...... !!!
إذا ، ليس ثمة قافلة تسير . أتختصر هذه النتيجة ما يسمى تجاوزا أو مجازا مشهدنا الثقافي!؟ ربما ، فهو مشهد بلا أحاريك ، وبلا سؤال ، أي بلا قضية. إنما يمكن الجزم بأن كل المعارك الثقافية التي سجلتها الذاكرة على ضآلتها ، كانت من أجل الحداثة ، وإن تقنعت بعناوين مموهة ، أو حرفت عن غائيتها ، فكل مناوشة كانت تبدأ برأي نقدي ، عقلاني ، بريء ، سرعان ما ينحدر ، أو يلوى الى مهاترة صحفية. يختطفها بعض المستصحفين ويقيمون عليها مأدبة للشتائم ، وتفريغ الشحنات المرضية ، والفائض من التفكير البائت، الغارق في التصنيف ، والإقصاء، والتهديد.
ولأن التحقيب ضرورة جدلية ، لا بد من العودة الى البؤرة الأكثر وعورة لذلك التجابه، والأقرب من الناحية الزمنية ، أي الى منتصف الثمانينيات ، حيث الطفرة الإنمائية ، التي كانت تبحث عما يترجم فوراناتها المادية في شكل انتاج أدبي ، فمجتمعنا كان يعبر الى الألفية الثالثة بذهنيات متباينة كان يمكن لها أن تتكامل وتثمر انسانا جديرا بمتطلبات اللحظة ، لولا منطق التنمية العرجاء، فهنالك من أراد " البلد " ورشة إعمار هائلة ، تتشكل ملامحها الحديثة على ايقاع المطارق الضخمة ، والبعض تخيلها سوقا تجاريا يصعب تصور الخسارة فيه ، فيما اكتفى آخرون بالنظر اليه كمحراب ، يرفع غابات مآذنه راحات متوسلة الى السماء أن يحدث هذا ، ولا يحدث ذاك، فالحداثة كانت تداهم كل شيء ، وتندس حتى بين سواد العين وبياضها.
المثقفون بكل أصنافهم كانوا يراقبون كل ذلك التشكل الراديكالي تحت مهماز التنمية ، فيتورطون بما يشبه العشق في الهامش، ربما لأن الطفرة المادية كانت أسرع مما تعمل العقول ، وأكبر مما يحتمله المخيال القروي ، فالأقلام المحمولة برجفة أصابع رخوة كانت أبطأ من إيقاع اللحظة ، لولا خطاب الظل ، الذي أسس بالفعل لخطاب ثقافي مواز لخطاب الأندية الأدبية مثلا التي تجاوز عددها أصابع اليدين ، ويكاد أن يستكمل بالثالثة ، وقد لا نلبث كثيرا لنرى في كل حارة ناد أدبي، وعذرا لهذه الطريقة البدائية في الحساب فهذه الأندية الأدبية المملوكة لأسماء أبدية لا تنتمي لعصر الديجتال.
ورغم تلك المفارقة الثقافية المحزنة ، لا زال هنالك من يطالب ، بين آونة وأخرى ، بوزارة للثقافة ، ويشترطها حية، وعصرية ، وملبية للفراغ الثقافي المفجع ، ويعلم أولئك بمنطق التاريخ والواقع ، وكل ما أنتجه العقل البشري من خبرات ومعارف ، أن المأسسة والمؤسسات هي على الدوام ملاذ أنصاف وأشباه المثقفين ، ومأوى المتقاعدين عن الإبداع ، الذاهبين بأوهامهم الريادية الى سن اليأس الأدبي ، المعتقدين بعدم اتساع القمة الا لهم، وما عداهم مجرد مراهقين لم يصلوا بعد الى سن الرشد الثقافي.
