ألا بد من صمتك يا فائز!؟ | |
أنادمك بغصة عتاب، ونرجسية حزن، أتلبسه من صمتك، وأبثه لنا، للغافل فينا. ألا بد من صمتك لنعرف من أنت يا فائز !؟ أظنني سأتعب كثيرا إن حاولت فهم معنى لهذا الغياب، وسأدخل في غيبوبة ممضة كلما حاولت استدعاء أول مرة قرأت أسمك أو سمعت به. لا أتذكر على وجه الدقة متى صادفني حضورك الطيفي، أو ملمحك المجازي في صورة رمادية، فكل ما أعرفه الآن أني كنت قبالة اسم من العيار الثقيل، وما أردت أن يكون مجرد اسم، وها هو زمن آخر يحيلنا اليك يا فائز، لا يليق به أو بك التقريظ، بقدر ما يستلزم الاحساس بغامض توقيعاتك في ذلك الزمان. وعليه لن أجعل من مكاتبتك مناحة أو ضريحا، انما سأجادلك أيها الحاضر غيابك، لأتذكر ما أتيح لي معك من زمن، ليبقى سؤال المحبة عالقا عن أفضل مخترعات الوفاء، لحفظ " الآخر " فينا. فائز آبّا، يا لك من كاتب متعدد، عميق أنت، كما يقال عن الكائنات العصية على النسيان، ربما نتيجة كونك ذاكرة ثقافية مؤسسة معرفيا على ما يمكن تسميته " نظرية التحليق الحر " فأنت كما عرفتك أمثولة للمفتون بعبور الثقافات، خصوصا بتمردك على سجن اللغة الأحادية والتماس مع " الآخر ". وبه عبر لغته، رسوت هناك ولم تنس ما يحدث هنا. إذا، لا عجب أن تأتي بمفاتن القرية الكونية وأفنون النظريات الجمالية إلى زواريب الحارة. أظنك بتلك الذرائع السوسيو-ثقافية صرت فائزا ومتفردا في زمن المتشابهات، أجل رأيتك تخرج من زمن الكليات المنغلقة إلى فسحة التشظيات المنفتحة، فبدوت فردانيا- ولست ذاتيا - لدرجة استفزازية، وبصورة لا تطاق، وهذه هي السمة الأبرز للكاتب الإشكالي، ففي شموليتك بعض مرونة وخفة الكائن الإحتمالي الباحث عن معنى خفي لحياته. وفي وضوحك الصدامي الكثير من رصانة المثقف الطليعي وطهوريته، بل يقينه الإيماني بالمستقبل. وفي كثافة خطابك، وتعقده أحيانا، إلتزام بروح الأبوية، وتعاقد مبيت على إتيانها، رغم مطالبتك الدؤوبة لإخراج المشهد الثقافي برمته مما أسميته " طواطم النخب ". ذلك التعدد الرؤيوي، المتمثل كاشتغالات ثقافية متباينة دراسة وترجمة ونقدا، هو ما يحيرني عند التماس بأناك الفارطة في استقلاليتها، فأنويتك النزقة تنأى عن الإحتشاد الجمعي بذات القدر الذي تقره وتتورط به، حيث تكمن طاقة حضورك، أو اشتراطات ذاتك العارفة للتمثل المستحيل، كما حاولتها في حداثة حية تقوم على حب النوع الإنساني، وتعددية الرأي، بما هو سمة حداثية وعولمية، حيث تبشر وتنتمي، وليس على عناوين مستجلبة أو اختزالية لما هو أقل من يوتوبيا الثقافة الوظيفية كبنية فوقية، وربما يفسر هذا زهدك في أخدوعات تهويمية، والمصعّد من الشعارات، وانتفاء روح الحالم لديك، بل انغماسك العنيد حد التدّله في كل ما هو واقعي وتقويمي. أناك المستقلة تلك، على نزقها الصريح، لا تنوجد إلا بحضور " آخر " تختبرها على الدوام بمساجلات صاخبة، وتجيد توليد وتصدير الكثير من عناوينها وتداعياتها، فهي ناتجة عن " أنا " نسبية، تحاول إلحاق وعيها الجزئي بشمولية الوعي الكلياني، وبرأيي، هي متحدرة أصلا من ذات أقل اكتمالا، وأصبر على فعل التفاضل مع " الآخر " بكل أطيافه وبدائله، وكأنك تمارس تعنيف نفسك، والاختلاف التطهري مع ذلك " الآخر " الهاجع في وعيك ولا وعيك، قبل أن ترتكب حريتك