حينما تقرأ كتابا ما ( بغض النظر عن مجاله ) وما يثيره فيك هذا الكتاب من تساؤلات وإدهاش . كل ذلك يجبرك على البحث عن مبدعه وقراءة المزيد من هذا الابداع.
هذه قصتي مع الكاتب والناقد محمد العباس حيث جبرني كتابه " سادنات القمر " على محاورة هذا المبدع، وكان لقاء صنعاء الأول للشعراء الشباب وما أبداه من ملاحظات خلال إحدة الندوات النقدية التي صاحبت هذا الملتقى بداية هذا الحوار:
• الاصوات الشعرية التي احتفى بها ملتقى صنعاء الاول للشعراء الشباب العرب. الايتطلب مواكبة نقدية للتعرف على رؤاها و ملامحها كمنجز تسعيني؟
بالتأكيد، وأعتقد أن الأمر بحاجة إلى تجاوز هذه الأسماء إلى مجمل المنجز، فالشعراء الشباب يقيمون نصهم الآن في العراء دون تأمل نقدي، وعليه يمكن، بل ينبغي التماس مع هذا المنتج من خلال علاقته بتاريخ وشروط السلالة الشعرية، ومن خلال علاقته بالمكان، وكذلك مؤثرات " الآخر " فهو نص يتأسس في عالم مفتوح، وتحت مظلة العولمة، وقد كانت تجربة صنعاء الاستثنائية بداية للفت الأنظار إلى زمرة من شعراء الهامش وحتما سيجد النقد طريقه اليهم.
• *القصيدة النثرية قطعت الصلة بالمنجز الادبي السابق. كيف يمكن الحكم على الجديد في وجود هذا التجاوز بين المنجزين؟
غالبا ما ينظر إلى قصيدة النثر كرد على القصيدة العمودية والتفعيلية، أو بمعنى أدق يتعامل معها كحدث عروضي، والأمر يختلف تماما فهي حدث ثقافي، وبالتالي فان شروطها السوسيو-ثقافية تختلف عن سابقتها وإن تقاطعت معها بشكل أو بآخر، وأعتقد أننا بحاجة للنظر إلى قصيدة النثر كنتاج لانسان جديد وليس مجرد شكل أو لون ابداعي منبت عن شروطه، وعليه لا بد من مقاربتها داخل فعل الحداثة، بما هي انوجاد حاد وواع للكائن على خط الزمن، بمعنى محايثتها بكل المنتجات الجمالية الأحدث.
• *يقول ت. س. اليوت. ان النقد الحقيقي الاصيل هو نقد الشاعر الناقد الذي ينتقذ الشاعر من اجل ان يخلق الشعر؟ ما رايك؟
هنالك دعوات لشعرنة النقد، وهو أمر حقيقي فغاستون باشلار مثلا مارس فعل المناقدة بشاعرية قصوى، واستفز طاقات النص الشعرية الهاجعة، حتى تلك الغائبة عن الشعراء، ويفترض في الناقد أن يجيد ذلك التوغل الجمالي في النصوص، على اعتبار أن النقد فعل يقوم على المحبة أصلا وليس على المحاكمة والتبخيس، بمعنى أن يكون هنالك شيء من التعالق الواعي والودود مع النصوص بمقاصد تأويلية لا تقويلية، أي التماس مع أحاريك النص، الشعري منها تحديدا.
• *قرأت ذات مرة ان المثقف العربي غائب عن التاريخ و لا يعرف الى من يحتكم؟ كيف ترى المسألة؟
المثقف العربي ليس غائبا عن التاريخ وحسب، هنالك من يراه خارجا، وأعتقده مطرودا من التاريخ، على اعتبار أن التاريخ حالة من الحضور والانتاجية، أما الكائن العربي فهو مجرد مستهلك يعيش لحظة هبوط حضاري، تدفعة من أسفل إلى أسفل، والمفجع أنه لا توجد مقدمات تشير إلى حراك يمكن أن يعيده إلى عجلة التاريخ أو يتحرك به إلى الأمام، وعليه تعيش الثقافة العربية أكذوبة كبرى، وخديعة تبعدها عما يعرف بالوعي أو الغائية التاريخية. الكائن العربي يعيش على فضالة الأفكار تحت مسميات مضللة أو عناوين الحداثة والعولمة، إنه في الهامش.
• القرن الواحد والعشرين تميز بالانتفاضتين الفلسطينيتين واحداث الحادي عشر من سبتمبر و حرب العراق. برايك هل اوجدت هذه النزاعات ايدلوجيات و رؤيا فكرية جديدة لدى المبدعين؟
الأحداث غالبا ما تولد جملة من الأفكار المتناقضة لدى المبدعين، فالمثقف ليس طهوريا على الدوام وليس خائنا تماما، وبين البينين حالات، فبعد سقطوط الاتحاد السوفيتي، وانتصار الولايات المتحدة على العراق في حرب الخليج الثانية، انقسم المثقفون، عالميا وليس عربيا وحسب، إلى أحزاب أو جماعات، فئة تؤيد المنتصر ماديا وترى أن سر انتصاره يكمن في عمق وبصيرة معتقداته ونظامه المؤسساتي، وفئة من أليدلوجيين ترى أن المسألة لا تعدو كونها انتصارا ماديا ومؤقتا وأن هذا المنتصر لم يحقق هيمنته إلا بالقهر ووحشية الرأسمالية، وفئة ثالثة حائرة تنتظر الانحسام بناء على حسابات وتكتيكات ليست بالضرورة أخلاقية أو مبدئية، كل هذا أثر في شكل ومستوى الانتاج الابداعي، ففي فلسطين ظهر طابور يدعو لما يسمونه بشكل ذرائعي وتضليلي " ثقافة السلام " واشاعة طقس يروج لالغاء التاريخ والثقافة لصالح الاقتصاد والسياسة وهكذا، ويمكن ملاحظة ما يشبه هذا في العراق حيث برز " المارينز الثقافي " وهذا لا يعني أن النص فقد مناعته وصار رديفا لكل ما هو انهزامي وتلفيقي، بل العكس هنالك أصوات نحاول الحفاظ على صفاء نبرتها.
