانية قناعا يخفي به خوف طبقته من الانهيار، نشأ في أحضان النعمة، ويرى الحضارة من منظور غائم يخشى فيه على الحرية خشية أهل الترف، وينسى أن ضرورة الخبز تفوق كل الضرورات الأخرى ... يكفي أن أدعوه برجوازيا لتنهار القمة الصغيرة التي يتمتع باعتلائها ". وهكذا وظف ذكاءه بحقد ليصور صديقه كسليل لأرستقراطية باطنية، ورغم انقراضها كقوة اجتماعية أو سياسية إلا أنها بقيت فاعلة كقوة نفسية خفية، كعاهة يخجل صاحبها من الإشارة اليها وتمده بجبروت داخلي.
أحدهما يكتب بحرارة، والثاني يرفضها، ويقهقه بانتشاء، مع سيل من الاتهامات بالمثالية، والإيمان بقيمة انسانية أحادية، فهكذا كان كاظم " بطيء الإهتياج " يستفز وليد الذي يمكن إغضابه بحكة واحدة. وهذا الاختلاف في الطباع أدى إلى اختلاف التحصيل، وكان وليد حينها يعتقد أن صديقه مفكرا ومترفعا عن المادة، وأنه " حارس من حراس الإنسانية " لكن كاظم، وإن لذ له رأي صديقه فيه، كان في دخيلته يتطلع إلى شهرة الأديب، فقد أراد أن يكون شاعرا، وقاصا، وناقدا، غير أن مواهبة تضاءلت بعد سن الخامسة والعشرين حتى تلاشت، فيما ظل يزعم القدرة على أن " يقرأ الممحو " أو الجانب الآخر من الصورة، لتوضيح مبهمات المعروض منها.
ذلك ما كان يوقعه في التقّول والتخمين، والخلط بين الصحيح والخطأ، وكان ذلك هو سر قوة كتابته وضعفها أيضا. وعلى طريقة الكتّاب المنتهية صلاحيتهم كان يكرر" إني مصاب باحتقان فكري " وبنبرة لا تخلو من الإدعاء يزعم " كتبت مقالا أرفض نشره، لأنني لا أرى جريدة أو مجلة جديرة به " حتى كفاء ته كمحام كانت مثار شك، فقد أشرف على الخامسة والثلاثين، وهو ما زال يعتمد على ما يكسبه أبوه الحاج اسماعيل من تجارة الجلود، وراتب أخته سميرة العائدة من أمريكا بشهادة في التربية، أما زوجته ماجدة الصباغ، التي كانت تلميذته النجيبة، فلم تتحمله لأكثر من عام، بعد علاقة ابتدأت بتولّه عاطفي وانتهت إلى الطلاق، كما رسم خط تهدمه البياني جبرا، وكأنه يدلل بكل تلك العلامات على انطفائه المبرمج، فأنطقه ليعترف في حضرة الروائي، بشعوره بالوحدة، وبأن كل ما كتبه لم يحقق له حلما واحدا من أحلامه.
وفي ليلة شتائية ماطرة،اختطفه وليد في الطريق المؤدية إلى بعقوبة ليحاكمه " أنا لا أحاسبك على أحقادك. أنت حر فيما تحب وتكره ... ولكنني أحاسبك على ما اقترفته بحقي " ويرد عليه كاظم مذعورا ومتهالكا " أرجو أن تعيدني إلى البيت ... أعلم ما الذي تريد أن تقول. هناك ثقة، حب، صداقة، فضيلة ما ... أما أنا فلم أعد أعترف بأي شيء من ذلك " فيصفعه وليد بكلمات لا تخلو من الإزدراء " أهذا كل ما اكتشفته من الحقيقة التي جابهتني بها ؟ ".
وليد مسعود شخصية متينة، وليست هشة، فهو كالطاحونة الضخمة " تطحن القمح والزؤان " كما شبهه كاظم، وهو يتوقع الطعنات دائما، إلا أن تأتيه من أقرب أصدقائه، ولذلك كان يصرخ باهتياج " يوم قرأت مقالك لم أصدق عيني .. هجمتك كانت جارحة لأنها جاءت منك، منك أنت، وأنت أدرى بما عانيت من فقر، وما جابهت من المشاق " قبل أن يرميه في العراء، ثم يعود ليحتضنه في عناق حار، وبذراعين مفتوحتين، والأهم أن وليد ألح فيما بعد على صديقه لتجميع مقالاته في كتاب اختار له عنوان " وقت للتحدي ".
وربما أراد جبرا أن يبالغ في جرح كبرياءه، فقد كان الرجل بالغ الذكاء يتلقى هزائمه واحدة تلو أخرى، حتى تضخم في داخله حس الإضطهاد، نتيجة تراكم خساراته، ولم يعد بمقدوره، إلا تحطيم الآخرين، والإدعاء بالدفاع عن المثل الكبيرة، إذ لم يتورع عن الدّس والإستعداء، ولذلك صار كل من يعرفه يتحاشى التحاور معه، فبعد ابريق الشاي الذي اعتاده من خيرية، صار مدمنا يعود بعد منتصف الليل ليستأنف جدالاته العقيمة، حتى ضمر وجهه، واتسعت عيناه، واستطال شعره، وصار أشبه بالنساك.
ورغم اختفاء وليد، إلا أن الحقيقة لم تمت، فقد استدار كاظم استدارة كاملة وصريحة، ليكتب مراجعة جديدة لكتاب " الإنسان والحضارة " كمحاولة لاستبطان وجه فكري خاص لدراسة خصبة ومهمة، كما وصفها، ولم يكن من الواضح إن كان ما كتبه هو إعادة نظر جادة للكتاب، أو رتقا لصداقة ممزقة، لكن المؤكد أنه أطل أخيرا من على حافة هاوية مخيفة، فرأى بتصور جبرا، لا وليد مسعود فحسب، بل كاظم اسماعيل نفسه، فهنا خبأ جبرا شيئا من وليد مسعود. الإقتصادية 18 يناير 2005 |