القصوى فيما يشبه نوبات مبرمجة من الصخب الذاتي لتعرية " الغير " انطلاقا من محاكمة أناك وتفكيكها بوحشية المغدور في الراهن، فما تثيره من صخب يأتي من بؤرة الفرادة تلك، أو من تلك الناحية يأتيني رنينها الودود. هذه إذا هي ردات فعلك كواحدي يتشظى بجذوة الحقيقة، وكذات مقدودة من مشهد يفرض الكثير من تشوهاته وتدليساته، وبالطبع مقوماته الروحية والمادية، فالجميع برأيك نتاج " بنية هيراركية اجتماعية غائرة في الوجدان " أو هذا ما سبقتنا إلى التصريح به وإعلانه بانتشاء المفجوع، لتحتج بأبوية معلم غادر طلابه الفصل قبل اكتمال الحقيقة على " الممارسات الكتابية لعدد من الأقلام الشابة التي أخذت تتبوأ مقاعد الأستاذية الفارغة وتمارس من خلال كم كتابي متدفق لا يتيح زمنا للتروي ولا للتدبر فوقية مجانية محزنة لأنها لا تصطدم يوما بالرأي المناقض " وكأنك بهذه الغضبة تحاول تصحيح الآثم منك ومنا ثقافيا، لتبرأ من جرح نرجسي مزدوج، وتبرئ ذممنا جميعا من خطيئة زمن ثقافي متخثر. ذلك هو أنت يا فائز أبّا في نبالة صورتك النسقية، كما تتمثل بأناقة الطليعي الفارد أناه المعرفية، الذي فرّ من مهنة التدريس حيث الأوعية الضيقة، والرؤوس المطأطأة لترقى إلى رتبة " المعلم ". أما صورتك الشعبية فلا تهدم أصالة تعاليك المعرفي، فصوتك بقدر ما يأتي من تاريخ سحيق، يوحي بالدراية ومعرفة دروب الحقيقة الإنسانية، يصل إلى المسامع وكأنه أغنية تهكمية فرائحية مدورّة في مقهى شعبي، أو مغناة بصوت أطفال " المسفلة " وزواريب " دحلة الرشد " حتى عندما تتناقد أحسك تتحدث بتباسط ولا تتمنهج على طريقة العارفين بماورائيات النص، والجاهلين بأبسط متطلبات الوفاء للذات المنتجة لنص الحياة. ما رأيتك تصالب ساقا على ساق، ولا مطأطأ الرأس أبدا، وعندما تستدعي الأسماء الثقافية المرعبة التي صادفتها وصادقتها، أراك تمتصها من خرافة أنساقها الأسطورية إلى شعبوانية الواقع، بل إلى القاع الاجتماعي، فهكذا أنت كما عرفتك تشير إلى ذاتك دائما بشكل فلكلوري واحتفائي بكل تلك الفضاءات المؤمكنة لتفر بتعاليك المعرفي ربما من طبقتك وعرقك وشريحتك إلى آفاقية الإنساني، فهي العاصم المعولم لذاتك المتشظية، ويكفي مهاتفة واحدة لتنبصم في أذن السامع نبرتك الساخرة من طابور أقلام تسير إلى الوراء، فما زلت أتذكر أول مهاتفة، حينها تمتمت في داخلي بارتعاد: يا له من كائن خرافي، بإمكانه إملاء كتاب نوعي على سامعه دون خطأ. جمجمتك الصغيرة لم يستقر عليها غطاء، وكأنها تعاند فعل التصنيف أيضا، وترفض بإباء ملصقات الهوية العمياء والضيقة، ففي جمجمتك الصغيرة تلك دهاليز مكتبة بورخيس بكل مفاتنها وغرائبية حارسها المتحفي، لدرجة لم تعد فيها يا فائز تشبه نفسك، بقدر ما تحولت إلى حالة عصية على التصنيف. أجل، فقد كنت بوعيك الشقي حائرا بين غربة المكان واغتراب الذات، أما الآن فأنت في أحبولة الصمت وحدك. أحاول ألا أصدق هذه الكذبة يا فائز، ولست أملك إلا مخاطبتك كصديق كنائي يصعب تفاديه حتى في وقار صمته، وعليه سأناديك في بهاء غيابك، لأقول لك، يا فائز أبّا، هذه المنادمة لك، وهذا يعني أني أفكر بك كما أشتهي، وأحاورك كما تحب أن يكون التنادم، ولتعذرني لأن السجال هذه المرة لن يكون صاخبا كما عودتنا... ألا بد من صمتك يا فائز!؟ |