وهذا هو منطق المفلسين ابداعيا ، المتذرعين بالإعاقات البيروقراطية ، الذين ينتظرون قانون المطبوعات منذ دهر ، فالابداع الحقيقي لا ينتظر قرارات ، والمنابر مثلا ، مفصلة على قامات ورواد وأسماء يحتلونها بموجب صك ريادي ، يزاحمون به حتى الأطفال في مهرجانات التسوق الصيفية ، ويقمعون به كل قلم شاب تسول له نفسه الاقتراب من منبر الكلام ، فشهوة الكلام عند أولئك متعاظمة ، واذا كان الانسان يتعلم الكلام في سنتين ، كما يقال ، ويحتاج الى ستين عاما ليتعلم فضيلة الصمت ، فأولئك لا يريدون السكوت ، ولا يطيقونه، لئلا يتسلل الى دكة المنبر هواء غير مستعمل.
إذا ، لم يعد الصمت من ذهب ، ولا من فضة ، ولا بد من الكلام بصوت صاخب ، يزيح بعض تلك السواتر التي تسد منافذ وبوابات المشهد الثقافي ، الذين عينوا أنفسهم حراسا دائمين للإبداع ، فالثقافة ليست مجرد منتجات أدبية معلبة ، إنما هي قضايا وحقوق وتنمية يشترك في انتاجها واستهلاكها الجميع . هذا ما ينبغي التنبيه عليه ثقافيا الآن ، فالوعي مهما تمادى لا بد أن يتساوق مع الحراك الاجتماعي ويحايثه.
نريد مزيدا من الهواء نحلق فيه بالسؤال ، لنعيد قطار الحداثة الى قضبانه الصدئة . لنقنع ركابه الذين غادروه - ترغيبا وترهيبا – بالعودة الى مقاعدهم المفترضة . أجل ، أولئك الذين اكتفوا بالتقاط الصور التذكارية قبالته ، لينسحبوا الى كهوف مزدانة بالمرايا المضللة ، ولينسجوا أكذوبة ثقافية محزنة مهندسة بمزيج من الطبل البلدي ، وصراخ ندابات السبرانو ، فالأرقام مهما تمادت لا تعني قيمة موجبة في مشهدنا على الإطلاق ، فالكم الآخذ في التضاعف مثلا من القاصين والقاصات ، الروائيين والروائيات ، الشعراء والشاعرات ، لا يزال يراوح مكانه ويحتاج الى مراكمات متعددة الأبعاد ليتحول الى منتج نوعي.
بأكثر اللغات الحية حضورا ( الانجليزية والفرنسية ) كتبنا شعرا ورواية . وترجمت بعض منجزاتنا الابداعية حتى للدانمركية والسويدية، بواسطة ( سماسرة ) يريدون ايهامنا بعظمة وتاريخية منتجاتنا الثقافية ، ومن خلال بحاثة يتزلفون ( موؤداتنا ) لترجمة خواطرهن وإدراجهن عنوة في دراسات أناسية مبالغ في أهميتها ، لحاجة في نفس اليعاقبة وما أكثرهم ، فقد تطور النصب كثيرا ، ولكن – عربيا - لا زلنا نعاني من عقدة اعتراف بأهمية منجزنا ، رغم الممالات المضحكة ، ورغم أبواق الدعاية التي تتفنن في ايهام بعض كتابنا الورثة والمقلدين أن بامكانهم تطيير الفيلة والمروق بها من ثقب الإبرة.
هنالك من يريد أن يمعن في غيابنا أو تغييبنا ، والذات المستلبة تجيد تغييب أبجدياتها ، ففي الوقت الذي تفتح فيه مدننا صدرها لكل ما هو استهلاكي ، لا نرد على ذلك التمادي الحداثي- ابداعيا - الا بقصص ترفل في الوعظية ، إذ لا يفصلها عن المنبر أو الجامع الا خط وهمي ، نتيجة الاختلاط المخل بين الثقافي والاجتماعي ، والحساسية المفرطة تجاه أمورنا ، والخوف العميق في داخلنا من كل ما هو بدعي ومستحدث ، فالقبيلة تعيد انتاج نفسها على الدوام بوسائل معصرنة ، وان كان هنالك ما هو مفهوم ومشروع في مخاوفنا ، ولكن ليس الى درجة الرهاب، فثقافة الخوف تميت المبادرة.
