برعاية شخصية من الأمير عبدالله احتضنت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض بالأمس " الحوار الوطني السعودي " وهو لقاء أشبه بالمناظرة السياسية التعبوية من وجهة شرعية بين نخبة من الدعاة السنة والشيعة في سابقة تاريخية لافتة ، كما يتبين من خلال المحورين المراد التأكيد على مجادلتهما وتعميق منسوب الإحساس بأهميتهما، للترويج لثقافة السلم والتسالم الإجتماعي ، حيث سيتركز المحور الأول على الوحدة الوطنية وأثر العلماء في تعزيزها بما هم - أي العلماء - الدعامة الأمثل ، أو المرجعية الأهم لكل القضايا الإجتماعية خصوصا أولئك المنضوين تحت مظلة المجامع والهيئات والمؤسسات ، فيما سيهتم المحور الثاني بإخضاع منظومة العلاقات والمواثيق الدولية لمفهوم الوحدة الوطنية بغية تكييفها أو تداولها ضمن مفاهيم واشتراطات دينية.
ويبدو أن هذا التوجه يأتي ضمن نهج عربي إسلامي للإصلاح أو الإنفتاح السياسي وتوسيع هامش المشاركة الشعبية تحت ضربات العولمة في شقها السياسي تحديدا ، ولتدراك ما يمكن إدراكه من الإختلالات البنيوية التي ولدت كل ذلك العنف اللانمطي مؤخرا ، وأيضا كاستجابة مباشرة وجريئة لمتطلبات دولية كما يتبين من تفاصيل الحوار حيث التأكيد على مفهوم الوحدة الوطنية ، والتنوع الفكري والاعتقادي والتعبيري لكل الشرائح الاجتماعية ، وحيث التشديد الصريح على الحقوق والواجبات للمرأة دون تبيان شكل المعيارية المعتمدة لتلك الحقوق الموعودة ، وضرورة التصدي لأفكار الغلو والتشدد المتأتية من فتاوى فردية متطرفة لا تستند إلى ثوابت الشريعة خصوصا فيما يتعلق بالمسألة الجهادية، وهي طروحات مرادها ، فيما يبدو ، قطع الطريق على الفئات الأكثر تطرفا.
إذا ، يعقد هذا المنتدى الحواري الهام والذي يستمر لأربعة أيام ، بالنظر إلى أن المملكة " تواجه تحديات لم تواجه لها مثيلا من قبل " كما صرح رئيس اللقاء الشيخ صالح عبدالرحمن الحصين الذي أكد أيضا على ضرورة التلاحم والتماسك الداخلي لمواجهة خطر التسلل الخارجي مؤكدا على " حرية الرأي والتعبير " وعلى إمكانية أن يتكرر مثل هذا الحوار ضمن أطر مختلفة ، ولكن يبدو أن منسوب الطرح السياسي بما هو جملة من الحقوق الدستورية يتراجع أمام غلواء الطرح الشرعي والفقهي، وهو ما يبدو جليا من خلال العناوين المؤكدة على دور وأهمية العلماء التقنيني بما هم تشكيلة خطابية ضاغطة وفاعلة في إعادة صياغة السلوك البشري ، ضمن تصورات ميشيل فوكو.
وأعتقد أن الحل الأمثل لا يكمن في مساجلات شرعية بقدر ما يحتاج مجتمعنا إلى فرصة لتحقيق مفهوم الدولة الحديثة ضمن أدبيات الطرح السياسي العصري والمتقدم كما هي عند يورغن هابرماس مثلا الداعي إلى دولة حديثة متعددة الثقافات والأعراق والهويات ، والتي يمكن تحقيقها باستدماج كافة الطوائف والمذاهب باختلافاتها القبلية والمناطقية فيما يسميه استنادا إلى تجارب دولية " المواطنة الدستورية " رغم صعوبة هذا الخيار السياسي أمام عناد القوميات والثقافات والهويات الفارطة في شعورها التاريخي والقيمي والعاطفي.
