بالدهن الحر، وعشق العراق
وجيه عباس يتعولم
يعتبر كتابه شهادة على العصر، وأعتقد أن " عولمة بالدهن الحر " هو شهادة حقيقية على القهر والعهر، فوجيه عباس يهلوس بغضب، وبسخرية مرة. وبلغة القاع الإجتماعي ومن أجله يبث صوته. هكذا يرثي الإنسان وجيه إنسانيته المهدورة، بخطاب كائن عاش أجمل أيام عمره في رعب من دكتاتورية البعث. أجل الحزب، المتهم الأول بإيقاف الشعب العراقي على جسر المسيب، والتنكيل به.أما ما تبقى من عمره فيعيشه تحت وطاة الإحتلال. وهو مضطر الآن لتفضيح أذيال الفريقين.
ولأن الوجع يتجاوز بمضاضته إحساسه الفردي، إلى لغز العذاب الأزلي للعراقي، يحاول أن يعادل ذلك القدر المحيّر بمزاج عبثي، هو بصمته الأسلوبية للتهكم، حيث المزاوجة المستلة مما فوق الوعي، ومما تحت الخصر، التي تجمع ما بين مفاهيم ( بنيوية النص ) و ( تكعيبية الثلج ) فالعذاب الأزلي العراقي أغرب من أن يتصوره العقل، فقد أفنى العراقيون المسالمون أعمارهم مع جدّهم جلجامش التكريتي وهم يبحثون عن رئيس شريف، وبالتالي تعودوا على عشبة الخلود، وهذا هو السر الذي أصبحوا بموجبه نباتيين، أما مخترعات ( الديمقراطية ) فقدرهم ألا تأتيهم إلا محمولة على التوماهوك.
إنه وجع بنواح الموّال العراقي، وبطيش الكباريه السياسي، إذ لا تأخذ وجيه في الإشارة إلى الخراب لومة مهادن، فهو يكتب بوعي وذاكرة وتاريخ وتحليل متعدد الأبعاد، بعد أن صار العراق بالنسبة له أشبه بفيلم هندي، طوله عدة كيلومترات من الإحتلال، مخرجه امريكي، وأبطاله الشرفاء ومجنداته إيطاليون وبريطانيون، أما أبطاله غير الشرفاء طبعا، فهم شمر الزرقاوي وعصابته، والمشاهدون هم العراقيون الذين يقع على رؤوسهم وبيوتهم الرصاص ودخان البنادق وشظايا التوحيد والجهاد الاكَشر ( من الطرفين ) بعد أن تم إعطابهم وتسمين برتقالاتهم بفتات الحصص التموينية، ضمن سياسات التجويع، واتفاقات النهب المنظم للنفط مقابل الغذاء، ومدري شنهو بدل ما ادري متى ولمن وشلون.
إنها هلوسة الكائن المصاب بالوطن، المقيم في منطقة غائمة ومستحدثة حداثة الصحن الحيدري بعد القصف الأممي اسمها ( بغداد شنطن ). وهو كعراقي حداثي النزعة، حسينزم الهوى، كربلائي الوجع، عجرمي الإيقاع، مطالب بتوليد معنى من كل ذلك الذي يحدث بلا معنى، فذلك هو الوعي المبتلى بحتمية الإنشقاق على نفسه، حين ينتبه إلى الكيفية التي أقسم بها الحكام الجدد اليمين الدستورية مع عدم وجود دستور، وحين لا يتعرف الشعب العراقي على وزرائه إلا بعد تعرضهم للإنفجارات، قبل أن يتسلم مجلس الحكم أوراق طلاقه السياسي ونفقته الشهري، فلم يكن بمقدور أعضاء مجلس الحكم ( الملتحون والحليقون ) إلا مد أرجلهم على قدر ميليشياتهم وشوارب رجالهم، فهكذا حُكموا وحكمُوا، حتى العلم الجديد صممه عراقي - بريطاني، لا لشيء سوى انه شقيق أحد أعضائه المحترمين، فكل شيء مربك وعجائبي بعد أن عاث " المفرهدون " في الأرض نهبا وفساداً وإفساداً، وبعد أن تحول العراق إلى إسفنجة مهمتها إمتصاص جميع المندلقين من الخارج إلى الداخل لمحاربة امريكا، فيما تمتص أمريكا كل نفط العراق وخزينته وذهبه.
