تقطير شعري لماء محمد العلي

تقطير شعري لماء محمد العلي


رجل ما هنالك يضرب ظله بقضيب حتى الموت. هكذا وصف الشاعر النرويجي تور الفن نفسه قبل أن ينتحر. وكان قد دخل في نوبة هياج شعري صارخا " وجد ماء في الماء " حتى صار اكتشافه العبثي لذلك " اللا شيء " هو الطقس المهيمن على مجموعته الشعرية " ما لا قيمة له " فيما استمر محمد العلي على عناده المجازي، مرددا تعويذته الشهيرة " لا ماء في الماء ".


ذلك ما أبقاه على قيد الشعر والتفلسف والتغزل أيضا، فالماء سر من أسرار شعرية الوجود، وهو " الخلية المفسرة " داخل خطابه الشعري والفكري، وهو يدرك بأن الفلسفة لا تقبل أن يجاورها إلا الشعر، ويكون عشقيا بالضرورة. ذلك هو ثالوث مزاج العلي، ففي كتابه " نبت الصمت - دراسة في الشعر السعودي المعاصر " أحصى شاكر النابلسي خمس حالات مائية مباشرة، كما تتمثل في البحر، والنهر، والمطر، والينابيع، والكأس، واعتبره رمزا حيويا في منجزه الشعري، بما هو الرد على العصر الصحراوي الذي عاشه الإنسان العربي بعد هزيمة حزيران، فالنهر مثلا هو رمز الحرية والفعل والحركة والأنوثة أيضا، وهو المنحى الذي سلكه حسين بافقيه في " الأيدلوجيا المرجأة: مقارية نقدية لخطاب محمد العلي " حيث اعتبر الماء مصدر الحياة ورمز الإنعتاق والتحرر والنسغ الذي تجري فيه أحلامه.


وبالتأكيد كثافة حضور " الماء " هو ما استدعى هذا الترميز. حتى في زاويته المثيرة " كلمات مائية " كان يعيش غموضه المحرض. ولكن هذه التجليات المائية أقل مما أراده العلي، واللهج بمفردة ما لا يعني وجود أزمة نفسيه تعني الخوف من الإنفطام عنها، بقدر ما يشير إلى حاجة وجودية وجمالية أصيلة، فالماء يتغلغل في أنسجة نصه كمركب عضوي، فهو وثيق الإلتحام بمزاجه، وتشبه حضوراته المتعددة إيقاع الوحدة شبه التكرارية في الفن التشكيلي، كما تتماثل إلى حد كبير مع التنويع النغمي في الموسيقى.


يبدو ذلك جليا على مستوى اللغة والإيقاع عند ترنمّه بحالة مائية دون أخرى، حيث الصخب أحيانا والتهادي تارة أخرى، فحين يكتمل الجزر، كما يتأوه " يفتض حتى عروق المدينة ". وعندما يصاب بسكينة التأمل تسترخي لغته ليقر بأن " للأبعاد بوح الماء .. وهو يتيه " لدرجة أنه يحس بآثار " الغبار على الماء " و يستمذقه " حين يكون قراحا " ويتلمس حتى " المياه الرماد " فالعلي معني جماليا بتحويل الحسي إلى علامة لغوية، وبالتالي لا يفترض التعاطي المباشر مع تداعيات ملفوظات نصه، بل تفكيك ما يومئ إليه بعباراته المرسلة، والنفاذ بين ألياف صوره الشعرية، والتأمل حتى في صيرورات الذوبان والإنسكاب والإنهمار والفوران والهطول والإنصباب فكل تلك دلالات تحيل إلى إحساس بسيولة الوجود، وتشير إلى ملامس مكسوة بزغب اللغة.


من هذا المنظور الجمالي يمكن التماس مع ما يتجاوزه من أصل المفردة إلى أطيافها المتعددة. عندما يحيل " الموج " مثلا إلى رقيم أو ذاكرة أو البوم صور رمادي " إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج ". وهكذا هو " الضباب " حالة أثيرية، فهو المبرر الجمالي للرؤية عبر المرشحات لترهيف الصورة واستثارة حس التذكر، عوضا عن تقريرية الملامسة الآنية المباشرة " بيني وبينك هذا الضباب الذي يمنح الحلم أشواقه " حتى " السحب " كمرآة من مرايا التجلي المائي هي شرفة للنظر " كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا من السحب ".


تلك حالات مائية مخاتلة يجيد العلي التنويع على أصلها ودسها بحسية في نصه، فالخليج هو ماء أيضا، يحضر بشاعرية مكانية " جميل سهاد المحبين ... حين يكون الظلام خليجا " وهكذا هو النهر، بخطفة مجازية، يتحول إلى حالة زمنية " يا لفتة النهر نحو الوراء .. اسرجوا لي الهواء ". حتى اللون يمكن أن يولّد منه شكلا مائيا " زرقة علمتنا الأناشيد " فالزرقة التي يصفها مرة بالباسقة وأخرى بالمارقة وثالثة بالمشرئبة، ويمرغ بين يديها الغوايات هي المعادل للطفولة " ما عندنا زرقة طفلة تجهل النطق " وكأنه يماري ابن عربي في الهلوسة بلغزه " يعرف الماء في الماء ".


هكذا " يمنح الوهم أجنحة الماء " فهو مخياله الذي يحلق به بعد أن ألهبه بجناحين " أقبل الماء ها هو الألق الجامح يصحو خفقاً بكل جناح ". وهو ذاكرته التي ينام فيها أسلافه " فاجأني الماء يحمل آثار أقدامهم " وعليه صار البحر سؤاله الوجودي " زرقة أم خيار هو البحر!؟ " وهو تاريخه المسكون بأصواتهم " أيا من غرست أغانيك في البحر حتى تجيء " لتتصعّد حسرته فيما يشبه رثاء الذات " طلل أنت يا بحر .. هل أستعيد الذي قيل فوق الطلول!؟ ".


بهذا الجهل العارف " بين البريق السرابي والماء " أنطق العلي زرقة خرساء في تصويرات درامية " بحرنا شاعر .. لم يزل في المخاض .. أنشد البحر شيئا من الغزل المر ". اندس في الماء خلف ذات لغوية، المعنى باطنها، والألفاظ أرديتها. أوقد موجة، واغتسل باللظى المبتل، هاجر والحلم متشحا بالينابيع، ليرقص على إيقاع غصون يهمي الماء فيها. وهكذا أدار ظهره للسهب الزبدية، ليدوّخ قارئه الضمني - أم غوران - بماء ملاءمة لا يجبن " هل تصبين ماء على الماء!؟ ".


الإقتصادية - الثلاثاء 29 مارس 2005


عودة للرئيسة