كتابة الكائن المعاد إنتاجه | |
الضجة التي تثار بين آونة وأخرى إزاء أي عمل ابداعي متجاوز للعرف الأخلاقي والكتابي ، نتيجة ارتكازه على الاعتراف ، أو البوح باعتباره مرجعية حداثية ، يمكن أن تتجاوز مسألة التأييد أو الرفض الى أفق أعقد من حق التعبير الفردي ، بل حتى من حساسية الأخلاقي والشعوري ، الى أفق جدلي يدفع ظاهرة التجاوز الابداعي الى نسق أكثر اتساعا ووعيا بحقيقة هذا المنحى ، لتخطي الأبعاد الترفيهية والصدامية المجانية ، وذلك بعد سلسلة من الأعمال الأدبية المثيرة للجدل والمنع في أحيان كثيرة ، عبر أصوات اكتسبت عادات الحداثة فنأت بالكتابة عن مهمة تجسيد سيرة انسانية بيضاء لصالح كيمياء بشرية ممتزجة بالأخطاء والتسامي ، والتي باتت تشكل ظاهرة ابداعية عربية ، لا تخلو من الدلالات الفكرية والأخلاقية والفنية .
ولأن الأدب لا يشبه الحياة فحسب بل هو الحياة ذاتها ، ستظل مزدوجة ( الجسد /المعتقد ) ومتعلقاتهما الوجودية أقاليم وعرة وجاذبة لا غنى لأي كاتب عن مقاربتهما ، وجس حقيقة الحياة عبرهما ، في ظل فورة انتهاكية تبدأ باللغة ، ولا تطال الأخلاقي والاعتقادي وحسب بل حتى الحميمي من خصوصية الفرد ، انطلاقا من وجودية النص مقابل صدمة الوقائع ، وهو الأمر الذي يضع الفن كخطاب جمالي قبالة جدار من الخطابات والوصايا والمحاذير التي يصعب اختراقها بالنوايا أو السجالات المجردة ، إنما بانتاجية رفيعة مقنعة تؤكد حق الكاتب في تحدي تابوات التفكير والتعبير لإثبات حق الاختلاف أو الحضور الإنساني ، تمردا على صيغة الكائن المعاد انتاجه.
من هذا المنطلق المرآتي يمكن التمثيل برواية " حكاية مجنون " الصادرة عن دار الجمل ليحيى ابراهيم ، المؤسسة على حافة الجسد بمعناه الايروتيكي والبورنوغرافي أيضا ، والذاهبة تعبيريا الى مناطق حسية وشعورية أقل ما يقال عنها أنها متطرفة من الوجهة الأخلاقية ، حيث تتخطى - موضوعيا - حاجز البوح الى الاستغراق اللغوي في العبارة السافرة ، والصراحة اللفظية عوضا عن الاشارة ، والتي يرى رفعت سلام سر جمالها في التطرف البوحي فهي منذورة لاختراق " مناطق لم يطأها قلم في الكتابة العربية " وهو أمر مبالغ فيه عند الالتفات مثلا الى تطرفات رشيد بوجدرة قبل أكثر من ثلاثة عقود ، أو حتى اعادة النظر في رواية محمد شكري ( الخبز الحافي ) .
وبنفس المبررات الاحتجاجية على لغة الاحتراز والتوقي ، وبهاجس صاعد ضد كتابة روائية حسنة السلوك ، برأي حمزة الحسن تأتي روايته " سنوات الحريق " حيث يصف عمله التفضيحي للذات ببيانية مجلجلة بأنه " محاولة للخروج من سلطة النص المغلق الى النص المفتوح .. من التحديد والامتلاك والوقار الى الاقتراب والحرية والخلخلة " ويبرر ذلك المنزع الكتابي الحاد بهاجس " الدعوة البريئة لجنون آسر قد يكون آخر محاولات التمرد على شروط لجنة الصمت والعقلانية الزائفة ، حتى لو كان ثمن ذلك هو العزلة أو الفضيحة " بمعنى البحث عن نص اختراقي ، يتمادى في التفضيح المرآتي ليجعل من رواية " مسافة في عقل رجل " ورواية " الخبز الخافي " وغيرهما مجرد تمارين على البوح كشأن الكثير من الكتابات العربية الأحدث ، خصوصا المؤسسة ككتابة ووقائع حياتية في المنفى .
وبروايته " قصر المطر " يتجاوز ممدوح عزام مقولة شتراوس القائلة بصعوبة كتابة الفرد عن قبيلته ، ليواجه بحصار نفسي مرده مقروئية لا تعي الفاصل الذي ينتهي فيه التاريخ ويبدأ الأدب ، وعليه تتعرض روايته " قصر المطر " للمصادرة ، أو المقاطعة ، بالنظر الى اقترابها من مقامات روحية ، ونتيجة انهمامها بتفكيك تاريخ مؤسس على قدسية العرف ، رغم تأكيده على انها عمل تخيلي لا يطال معتقدات الفئة ( الدروز ) بقدر ما يجسد صراع الانسان ضد الشرور من أجل البقاء فالتقنية المستخدمة في الرواية تعتمد ، حسب رأيه ، على قضية فكرية قوامها أن التاريخ يسير في حلقة كبرى مغلقة تبدأ وتنتهي حيث بدأت ، فهي نوع من الحفاظ على البقاء والاستمرار . أما بطله فيروي سيرة الأسرة التي تقاتل " في منطقة وعرة مجهولة ضد القوى التي تمثل الشر " والنتيجة مأساوية فقد استطاع الشر أن يبقى لكن الخير لا يتراجع .