هكذا يكتب وجيه عباس بيقين تام بأن اللغة زانية، والحرف عاهر، لأن القابض على كلمته، برأيه، كالقابض على جمرة، والجروح قصاص، والمداد رصاص. وبنفس الروح التفضيحية يعيد تفكيك أسطورة القائد الضرورة، ليرسم معالم غبية لمحنة مثلثة، ساهم فيه الساسة والمثقفون العرب ممثلين في رغدة، والغيطاني، وحميدة نعنع وباقي السلالة المطبلة والمؤرخة لسيرة الخواء والتغطرس الصدامية، التي اكتشفها العراقيون بعد عقود ثلاثة من اكتشاف صدام للجبنة المثلثة، فقام بصبغها باللون الأحمر ولصقها على زنود حرسه الجمهوري، وحين تأثر بثلاثية نجيب محفوظ، تصورنفسه ( سي السيد التكريتي ) فكتب وفقا لعقيدة التثليث هذه ثلاث روايات ( زبيبة والملك ) و( القلعة الحصينة ) و ( رجال ومدينة) على أيقاع ثلاث هزائم أو مسلسلات هزلية ( القادسية ) و ( وأم المعالف ) و ( أم الحواسم ) إلى أن انتهى به الأمر إلى جحر وما أشيع بعدها عن ( إغتصاب القائد الضروري ).
ولأنه على درجة من الصفاء، والقدرة على تسمية الأشياء بأسمائها، يبدو الكتاب أحيانا وكأنه صوت بؤس الداخل العراقي، مقابل بذخ القادمين من الخارج، أو الذين يحاولون التنصل من تاريخ مؤازرتهم للنظام السابق فقد ذهب صدام مع الريح وذهب ولداه وتنفس العراق كرامة الحرية إلا ان المشهد عاد وتلطخ بنفس الوجوه والأسماء وكأنهم كانوا في حفلة تنكرية لمدة(35 ) عاما، وبمجرد سقوط ( أبو الليثين ) رفعوا وجوههم المستعارة ولبسوا الوجه البديل، وكان من بينهم المهندس الزراعي والنجم الرياضي، الذي اتضح أنه مظلوم ومضطهد، رغم أن البطالة دور تمثيلي لم يمثله حسين سعيد العاطل أصلا، بعد أن حول عدي رأسه الذهبية إلى رأس من تنك، فهو على يقين بأن الشرفاء في بلاده منقرضون مثل دب الباندا، بدليل ثبات عدنان درجال على موقفه الموالي للقائد، وعدم التزام أمير الحلو وباسل الخطيب بالعدة الشرعية بعد ذهاب القائد، وزيارات مثال الألوسي بأمر من علاوي لتوحيد الأجرة في منشأة نقل الجلبي.
لا يعيد وجيه تركيب الأحداث ليرش المزيد من الملح على الجرح، ولا ليرفع من منسوب التشاؤم، بقدر ما يصر على المكاشفة، إيمانا بالمستقبل، ولئلا يكون بمقدور أحد تزوير التاريخ بممحاة مغمسة في دموع ودماء الفقراء تطمس ما تريد، فهكذا يتقدم بجرأة وبتوثيق صريح، لينشر غسيل الإنتهازيين القذر على حبال العراق، وتحت شمسها الجديدة، ليعري الصحف الخرساء الغارقة في العمالة من رأس تحريرها وحتى إحتلال تصحيحها، كونها لاتفقه من شرف اللغة حرفين صحيحين بلا علّة، فهو يعرف ( كل نواة بتاريخها ) ولذلك لا يتواني عن كشف أخطر دور لعبه سعد البزاز كصحفي أفرغ بلاده من المواهب الثقافية الهاربة من الجوع لقاء فتات من المال.
