لست شاعرا حزينا، ولكني شاعر متألم. بهذه العبارة المشبعة بالحس الوجودي فسر صلاح عبدالصبور نهجه الشعري ليرد على الذين جعلوا من حزنه تهمة وإدانة. ولأنه يعي تماما أن الحزن ليس مجرد تعويذة سيكولوجية لتبرير هشاشة " الأنا " أو ثيمة شعرية قابلة للإستبدال، دافع عن انغراسها في شعره كمن يذوذ عن وجوده، فقد أراد في سيرته الشعرية " حياتي في الشعر " المكتوبة بمزيج من الحس العرفاني، والإهتداء المعرفي، مفهمة ذلك الهاجس الوجودي، أو القبض على منابعه، لتبيان سر هوسه بالجذر الإنساني للشعر وزهده في مشتبهاته.
وبالقدر الذي بدت فيه عبارته محاولة للتفريق بين مفهومي الحزن والألم، أو فك التباساتهما الشعورية، استبطنت دعوة للتماس بسيرته، وإن انحاز بنا لمقاربة برانية، ليقطع الطريق على أي قراءة حفرية من داخل النص يمكن عبرها امتصاص أي شيء من أنساغه، وبهذا بدت سيرته محاولة للشرح والتدليل حد الإستعانة بمقولات وسيّر شعراء يراهم بشكل أو بآخر آباء ومفسرين لبعض خياراته الشعرية واستنتاجاته الحياتية، فكل فكرة يتداولها يؤكد عليها بعبارة لأحد أسلافه بما في ذلك ثيمة " الحزن " التي يعززها بشهوة إصلاح العالم عند شيللي، حيث يتواطأ الشاعر والفيلسوف في ذلك المكمن، وتحت وطأة هذا الشعور تتفتت الذات، وبالتالي تكون على الدوام عرضة للشك واليأس المرير والإستشباع الشامل للواقع والطبيعة، حيث التألم المودي بها إلى العزلة والتأمل والإنحجاب والإحساس بالمسؤولية المضاعفة للإنسان المحكوم عليه بالحياة.
انها سيرة تتشابك في ركام من القضايا بذات القدر الذي تمارس فيه تغييبا واعيا ولا واعيا للذات، لا لأنها مختصرة إلى درجة الإقتضاب الإشاري، ولكن لأنها، كمجمل السيّر الإبداعية العربية، أميل الى تنصيع الذات، والقفز على ارتباكاتها، فهي فكروية المنزع، تجهد للإجابة على جملة من المسائل لتشير إلى الشاعر في طوره الواعي، وفي مرتبة المفكر، لا في تناقضاته وحيرته تحت مطرقة التشكل، وانقذافه الدائم في الأماكن والناس والأفكار اللامختبرة، كما أنها سيرة غيرية، بمعنى إنهمامها بسرد وقائع وخيارات الآخرين، وهي بالتالي غير معنية بما يكفي للإرتداد الحر إلى الوراء لترك الذات تنطرح بكامل وهنها وحريتها منذ لحظات تشكلها الأولي، أي في الطفولة، باعتبارها المرحلة الأهم، فهي المرجع والوطن والقبر،كما يسميها صلاح ستيتية ويراها مسألة ضرورية لقراءة الشاعر، فهي مصدر لعنصرين مهمين بالنسبة للمبدع وهما الإحساس والمخيلة، أي الإحساس الأول بسحرانية العالم ومفارقاته المأساوية، وما يتطلبه ذلك الإكتشاف المبكر من استدعاء للحلم لمصارعة مظاهر الوجود.
حياة صلاح عبدالصبور في الشعر تمدنا بشذرات والماحات في صيغة استيهامات دينية، ومنازع أخلاقية، وولع اشتثنائي بالقراءة، لكنها لا تأخذنا حقيقة إلى ذلك النبع لنتلمس أصل الرضة الوجودية، كما أنها لا تقربنا أكثر من الشاعر في شيخوخته، أو في تقاعده الشعري، وإن كان لا يغفل عن هذه البؤر، انما يستدعيها من منطلقات فنية وعناوين جدلية لا من منطلق تأزم ذاته أو عطالتها، فهو يستشهد مثلا بمقولة لاليوت مفادها إن قليلا من الشعراء هو من يستطيع أن يظل شاعرا بعد الخامسة والعشرين، وهو ما يتطلب برأي عبدالصبور، لونا من التنظيم النفسي والوجداني يعينه على الإستمرار ومواصلة العطاء، بمعنى أن يكف الشاعر عن التحديق الذاتي في داخله، والإغتراف ببصره من الظاهرة الكونية الانسانية، أو هكذا فسر بعض منحنياته الشعرية، وعليه يمكن أن نفهم سر تقربه الواعي إلى منظومة مترامية من الشعراء، وإصراره على قراءة تاريخ الحقب الشعرية كما تتمثل في الأسماء والتيارات والحساسية الجمالية، حتى يصل إلى شكل من أشكال المؤاخاة الفنية/الوجودية بين المعري وشكسبير، النواسي وبودلير، ابن الرومي واليوت، الشعر الجاهلي ولوركا وهكذا.
وقد يبدو جانبا من هذا التفسير مقنعا خصوصا عند النظر إلى الصيغة التي اعتمدها ازاء ما تضخه مستوجبات الحداثة في الثقافة العالمية وانشغاله الواضح بالموروث، فهو قارئ نهم، يعشق دور الوسيط بين الثقافة العالمية والعربية لدرجة الإعتقاد بأن، الفنان يولد ويعيش في الفن، ويتنفس من خلاله، وكل فنان، برأيه، لا يحس بانتمائه إلى التراث العالمي، ولا يحاول جاهداً أن يقف على احدى مرتفعاته فنان ضال، ومن لا يعرف آبائه الفنيين إلى تاسع جد لا يستطيع أن يكون جزءا من التراث الإنساني، وهو في الوقت ذاته لا يستطيع أن يحقق دوره كإنسان مسؤول في هذا الكون، وعلى ذلك أعلن تأثره باليوت وبودلير وجبران الذي تجاوزه إلى أصله عند نيتشة ذلك الذي دفع به إلى الطرف الآخر من فكرة الإنكار كما يقول، وكذلك المعري الذي اعتبره " ثلاثة أرباع الشعر العربي " فيما تقاسم ربع قلبه الباقي أبو نواس وابن الرومي والمتنبي وغيرهم، وربما لهذا السبب إمتد أثره إلى هذه اللحظة، بما يعني أن شعره، أو بعضه، قد نجح في تخطي صرامة الناقد الأكبر وهو الزمن.
الاقتصادية 2 فبراير 2005
|