المزدرى من دفتر اليوميات
ما أن تفكر المرأة بارتكاب رواية حتى يختفي دفتر حميمياتها الذي أودعت فيه براءة ما عاشته وحلمت به في مراهقتها. وهكذا تتنازل عن سجلها المخملي لتسرد حكاية الأخريات المتخيلة أو الممنتجة في أحسن الحالات، فيما يبدو انحيازاً عن مواجهة الذت، وهو فرار لا تختص به المرأة وحدها بل يتقنه الرجل أيضا عندما يقارب الرواية، تحت ذرائع مختلفة، هروبا من تسمية الأشياء، أو تسجيل انطباعه الشخصي ازاء الحياة، كما يصف هنري جيمس الرواية، بما هي بناء درامي يتجسد فيه الموقف الفكري للكاتب.
بموجب هذه العلاقة الحذرة يتم تعطيل خصوصية الشهادات الشخصية، واللجوء إلى المشاع من الحكايات المستعارة، وهكذا يغدو دفتر اليوميات فريضة روائية غائبة في الرواية المحلية، أو مجرد قيمة شكلية، كما لوّح فهد العتيق بدفتر أسراره الأزرق - مثلا - في " كائن مؤجل " بالنظر إلى ما يتطلبه طقس الإعتراف من جرأة تخنق الروائي في موضع المساءلة الإجتماعية، الأمر الذي يفسر خواء الكثير من الروايات واشتباه الفعل الروائي عموما بقرائن مفتعلة تتشبه به ولا تطال جوهره، حيث التماس بالعناوين العريضة المغلقة، والإنصراف عن خبايا الذات المفتوحة، وهذا هو حال مجتمعات ما قبل الرواية التي تعاني من رهاب مصارحة الذات، وتأوينها على حافة الممكن الزماني والمكاني.
حتى جان جاك روسو، عندما قرر الكلام، أوهم الكثيرين باعترافات ناقصة، ولكنه سجل فتحا تعبيريا على درجة من الأهمية، وصار تخييله النثري، هو عصب الفعل الروائي، وعليه ينبثق السؤال حول إمكانية تولد رواية حقيقية، يمكن للفرد فيها أن يروي ذاته ومجتمعه بصدق في ظل غياب تام لفعل المكاشفة، وازدراء أدب " اليوميات " بما هو المضخة الأهم في تشكيل الوعي الروائي، كما تؤكد العلوم الإنسانية، فالقارئ كائن متلصص ينسج حضوره من خلال ذلك التواطؤ الضمني على التنكيل الجمالي بأنا الراوي، بما هو الوحدة التي تتكون منها التشكيلة الإجتماعية، والممر السري الذي يمكن عبره سماع صوته، ويطمح من خلاله إلى إعادة التمركز في علاقاته الإجتماعية.
ويزداد الأمر ارتباكا عندما تكون الرواية سيرية، وهو أمر شبه حتمي بالنسبة للذوات التي تقارب الرواية للمرة الأولى، حتى وإن تصدرتها عبارات تنفي التطابق بين البطل والروائي والشخوص والوقائع، فهي في الغالب شهادات إثبات. أما الروائي الذي يراود نفسه بسرد مفاصل من خبراته في قالب روائي، ولا يهتم بتسجيل يومياته، أو لا يتجرأ على توظيفها داخل منجزه، إنما يعطل فاعلية الخطاب الروائي، حين يعزل أناه عن التناقضات، ليعصمها من سطوة الشروط الإجتماعية والتاريخية والعاطفية، تغليبا لمتطلبات الكتابة، وهو ما يؤدي إلى استعارة ذات من الهامش، مغسولة من أنطولوجية اليومي، ومصعّدة بوقائع من خارجها، ليتم إسقاطها داخل الرواية، فيما يفترض أن تنتج الرواية كائنا يكون هو منتجها، بعد فاصل من المران الطويل والشاق لمخاطبة الذات سواء بشكل شفهي أو مكتوب.
هذا هو الجانب التبادلي للرواية، فلذة تخليقها الأدبي تحدث داخل لحظة تاريخية متحركة، يعي منتجها بالضرورة أن ثمة ما يتوجب تغييره، سواء على المستوى الفردي أو الإجتماعي، بحيث يعكس دفتر اليوميات الخفي، الإنشقاق الواعي للذات، وعلاقتها كشخصية مؤمكنة ببقية الشخوص، وبفرادة اللحظة أو ما يسمى بالأنا التاريخية، وذلك داخل اللغة، سواء كان الحديث عن قرية أو حارة أو مدينة، أي كما تمت أرشفتها عبر يوميات ومشاهدات خاصة، فحتى الرواية التسجيلية لا تكون معافاة من مزاج الروائي وإحساسه العميق بفردانيته كما تعكس حميمية اليوميات انفعاله التواصلي، لأن التعبير عن سرّانية الذات تشير إلى حقيقة الوجود الإجتماعي أيضا.
ولكن يبدو أن الوعي بهذه الفريضة يأتي في مرتبة متأخرة، فالملاحظ على جملة من الروايات استخدام جانب من الذكريات العامة، لئلا تصادم الوعي بخصوصية اليوميات، وهو ما يعني اللجوء إلى كتابة تقتات على البعد التعويضي، وانتاج رواية على درجة من السطحية، لا تعرف الإهتداء إلى الباب السري للذات، نتيجة الإستخفاف بتقليد أدبي يفترض أن يسبق الفعل الروائي أو يؤهل له، فالرواية " نميمة ذاتية " معنية بتفكيك " الأنا " وإعادى تركيبها، وذلك ما يهب دفتر اليوميات صدقيته، ويؤكد الحقيقة الشخصية للبطل، بما هو أحداث وأبعاض متفرقة في حكاية ذات معنى ودلالة، تترابط في بناء أو شريط لغوي، داخل حالة من التراتب الزمني.
هذا ما يفترضه فضاء السيرة ومتخيلها عند تحولها إلى رواية، أي تعريض الذات لحزمة من المؤثرات الزمانية والمكانية، وإنطاقها فيما يشبه إعادة انتاجها على خلفية سياسية تاريخية اجتماعية، لتأكيد جملة من الدلالات والمعاني الجديدة، فدفتر اليوميات مساحة من التنادم السري يقرأ فيها الكائن نفسه بنفسه، بحيث يكون القارئ الضمني هو الذات في لحظة من لحظات الوهم الفكري أو الهشاشة العاطفية، فالرواية لا تعني إختراع " أنا " اعجازية خارج حواضنها الإجتماعية، بقدر ما تكون فرصة لإنكتاب الذات متخففة من نرجسيتها، لتستكمل الرواية بشكل أكثر صدقية وشفافية ما أغفلته المذكرات.
كل رواية تحمل شيئا من السيرة الذاتية، أو هذا ما يفترضه اتصالها بنسق الحياة، على اعتبار أنها شهادة شخصية يقع على عاتق منتجها مهمة " التسمية " إي الإشارة الصريحة لكل ما يرتبط بالواقعة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو حتى عاطفية، بما يعني إغتراف الأشياء من صميمية الواقع، وليس من الخيال والابتداع هروبا من استحقاق الحضور، وهكذا يتحتم على ساردها أن يتمثل شيئا من بطولتها، فالصورة الذاتية ضرورة ووسيلة لتشييد " الأنا " واعادة موضعتها كأمثولة بشرية على خط الزمن، وهو أمر ممكن إذا ما تمت معادلة " اليوميات " بضمير مستتر، يمكن تصديره بين غلافين.
الإقتصادية - الثلاثاء 26 أبريل 2005
|