هذا هو قدرنا الثقافي ، التعايش والاصطدام بذوات تضيق بالنقد ، ولا ترى في الاختلاف الا مبررا لمزيد من العداء ، فاثر كل معركة أدبية أو لا أدبية يتقلص هامش الحرية الثقافية ، ويعاد ترسيم الخطوط الحمراء ، وترفع أسماء جديدة منتخبة فوق النقد ، أولئك الذين يصابون بالحموضة والضغط عند أول ملامسة لمنتجاتهم أو لمشايعيهم فيطلقون ذخيرتهم المختزنة من الشتائم ظنا منهم أن أفكارنا وتلاسننا الثقافي لا مكان له الا في حارات وزواريب الزوايا الصحفية، وقد نسي أو لئك ، أو ربما أرادوا التناسي أن كل ما ننتجه بات مقروءا من قبل الآخر العربي ، وفي كل العواصم لأسباب قد لا تكون ابداعية في كثير من الأحيان ، فلماذا يتحول بعض أكاديميي المهرجانات ، إلى سوقييين في منابرنا ، إذ تخرجهم أي مجابهة بخطفة البرق من أكاديمتهم ومنهجياتهم الى قلب الظلام وعصبوية القبيلة!؟
ثمة مستنقع لا ينجو منه الا القابض على وعيه، الذي لا يدخل الى الثقافة من بوابة التحالفات ، فهنالك من يحاكم ، بالسقطة ، والغفلة ، واللحظة ، وحتى بالسحنة ولا يراعي القيمة بحال من الأحوال ، فهذا مآل يعرفه كل من يرفض الإنضواء تحت لواء شلة أو قبيلة أو فئة ثقافية ، ويعاند أن توشم جبهته أو معصمه بطوطم قبيلة ما من القبائل الثقافية فمصيره الاستضعاف والهوان والإقصاء .
يوهمونه بأنه على وشك الإنخراط في مشروع ثقافي انمائي حضاري ، فيما هو يستدرج الى شلة مستثقفة منغلقة على ذاتها وأمراض مستنسبيها . وبمنتهى التوحش يمارس على كل صوت جديد آلية استدماج خفية واستتابة وولاء واختبار للنوايا ، تخويفا وإقصاء وتهميشا وتيئسا حتى يصبح أمثولة أو عبرة لمن لا يريد أن يعتبر. أوليس النص هو المكان الذي يفترض أن تجتمع فيه ، فلماذا يراد لنا أن نلتقي دائما في الخيمة!؟
هؤلاء هم حراس الحداثة الجدد ، الذين تمأسسوا على طريقتهم ، خارج الحاضنة المؤسساتية وداخلها ، حتى أصبحوا أعداء محتملين للتجديد ، وبهذا المعنى الرثائي المتشائم للمشهد ، كل مثقف لدينا هو احتمال مكارثي وجدانوفي ، ورهان ثقافي انساني خاسر ، حتى قبل أن يستكمل أدواته ، فالصحافة الثقافية آخذة في التحول الى آفة للمبدعين الذين يهجرون مواقعهم الابداعية ليمارسوا نرجسيتهم في زوايا صحفية استهلاكية ، وهنالك احتياطي هائل من كتاب وكاتبات الخواطر يتربصون بالزوايا الصحفية ويتسللون الى المنابر تحت عباءة متنفذين لم يسمعوا بمفهوم التنوير الا في المراحل الدراسية ، ولم يتبق منه في ذاكرتهم من مستوجباته سوى طيفية العنوان.
أوليست الذاكرة ، بمعنى التاريخ ، هي الفارق الجمالي الأكبر ما بين الانسان والحيوان ؟ فلنجرب استخدام معيارية هذا المكمن الانساني بحب لفضيلة آدميتنا. راقبوا المشهد جيدا ، استعيدوا الكثير من الأسماء التي ملأت الساحة ضجيجا ، أولئك الذين طالما حاولوا تعقيم الآخرين والوصاية على أفكارهم ، وتيئسهم ، والتجاوز في تأثيمهم الثقافي حتى طالوا إنسانيتهم . هاهم يتحولون الى كتاب زوايا ، محصّلين لمنجز غيرهم ، ومعقّبين موهومين بأهمية حضورهم ، ولا عجب في ذلك الضجيج ، فتلك سمة الغائبين ، وتراجع الانتاج والدور غالبا ما يفاقم ( البرانويا ).