• *هل ما يدفعك لمقاربة النص الابداعي مقدار ما يحتويه من ادهاش. و كيف تنظر لرؤية انتهى زمن الشعر و بدأ زمن الرواية؟
الدهشة التي يولدها النص تثيرني بالتأكيد ثم أبدا بالبحث عن سرها، ولكن النقد يتعاطى حتى مع النصوص العاتية الملغزة والرديئة أحيانا للتدليل على أمر ما، فالنقد بكل تطييفاته الاجتماعية والنصوصية والنفسية والتكوينية كمناهج يقوم بمهماته لقراءة الظواهر والشروط والملامح الكليانية لعصر ما من العصور أو لزمرة من الأصوات، ولا يكتفي بقراءة النص بمعزل عن شروطه وصلاته، فهذه هي مهمة النقد في سعيه ليتبوأ منصة الخطاب الأول، أي الكف عن كونه خطابا الحاقيا بخطاب ابداعي. أما مقولة زمن الرواية فهي صحيحة إلى حد ما وإن لم تكن دقيقة فلا زال هنالك شعر، ولكن ينظر الى الرواية من خلال انتاجها الكمي ومن خلال صلتها بحراك الكائن الجديد فهي نتاج المدينة، وقد أشبعت هذه المقولة تأويلا لدرجة مملة وما زال الشعر حاضرا وفاعلا، أعتقد أننا بحاجة إلى التخفف من خطاب " النهاية " نهاية الايدلوجيا نهاية الشعر نهاية الفلسفة نهاية القوميات.
• *في كتابك( سادنات القمر) تناولت النص الشعري الانثوي في مختلف الثقافات و توصلت الى نزوع هذا النص للنبرة الحقوقية و للحس الايروتيكي. اتعتبر ذلك تميزا للصوت الشعري الانثوي. و هل استطاعت الشاعرة العربية ان تكتسب صوتها الخاص؟
في كتاب " سادنات القمر - سرّانية النص الشعري الأنثوي " تطرقت إلى جملة من الملامح التي تميز شعرية المرأة في محاولة للاقتراب من العبارة الأنثوية والوقوف على سر تشكلها من وجهة تاريخية ولسانية وثقافية بدون نية لتغليب نبرة على أخرى، وحتى بدون مواجهة خطاب النسوية بكل ما يمليه الارث والخطاب الذكوري، فالمحاولة كانت أقرب إلى رصد محاولات الكائن الأنثوي للتمثل الحياتي من خلال نصه الشعري، وقد وجدت في النص الشعري الأنثوي تحديدا قدرة وطاقة حية تعطي للشاعرة امكانية تمثيل المرأة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا، وبالتأكيد كان للشاعرة العربية حضورها منذ الجاهلية وحتى اليوم، وإن لم يكن خطابها الشعري بمستوى التحديات التي تتطلبها اللحظة، فلا زالت الشاعرة العربية متأثرة بالرجل، وتكتب من خلاله ومن أجله، وحنقا أو أسفا عليه، وأظنها آخذه في الانفكاك من هذا المكمن شيئا فشيئا.
• *برايك هل ما تواجهه قصيدة النثر سببه احتفاءها باليومي و الهامشي بلغة مكثفة دون تفاصيل يعتبرها الجانب( المعارض) ارهاق للقارئ
القطيعة بين قصيدة النثر والقارئ أو الناقد مسألة تتعدى الهامشي واليومي، فهي تعيش صراعا مع الأذن العربية ممثلة في صرامة الذاكرة العربية وما يتولد عنها من ذائقة عنيدة ومكرسة، فالأذن العربية مثقلة بالطبول والأجراس ويصعب مناغاتها بشعر تأملي اختلائي، رغم أن الموروث العربي يؤكد أن في الشعر بعض النثر والعكس، كما يقرر التوحيدي، ولكن هنالك فكر تنميطي يرفض استبدال القافية والوزن بوساعات الايقاع، ويصر على الخضوع لجماليات أو أيدلوجيا العمود الشعري، وقصيدة النثر بتصوري هي بحاجة إلى التخفف من ادعاءاتها، وعدم طرح منتجها كبديل انما كخيار، والكف عن التنظير ورفع الشعارات وتصدير البيانات فالرهان على الانتاج وليس على الضجيج واعلان المظلومية، فبهذا التوجه يمكنها انتاج استقطاباتها الجمالية البديلة حتى يمكن النظر اليها كقصيدة جديرة بالتأمل وليس مجرد نص نيء مستعجل ومفرغ من حرقة التجربة.
|