وبفطنة مثيرة للضحك والأسى يهزأ من محبي ( نمور عدي ) ومرددي شعار ( الوحدة ونص ) المؤمنين بعقلية ( عبد حمود) وصاحب نظرية ( عليهم ) النسبية، الذين يجيدون بل يبالغون، بمعنى أدق في الإنحناء تسعين درجة أمام القائد والليثين كمحمد الزبيدي، فهذه هي بعض خصال البعثي الأصيل، وعلى ذلك التقعيد الحزبي، يعلن بمنتهى الوضوح رداءة موقف الفنان كاظم الساهر ( حامل ليفة القائد ) الذي طالما تاجر بأوجاع العراق بعد أن غنى لعنيفص جزار الانتفاضة الشعبانية ( اثبت ياعقال الراس هو عراقنه اشويه ) ليساويه مع خضير هادي صاحب أغنية ( أبو الليثين ) ولا يبتعد به كثيرا عن رائد مسرح الضحالة عمران التميمي.
وبنفس الروح الساخرة يواصل التفضيح، وتحدي الذين يحاولون عبثا تمثيل دور التائبين، خصوصا ذلك المندلق الذي نسي اسمه في لندن، واشتهر باسم ( هسن الئلوي ) . ذلك الإنتهازي الذي كان ماسحا لموائد سيده المرجوم أحمد حسن البكر ثم تحول الى ماسح أكتاف صدام حسين، وعلى ذلك يذّكر العراقيين بوقفته الذليلة إلى جانبه وهو يأكل ( الرقي ) في زيارته المشؤومة إلى أهوار الجنوب، وخروجه بأول لقاء صحفي معه ليكتب معلقته المخزية ( أنا ارى فيك رئيسا من طراز رؤساء مدينة الفارابي الفاضلة )!! وهو أمر غير مستغرب في هذا الزمن الذي تنازل فيه المثقف عن كتابه من أجل ( مو....بايل ) وتوالدت فيه كائنات عجيبة وشديدة الحماس للوهم مثل يونس ناصر عبود، وهاني وهيب الذي ورثه فريد عقراوي بنسخة محدّثة أو شبه معدّلة وراثيا.
ولأنه على درجة من الفضول، يصر على أن يدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة، إذا كانت تخص ( الصالخ ) العام، فحادثة ( أبوغريب ) مثلا يقاربها بوجع وتفجع، فالعراقيون، برأيه، خلعوا ملابسهم الداخلية أمام المجندين والمجندات الاميركيات، وقد وضعت الأكياس على وجوههم لحفظ ماء الوجه! ( ومجلس الحكم في حالة إنعقاد لمهمة وطنية ). تتقدم المجندة الاميركية( سابرينا هارمن - هذه الطفلة التي تصفها أمها بأنها غضة طرية والتي كانت تعمل في محل لبيع البيتزا- وهي تحمل بيدها لعبة بلاستيكية لتثأر من سجناء مقيَدين كل جريمتهم أنهم أشرف منها، تمد يديها لتزن اللحم العراقي، بينما يتعجب السيرجنت (إيفان فريدريك) والجندي جيريمي سيفنسن من أخلاق أختهما في الشرطة العسكرية الأمريكية ليندي أنكلاند.
يحدث هذا وسط عاصفة من التصريحات والوعود المتناقضة لتضييع أصل ومغزى الواقعة، وعلى ذلك يتخيل بعد 35 عاما لن يتعرف العراقيون على ماحدث في ( أبو غريب ) وسيبقون يرجمون بالغيم إلى يوم يبعثرون، سيقولون هم سبعة امريكيون وثامنتهم كلبتهم، ويقولون انهم خمسة وسادستهم الجنرال ( جانيس كاربنسكي) ، والله ورسوله وسانشيز يعرف عددهم، فهكذا يعود الأميركان ليثأروا من رسالة ابو غريب الفريدة في تاريخ الجنس العربي، التي أفهمتهم ان المؤخرات العراقية أشرف من مقدمات القمم العربية التي حفر عليها، وليسخروا من اوروك حيث إكتشف السومريون الملابس الداخلية وغطوا مؤخرات الجميع.
