الكاتب سارقاً

مضاعفة هي الإستعارة التي ارتكبها قاسم حداد في مخاطباته " أيقظتني الساحرة " فلم يكن بحاجة إليها – أي الساحرة - لإيقاظه ومكاشفته بما يعلم " ليس الكلام في الكتب، الكلام في الناس ". ولكنها متطلبات الفيض الشعري. أجل الشعر الذي يقوم على رفع سقوف المجاز إلى شواهق لا نهائية، وتجريد المحسوس والمرئي من الحالات والأماكن والشخوص، أي اقتناص حياة الآخرين وتنضيدها في كلمات تهبط بقائلها إلى عمق ذاته، وإعادة صياغة تلك العلاقة داخل اللغة، فالناس هم العنصر الأهم في الحياة.


 


هذا ما أتقنه " ذئب البحار " عندما كان يتغنى برباعيات عمر الخيام دون أن يتصفح كتابا، إذ استوعب فلسفة الحياة ولم يرّ أي مبنى مدرسي أو أكاديمي من الداخل بوصف جاك لندن، فهو أحد مثقفي الحياة وتلامذتها النجباء، الذين استووا على سفود التجربة، وبحرقة الخبرة الحسية، ولم يختطفوا حكمتهم الحياتية من فم عباقرة الكتّاب كمقولات منبتة عن أصل تولدها، تماما مثل " زوربا " المسكون بنشوة عضوية، كما أراده ودبّره نيكوس كازنتزاكي، الذي كان يهزأ بصاحبه ويسميه  " عث الكتب " فالمعارف والمشاعر والخبرات الحسية والفكرية تنوجد في الواقع، وتعاش بطاقة قصوى من الوعي والحواس، حتى وإن تعبأت لاحقاً بين دفتي كتاب، حيث العلاقة التبادلية بين المكتوب والمعاش.


 


إذا، الحياة أبعد ما تكون عن الكلمات الفارغة من الرصيد الحسي، فالنص عادة هو منفى الحياة المستحيلة، المأسوف عليها أو المحلوم بها ربما، فأن تكتب، كما يمفهم ذلك محمد الحرز ذلك الفعل الإنساني النوعي يعني " أنك تمارس فعل الإستعارة: إستعارة حياة الآخرين من الوجوه، والبيوت، والشوارع، والمقاهي، إستعارة المياه من إناء وُضِعَ على الحافة، إستعارة الرغبات من أفواه الموتى قبل أن تدفن معهم، إستعارة الخطوات المتروكة على السلالم قبل أن تجف أو تتلاشى ". وهنا مكمن أصالة النص، حين يستمد مؤثريته من الصلة بعنصر الحياة الأهم وهو الناس، ليس بتوصيف طريقة معاشهم، أو ترسيم هيئاتهم من الخارج، إنما بالكتابة من داخل لحظتهم، واقتناص أدق نأمة شعورية تصدر عنهم، كما فعلها سولجنستين الذي رصد آلام فئة من البشر المعذبين فكتب " جناح السرطان " فاستحق جائزة نوبل.


 


بهذا المعنى يكون الكاتب نهاّباً، يسطو على كل ما يصادفه ويثيره، ولكنه يتمثل كسارق لطيف وحسّاس، بتعبير الروائي الإيطالي الشهير أنطونيو كاواباتي، الذي يعطي لنفسه حق التطفل على حياة الآخرين، والتلصص - السمعي تحديدا - على ما يتلفظون ويهجسون به، فهو رجل يحب الإصغاء كما يصف نفسه، ويعتقد أن على كل روائي أن يكون مستمعا جيدا، بحيث يجعل كا ما يسمعه ويعجبه ملكه، ليرويه على طريقته، رغم تصادمه مع بطله تريستانو، الذي لا يؤمن بالكتابة، لأنها تزوّر كل شيء، فبرأيه " جميع الكتاب مزوِّرون ". وربما لهذا السبب سخر الشاعر مظفر النواب من شعراء لوزان وجنيف وليماسول الذين يستعيرون من كائنات المنفى المقهورين قاموس التشرد والجوع، فيما هم يمارسون نزهة صيفية باذخة.


 


كل تلك الشخصيات وما يشبهها لها أصل واقعي، فهي نماذج تكتسب قدرتها على التأثير الإنساني، ورفع مستوى العمل الإبداعي من الوجهة الفنية، بالنظر إلى واقعية مرجعها، فهنري ميلر ابتنى جانبا كبيرا من كتاباته على الناس كمرجعية، حيث وجد ضالته الحياتية والنصية فيهم، وعندما كتب " عملاق ماروسي " استطاع توصيف " كاتسيمبالس " بدقة مظهرية وشعورية وفكرية باهرة، فقد كان ينصت مبهوراً أمام كل عبارة تخرج من فمه، ويدوخ أمام ذلك المونولج الكاتسيمباليسي الساطي، ولم يتمكن من الفرار من سحر بيانه، كما كتب، إلا بالانفصال عما يسميه بالأسلاك الخفية التي تفوق أي لغة وأي شخصية، أي ذلك الشيء الأثيري الذي يصعب القبض عليه أو تسميته.


 


هذا هو ديدن الكتّاب، الذين يجدون في الناس مادة حية للكتابة، وفي متعلقاتهم الشعورية والذهنية عصب النص، وربما لهذا السبب تحديدا لا يخفي ادوارو غاليانو لهفته للتعلم من الناس الأصليين، كما يعلن بتواضع جم صلته بالبسطاء، بل مديونيته الإدراكية والحياتية لهم، فهم من ألهموه ثلاثيته الرائعة " ذاكرة النار " ولذلك خلّدهم عبر أساطيرهم ومخيالهم الشعبي، وسجل إمتنانه لكل ما تلقاه منهم بالقول " يجب أن نتعلم من الآخرين، فلدي الكثير لأتعلمه منهم. كل يوم أتعلم، فأنا رجل فضولي. أصغي لأصوات الناس، أسرارهم، قصصهم، ألوانهم ".ولأنه أقرّ فعلا بسرقة كلماتهم، أعلن بمجازية محببة " ربما لهذا يجب أن أسجن ".



 الإقتصادية - الثلاثاء 1 مارس 2005


عودة للرئيسة