ورغم تراجع موسى حوامدة عن مسمى ديوانه " أستحق اللعنة " وانصرافه الالتفافي الى عنوان أقل استفزازا وأكثر شاعرية " شجري أعلى " الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، الا أن الديوان اصيب بلعنة المطاردة ، ربما لضياع حد التلقي الفاصل بين الشعري والمقدس الديني ، وعليه تعرض حوامدة الى حصارات نفسية واجتماعية دون سند من أي جهة ثقافية ، وهو ذات الموقف الذي واجهه القاص إياس محسن إثر مصادرة كتابه " خرائط مدن محروقة " الصادر عن دار الكنوز الأدبية ، نتيجة اعتبار بعض قصصه الاجتماعية مخلة بالآداب والأخلاق العامة .
والمؤسف بالنسبة للكاتب إياس محسن أن الجدل حول كتابه قد لا يصل الى حلبة الصراع السياسي ، أو حتى حافة الضجيج الاعلامي ، كما حدث مع رواية محمد عبدالولي " صنعاء مدينة مفتوحة " التي أعاد طباعتها الصحفي سمير اليوسفي ، أو الرواية الأشهر لحيدر حيدر " وليمة لأعشاب البحر " الأمر الذي يعني وأد الكتاب وتغييب اسم الكاتب ، وهو ما يعلنه بأسى صريح أي باضطراره للدفاع عن كتابه وعن حرية التعبير وحق الاختلاف بمفردة ، دون مؤازرة من أحد ، لإخضاعه الى المتاح من الأفكار والصياغات التعبيرية الجاهزة.
وقد لا تنجو " أنا هي أنت " لإلهام منصور الصادرة عن دار رياض نجيب الريس من مصير مشابه ، نتيجة تقاطع الكاتبة بالمناطق الحسية ، كما حدث مع الكثير من الأعمال الأدبية التي تحوم حول مفاهيم الجسد والمعتقد ، فالمواجهة في المشهد الثقافي العربي اليوم تبدو صريحة بل عنفية بين نص ابداعي يجهد لاختراق البنى الاعتقادية والشعورية مقتديا بأبي نواس والحلاج والسهروردي ، أو هذا ما يزعمه بصداميته المتجاوزة ، للوصول الى حقيقة المبرر الوجودي للكائن البشري ، وبين جبهة مرتابة على الدوام ، تحاول أن تحتكر أحقية التفكير والتعبير عن ذلك الوجود ، حيث تزحف بالاعتقادي على الأدبي والثقافي ، وهي معركة قديمة تتجدد بأشكال وأدائيات مختلفة ، مؤداها البحث عن نص أدبي رفيع مقنع ، بالنظر الى أن النص معطى إنساني ، يطال باختراقيته جوهرانية الأشياء لا مظاهرها.
بهذا تغدو الكتابة الاعترافية أداة اصطراع وتدريب للذات على الوجود ، بما تحمله من سمة حداثية يحتج بها الكائن على محاولة تعليبه أو إعادة انتاجه بالجاهز والقسري من الأفكار والمشاعر ، او هذا ما يفترض في النصوص الاختراقية المثيرة للجدل أو المصادرة ، حيث تتحول الذات الواعية بذاتها على خط الزمن الى مضخة نابضة بالهواجس والانفعالات والرغبات اللامحدودة ، فلا تحتمل املاءات التوجيه الأخلاقي ، وهو الأمر الذي يقلل من فرص التقاء نوازعها والذوات المنتجة لها مع الخطابات التي تجهد لتأطير النزعة الانسانية ، فحداثة الحياة من الوجهة الكتابية البوحية تستدعي لغة جريئة قادرة على تحقيق الماهية الانسانية .
على ذلك الافتراق بين الخطابات يمكن اختبار تجاوزية النص البوحي لتبيان المنطقة الشعورية والمفهومية التي يستهدفها ويطالها ، فما كل ممنوع متجاوز ، وليس النص المغاير مكانا للفظاعات الشعورية والهلوسات الاعتقادية أو حتى الهوامات اللاواعية ، أما الاختراق الابداعي فاشتغال واع على الجوهراني ، لا مجرد إعلان الفضيحة الأخلاقية عبر نص صادم نفسيا واجتماعيا لمماهاة التجاوز عند الآخر ، ولو بصورة شكلانية ، وهكذا هو النص المحقون بحرعة مضاعفة من البوح والحقيقة ربما ، فهو ليس مجرد نزوة طارئة ، أو ردة فعل فردية تقيم العلاقة بشكل حسي أو شهواني تدميري بين القلم والمفردات ، انما هو ترجمة نصية وعضوية الى الأمام ، تحدث تماسها بالحياة وتنعكس بفاعلية في الكتابة ، أي ربط الذات بنسق أو دينامية فعل ثقافي أعلى ، تنقذ الكائن من جمالية فائضة ، وتتحدي الراهن بسؤال ( نص ) وثيق الصلة بالتاريخ والمكان .
|