هذه القدرة على اختصار الوجع العراقي هي ما تعطي كتابته تلك الدفقة الروحية، خصوصا أنها محقونة بلهجة أو لكنة عراقية مؤانسة، ومختبرة مزاجيا على رجة فيفي عبده وليس مقياس ريختر، فوجيه عباس ينحت لغة تزاوج بين تفكيكية جاك دريدا وعدمية سجوده، وبين أسطورية أنكيدو ونواح الريل وحمد، وبين نظريات التحليل النفسي للأسطة فرويد وشعبوانية النظرية الديمقراطية لأم إلعيبي، وما بين شكوكية نيتشة ويقينية خريبط الغيبية، فهو يسجل ما حدث لحظة تهاوي التمثال، وتسليم الملف الأزرق، وما يحدث الآن في لحظة الإنتخابات، ويبث على وتر الفجيعة مباشرة ما أغفلته الفضائيات العربية والعالمية، وما تهامس به العراقيون وتندروا به، عن زوبعة تقبيل الباججي ليد الشيخ زايد، وعن الأزمة الدولية لتهشيم صورة الجلبي، وعن الميليشيات الملتحية والحليقة التي تكوّنت بعد دمج المنشقين من حزب الدعوة الكيني والحزب الشيوعي السريلانكي وتكوينهم لحزب ( إشدعوة ) فالعراقيون في لحظة التحول هذه كما يحللهم ( سكارى وماهم بسكارى ) بين ذل العيشة والثورة على الحشيشة، وبين بلاوي الستلايت وانطفاء اللايت وبين كثرة الاحزاب وعودة الذباب.
إنها محاولة عبثية من كائن محتج، لقياس المسافة بين وصايا حمورابي وما أنزله الأمريكيون، فهو يرى الكل يهرب إلى الامارات، الرؤساء الفاشلون والصحافيون وضباط المخابرات والطبالون والراقصات، كلهم اجتمعوا لتكوين حكومة ( البرتقالة ) في المنفى، اثر تأثرهم ببوادر نشوء حزب معارض هو ( حزب الطرشانة الوطني ) ولهذا وجد من الاهمية بمكان، تنبيه الأمة إلى قضية مصيرية سوف تنير شمعة العراق قبل لعن ظلام امريكا لاسيما وان العراق يهرول نحو مشروع الخصخصة والمصمصة، خصوصا أن البحث ما زال جاريا عن النسخة المحدّثة من ( الرجل الثلجي ) كما يسمي عزة ابراهيم بعد أن تم العثور على النسخة الأصلية في جبال الألب، فيما يستمر الرجل الثاني موفق الربيعي القابض على أخطر منصب أمني، في صمته، على طريقة أفلام العصابات، فهذا هو قاموسه اللغوي الفريد القائم على إزاحة المفردات عن مواضعاتها، فهي كتابة طازجة، تشبه الكلام والمباسطة أو التفكة، وتنفذ إلى الوعي بشكل عمودي، لأن مرتكبها ( مجرم حرف ) كما يتهم نفسه.
ورغم اتكائه على مخزون ثقافي يجمع بين اليومي والتاريخي، إلا أنه لا يوظف هذه الذخيرة للحط من قيمة فئة، أو التقليل من إسهامهم في تحمل ويلات النظام السابق والتعويل عليهم في القادم، فالعراق كوطن موحد هو مراده من كل ذلك الصراخ في ليل العراق الطويل، فهو لم يكن ضد مجلس الحكم وحكم المجلس، أو ( مجلس أصحاب الكهف ) كما يتهكم، بل مع كل عراقي أعطى لهذا الوطن صدره الذي تحمل رصاصه خمسة وثلاثين عاما ضوئيا من آلام وخطابات السيد الرئيس والقائد المنصور والوشاش، ولم يعط ظهره لهذا الوطن النحيل كجذع نخلة مريم دقيقة غربة من هذا الزمن الأحدب الذي قوس ظهورهم كعجوز مراهقة.
اللهم هل بلعّت..... هكذا تكلم وجيه عباس، كمن يؤذن في حانة، ليوقظ العراقيين النائمين على نيّاتهم، وإلا فإنهم سوف يحتضنون ( الطرشانة ) وهذا سيمهد بدوره السبيل لظهور صدام حسين آخر بمواصفات كونفدرالية، فالخدعة ستكون مؤلمة عندما يكتشفون أن ما حدث ليس سوى استبدال ( إعليوي ) ببديله المستحدث ( علاوي ).
كتابات - 6 فبراير 2005
http://www.kitabat.com/i2226.htm
|