وبالنظر إلى فشل صيغة الهوية الجامعة أو الغالبة التي أرادت إلغاء كافة الهويات أو تهميشها ، والتي فرضت تصوراتها بعماء أيدلوجي أوصل المجتمع إلى هذا الطريق المسدود ، يبدو أن خيار التعدد هو الأكثر تداولا وقبولا اليوم ، ليس ضمن مفهومات الطرح السياسي وحسب بل بكل المعاني الانسانية ، وذلك في إطار مشروع " المواطنة الدستورية " بما هي الطريق إلى الدولة الحديثة كهوية قادرة على تخفيض منسوب التناحر أو التصارع المجاني بين الفئات والهويات المتشظية ، وكعازل اجتماعي داخلي ضد فرص التدخل الخارجي المراهن على تظلم الأقليات وتضاؤل فرص المشاركة السياسية والحقوقية.
وهذا التحدي السياسي الحقوقي بحاجة إلى جهود مخلصة ، وإسهامات عصرية من كل الفئات باختلاف توجهاتها وطروحاتها مهما كانت متطرفة ، فهو مشروع الأمة وليس فكرة فرد ، ويفترض أن يكون أقرب إلى الفعل منه إلى ردة الفعل ، فعلى هذه الحافة يتأسس الإنفراج السياسي ، أي ضمن اصلاحات فعلية على المستوى الحقوقي تعيد صياغة البنى الدستورية في عمقها ولا ترمم المهترء منها ، وحيث الحاجة إلى تلازم بنيوي بين ما يقترحه النظام السياسي كحاجة اصلاحية وتنموية وما تسعى إليه تشكيلات المجتمع المدني كحلول اجتماعية تصب جميعها في فعل المشاركة الساسية الأشمل.
إذا ، بقدر ما هنالك ضرورة لشرعية سياسية مستمدة مما يؤكد المؤتمرون على أس الثوابت فيه ، هنالك حاجة أيضا إلى مجتمع مدني متماسك وقوي ومشارك بفعالية في مهمات التنمية ، وهو أمر لا يمكن تحقيقه بتغليب دور فئة أو جهة ، أو خارج شروط حرية الإعتقاد والتعبير وبالتالي إضفاء الشرعية على التنظيمات الإجتماعية بل تشجيعها ، بما هي الدعامة لتفاعل القمة بالقاعدة ، وبما هي المدخل الأهم تنظيميا في ممكن الدولة الدستورية الحديثة ، التي يمكن مقاربتها بشكل سلمي ، وضمن بنية سياسية أقرب الى الاستقرار من الوجهة الأمنية ، وهذا يعني أهمية إشراك أكبر قدر ممكن من التكنوقراط وكافة الشرائح الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية في حوار بهذه الأهمية دون إبطاء أو تسويف.
والتأكيد هنا على أهمية المشاركة يأتي لتحريك الحوار باتجاه الاشكالية الحقوقية كمكمن لتشكك كافة القوى في جدية الإصلاح ، فقد طرقت مسائل على درجة من الأهمية في جملة من العرائض المقدمة لأهل الشأن كنزاهة واستقلالية القضاء ، كما أكدت الطروحات دائما على ضرورة وجود آلية لمحاربة الفساد وتفعيل التشريعات ، واحترام المناشط والحريات الاعتقادية والاقتصادية أيضا ، وضرورة وجود ضوابط للمساءلة المالية ، وهي مقترحات ملحة للتقدم ناحية " المواطنة الدستورية " كحل ناجع لكل التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية ، ولو بصيغة متحفظة أو حذرة لما يطرح في أدبيات الدولة الدستورية متعددة الهويات والثقافات ، التي تكفل حق المواطنة للجميع دون حيف ولا تفرقة.
إذا ، لا بد من فتح أبواب الغرف المغلقة التي يتجادل فيها أولئك المتحاورون ، ونشر أوراق الحوار بشفافية ، وتوريط أكبر قدر ممكن من الناس كمشاركين وليس كمتفرجين في هذا التنادي من أجل الوطن ، وعدم احتكاره في أذهان وتصورات " العلماء " فهذا التفاوض المعلن ، كسابقة تاريخية ، بقدر ما يمنح الثقة للمواطن بأهميته كمشارك حقوقي وفاعل في فعل التنمية ، يعزز الثقة بينه وبين النظام السياسي ، ويفتح مساحة تداولية بين كافة الأطراف المعنية بشكل أو بآخر بهذا التحول السياسي الحقوقي ، والذي لا يسعى إلى استدماج المواطن في هوية أحادية البعد بشكل قسري ، بقدر ما يلّوح له بتعددية ممكنة ضمن مشروع أشمل ، الأمر الذي يكفل معالجة مثمرة وبناءة لآثار الماضي.
|