هذا هو حال ومآل مشهد بلا قضية ، فإذ لا تنتعش الحقيقة ، ولا يسعى الى استنباتها في النفوس المثقفة ، تتفشى العطالة الابداعية وتتمدد الاشاعة بما يكفي لإماتة كل ما هو جمالي ، وبموجب هذه النوايا القاتلة تخفض الراديكالية الأدبية سقف انفلاتاتها ، وتمتنع الفانتازيا من التوحد بالمخيال والانفعال ، ويسود التبطل عنوانا لمرحلة لا أفق لنهايتها، فخطافة الحداثة المحملة بكل ما هو عدواني وآثم على هويتنا وخصوصيتنا وأصالتنا ، تستكمل اليوم بالعولمة.
وهاهو ذات المشهد يخاف من عولمة ملتبسة دون أن يستوعب مستوجباتها ، ويرفضها وهو لا يشارك في صيروتها الا مستهلكا ، حتى تصل الشعوذة الثقافية الى الزعم بألا مشكلة لدينا مع كل تلك التماديات الحداثية ، وهنا يصبح النفي استطرادا لذرائعية بائتة ، مصصمة بذهنية كائنات الطفرة المنفوخة والمجوفة ، التي استوت على عجل دون مخاض في مختبرات الزمن ، فمن أين يأتي الفرد الحر وسط كل هذه المهزلة والغياب!؟
الطبقة الوسطى التي كان يعول عليها انتاج شكل ثقافي جديد سرعان ما تهاوت وتكاد طوابيرها أن تلحق بالحيوانات المنقرضة ، إثر الضمور الاقتصادي المباغت ، الأمر الذي قلل من فرص تولد ثقافة ايجابية مقنعة، وهكذا صرنا نلاحظ تحديثا سياسيا يسبق الثقافي ولا يتناغم بشكل بنيوي مع اشتراطاته ، فضجيج المجتمع المدني مثلا، الذي تلهج به حناجر فئة عريضة من المثقفين يبدو التلويح الاستعراضي بأهميته أكثر من فعله وحضوره ، فقد اعتاد المجتمع بكل فئاته أن تفعل الدولة كل شيء بالنيابة عنه ، حتى التفكير ، فبيننا ذوات تريد تحرير الأفكار وابتناء عالم جديد بالكلام وحسب ، وقد نسيت لفرط حديثها المكرر عن أهمية الحوار وماهيته أن تحاور بعضها ، فهي تتحدث عن آلية انمائية ليس بمقدورها مقاربة شروطها.
بالتأكيد لنا قضية ، وأسئلة مؤجلة أو مواربة ، بعضها بات ملحا ومطروحا حتى خارج عقول المثقفين ، وسنتغير حتما ، ان لم يكن بحرية وإردة واعية منا ، وبمهماز انفتاح عصري ، فتحت وطأة الضرورة وضغط الحاجة ، فليس أمامنا الا أن نتفهم كل هذا الذي يجري ونحس بايقاعه الحاد، بالتقدم ناحيته والتورط في انتاج جدلياته، بحداثة واعية تنحت مجرياتها في العمق فالثقافة الايجابية المتماهية بالوطن لا بالصيغ المموهة بالسلطة هي التي تؤسس للنهضة وتحمي المكتسبات الانسانية، وتكون محلا للاقلاع نحو الحداثة ، فبعد الحادي عشر من سبتمبر استولد خطاب ثقافي عالمي جديد لا بد أن يستنب بالضرورة نظيره أو صداه المحلي ، فلنجرب ان نختبر الساحة الثقافية في أقصى هذياناتها حتى يغدو هنالك مطلبا ثقافيا ، أو قضية ، ذخيرتها سؤال تتناسل منه أسئلة ، ففي هذا استفتاء حر للتعددية الثقافية وفرصة لاعادة بنائها.
|