شاعرات في منفى اللغة

منذ أوزان ثريا قابل الباكية، أي قبل أربعة عقود، يتم التعاطي مع أي إصدار شعري أنثوي كحدث إجتماعي، حيث يتضاءل الإهتمام بالقيمة الأدبية أمام هول المفاجأة. ولأسباب لا علاقة لها بالثقافة يتصاعد الفضول الإجتماعي للتلصص على شكل الكائن المغامر الذي تهور لينكتب على الملأ، ويبوح بشيء من حميمياته، ولكن دون نوايا جدية للتعرف على الذات الإبداعية الجديدة، الأمر الذي يفسر جانبا من الكمون النوعي والكمي المزمن للسلالة الشعرية النسوية.


 


وحين يتعلق الأمر بإصدار شعري أنثوي باللغة الإنجليزية، كما أقدمت عليه عبير زكي مثلا بمجموعتها شذا الشعر Poetic Aroma أو كما قدمت نفسها نعمة اسماعيل نواب، من خلال مجموعتها The Unfurling  يتخذ الحدث شكلا مضاعفا، ويتم تصنيفه كحالة من حالات التحدي وإثبات الوجود، فالكتابة النسوية عموما، وضمن حقل غير ثقافي هي فعل ضدي، وينظر إليها أحيانا بمثابة علاج بالصدمة، وعليه تغدو الكتابة الشعرية إنعطافة متطرفة بالنسبة لكائن لا يملك صوتا داخل الحيز الإجتماعي.


 


وربما لهذا السبب بالتحديد، تحاول الشاعرة أن تقرن إصدارها الشعري بفضاء حقوقي أو إجتماعي، أو هذا هو المقرر لها كحتمية ثقافية، وكأن نصها لا ينفصل بحال عن صيرورة التحولات المجتمعية، ففيما رصدت عبير زكي ريع كتابها لمنظمة اليونسيف، وقعت نعمة نواب مجموعتها في مكتبة جرير بجدة، فيما يشبه التظاهرة الجماهيرية، وهو أمر يختلف، بل يفوق ما أقدمت عليه مي كتبي بتوقيع مجموعتها الشعرية الثانية " ثريا " بمركز " فيرجن " في بيروت، فالفعل هنا يحدث على أرضية معادية، وبمواجهة بنية إجتماعية مسيجة بروح المحافظة الساطية.


 


هكذا تؤدي الشاعرة مهمة شعرية وأخرى حقوقية بموازاة نصها، وبعيدا عن كل ما قيل عن المجموعتين الشعريتين، خصوصا من " الآخر " الغربي، الذي اعتبر هذا الشعر جسرا استثنائيا للتواصل الإنساني، ووصف الذوات المنتجة بالنجوم اللامعة في ليل مظلم، أعتقد أن الأولى هو قياس " منسوب الشعر " فيما تم طرحه وتداوله كحدث إجتماعي، لئلا نخسر الشاعرات بتحويلهن إلى ظواهر إعلامية، كما تبين من شكل التعامل الصحفي مع منتجاتهن، ففي الإصدارين قيم شعرية وإنسانية جديرة بالمحاورة، والبناء عليها كنواة لكتابة مختلفة يمكن بموجبها توسيع هامش المشاركة الإجتماعية، وتعزيز أهمية النص النوعي.


 


سيرة الشاعرتين، وتطوافهما عبر الجغرافيا والأنساق والثقافات، وحتى نصوصهما تشير إلى إقتدار ودراية بوظائفية المعنى الثقافي كفعل مواز للحياة، بدليل تورطهما الفاعل في القضايا الإنسانية، ولكن شعرهما المكتوب باللغة الانجليزية تولد ضمن ظرفية خاصة، ومن أجل قارئ بمواصفات مختلفة، وإن كان هذا الإنتحاء لمخاطبة " الآخر " لا يلغي القارئ المحلي، ولا يعني الوصول للعالمية، فالكتابة بلغة أخرى فرار جميل من سجن اللغة الواحدة، خصوصا عندما تجترحه الذات الإبداعية بقصدية ووعي، ولكنها لا تدمغ منتجه بشكل آلي بسمة العولمة، ففي النصوص كما يبدو حالة من الإرتداد إلى الداخل، حيث الحنين إلى المكان والطفولة، وعلو النبرة الحقوقية، مع التأكيد على نعومة العبارة الأنثوية والعناوين الفاقعة للنسوية.


 


إذا، نحن أمام جيل جديد من الشاعرات العابرات للثقافة العربية إلى أفق الثقافة العالمية، فعبير زكي تتحدث أربع لغات، وتجد نفسها - تعبيريا - في الكتابة بالانجليزية، وتعلن بفرح عشقها للشعر والثقافة الآسيوية. أما نعمة نواب فتفصح عن تأثر بميلتون وبابلو نيرودا وشكسبير وامرسون وروبرت بلاي، وهذا التماس النوعي والمتعدد الأبعاد يعني القفز على جاذبية الشعر العربي، ومفارقة السلالة الشعرية النسوية المتأثرة بأدونيس ودرويش وقباني والجواهري والسياب، وهو ما يفترض وجود خصائص أسلوبية مفارقة لما أنتجته فوزية أبوخالد، وثريا العريض، وخديجة العمري، وسلوى خميس، وهيلدا اسماعيل وبقية القبيلة الأنثوية.


 


هذا التأثر المباشر والصريح بالثقافة العالمية يعكس دون شك جملة من التحولات السوسيو-ثقافية، يمكن تلمس آثارها في النص، حيث التسارع في تطور البنى الإجتماعية، واتساع قاعدة التمثيل والتعبير عن الشخصية الإنسانية، فهو يأتي كثمرة طبيعية لما تم استزراعه تعليميا في عقود ماضية، ولكن يصعب الحديث حتى الآن عن ظاهرة أدبية ينكتب على إيقاعها تاريخ جديد كما تم التهليل لهذه الأصوات التي تعيش عزلتها ومحدودية وجودها وتجد الشعر وسيلة لحضورها، فالنص الشعري المكتوب بلغة أخرى، وإن كان ضرورة لمثاقفة " الآخر " إلا أنه لا يعمل كرافعة ثقافية أو إجتماعية لجسد يعاني من عطالة ذاتية، بل لا يفترض تعاطيه على هذا المستوى.


 


قد تشكل مثل هذه الإصدارات منعطفا في الكتابة الشعرية الأنثوية، ولكن من الخطأ قراءتها إلى أعلى، أو خارج سياقات تولدها، والأهم هو ما تثيره داخل جوهر الشعر، فهذه نصوص مشرقية الروح مكتوبة في منفى لغوي، وقد لا تختلف كثيرا عن خطوة بديعة كشغري التي اختارت مجموعة من قصائدها وترجمتها بعنوان  الزهرة المستعصية The Unattainable Lotus  وهنا يفترض البحث عن المكونات البنيوية الحقيقية لهذا النص الصادر عن ذوات متباينة في الرؤية والحاضن البيئي الذي شكل تلك النبرات، للوقوف على معنى هذا الحدث السوسيو-ثقافي.


الإقتصادية 8 فبراير 2005


عودة للرئيسة