لسنا مؤهلين لمعرض فرانكفورت ومشاركتنا لن تكون أكثر من مزحة.

الناقد السعودي محمد العباس يثير الجدل دائماً في تناوله للمشهد الثقافي السعودي، فهو، مثلاً، يعتبر أن الروائي الدكتور تركي الحمد لا يكتب رواية بل مجرد سيرة ذاتية، كما يصف (بعض) الروايات السعودية بأنها ليست سوى قصص منفوخة، بسبب إصابة الروائي المحلي بما يسميه «الرهاب».
هنا حوار معه حول الرواية السعودية بشكل خاص، والاستعدادات السعودية والعربية للمشاركة في معرض فرانكفورت:
• ترى أن تركي الحمد لا يكتب رواية بل هو يكتب سيرة ذاتية، بينما تركي الحمد لا يزال يرفض اعتبارها سيرة ذاتية، بل هي رواية؟
ـ ليست سيرة ذاتية بهذا المعنى ولكنها تتوافق مع تصور كليف جيمس الذي يعني بالذاتية توظيف «مخزون الذاكرة» من دون اعتبارات وإسقاط كل تلك الخبرات على شخوص الرواية أو حقنها بتلك التجربة من دون مبرر فني، من خلال تجسيد شخصية على درجة من الشغف بالتفكير كشخصية كما حاولها في ثلاثيته، عبر بطله «هشام العابر» فقد أثبت في رواية بعد أخرى أنه لا يستطيع الإقامة خارج روايته، وهو لا يسمح بأفق مقروئية تفصل بينه وبين بطله لاختبار جملة من المفاهيم تميل إلى كون الشخصية محض خيال مبتدع لغاية فنية، فـ(أنا) الحمد غالبا ما تتجاوز اشتراطات الشخصية الروائية، ضمن قصة يريد أن يكون هو ساردها وبطلها والفاعل الأهم فيها، عبر ذات عارفة متكلمة ومتضخمة، إلى الحد الذي تفقد فيه الرواية لعبة التخييل، وتنطمس الشخصيات وتنسحب الرواية من موضوعية الوقائع إلى نزق الأنوية، ربما لأن الروائي كائن بشري شديد الارتباط بموضوعه، بحيث تكون ذات الحمد، وليس بطل الرواية عرضة لمجموع التناقضات الحياتية، التي يحاولها كروائي ليعصم الشخصية داخل النص من قدرها تعديلا للشرط الاجتماعي والتاريخي ربما، وقفزاً على الخيارات العاطفية والأيديولوجية أحيانا لتكون الحياة مجرد وهم مسرود. فالحمد هنا كفرد نتاج رواية هو منتجها أصلا فيما يشبه الديالكتيك الحاضن لقصة تلبس لبوس السيرة، حتى وإن جاءت في هيئة امرأة، كما تلبسها تركي الحمد في «جروح الذاكرة» عبر بطلته «لطيفة الأثلة»، التي جاءت كترجمة لذاكرة ووعي الحمد، وليست لسانا لبطل يتحرك ضمن سياق روائي، فالرواية لم تتأسس إلا بمستوى صوتي واحد هو صوت مؤلفها، وليس صوت شخصيات الرواية. وهو ما أخل بعلاقة الشخصية مع بقية أركان الرواية. فالرواية عمل فني له نُظمه الخاصة المتناغمة مع الحياة اليومية، والشخصية في الرواية تكون واقعية بقدر ما تعيش تبعا لمثل هذه النظم، أما عندما تحاول أن تعيش حياتها الخاصة فإنها تخون مشروع الرواية.
• تطرقت إلى مفهوم الشخصية الروائية في المنجز الروائي السعودي واعتبرتها شخصية غير قابلة للمكوث في الذاكرة. ما هي عوائق إيجاد شخصية مركّبة مؤسسة على التناقض؟
ـ الشخصية المركبّة كما يقترحها «تودروف» مؤسسة على الكثافة والتناقض، ولا يمكن استزراعها في أي رواية لمجرد الرغبة أو التجريب، إذ لا بد من وجود مرجعية لمثل هذه الشخصية على أرض الواقع يمكن بموجبها تنصيص حراكها، أو تركيبها ككتل كلامية بتصور «فورستر» ومنحها ملامح واسماً. هذا من ناحية المرجع الحي للشخصية، أما من الناحية الفنية فلا بد من وجود روائي على درجة من الوعي بمفهوم ودلالة ووظيفة الشخصية في الفعل الروائي، ولكن انتفاء مثل تلك الشخصية الإشكالية في مجمل المنجز الروائي المحلي إنما يعني أحد الأمرين، وأميل إلى السبب الثاني، أي عدم كفاءة الروائي المحلي، لأسباب ليست كلها فنية أو على صلة بما هو جمالي وحسب، بل يتبع ذلك جملة من التداعيات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تتكدس في وجه الروائي بما يشبه الرهاب، فالروائي المحلي يعيش بالفعل حالات من القصور أو الوعي المجزوء بمعنى الشخصية الروائية ويواجه بتحديات أشبه بالمعوقات النفسية والفنية.
• تؤكد أكثر من مرة أن الروايات السعودية قصص منفوخة، وأن بعض الروائيين ليست لديهم القدرة على التقاط أو تنصيص «الشخصية الإشكالية» بشكل يتناسب مع حداثة الواقع، أليس في المكان ـ مهما كانت سكونيته ـ فضاءً واسعاً للروائي لاكتشاف سحره ودهشته؟
ـ ليست كل الروايات بالتأكيد ولكن في الغالب نعم، فمجمل الروايات ليست سوى قصص قصيرة منفوخة، وهذا هو حال مجتمعات ما قبل الرواية، كما يسميها «بيير كلاستر» فهي أشبه ما تكون بالكتلة الصماء العمياء، حيث العتمة الماسخة للفرد، وعليه تكون الرواية هي أداة الفرد للتمثل الحياتي، وتفتيت بنية الصمت إثباتا للحضور. هذه فرضية أنطولوجية تقوم على روح الاستمرارية، وعلى تأكيد كون الرواية أداة هدمية بنائية في آن، وأعتقد أن الطفرة الروائية اللافتة تعكس جانبا من تلك المراودات ولكنها تظل أفقية وكمية، ولم يتحول ذلك التراكم الكمي بعد إلى حالة نوعية أو إلى نصاب أدبي مقنع، وهنا تكمن مهمة الروائي المحلي، فالفن هو «كيفيات» وليس موضوعات في المقام الأول.
• ترصد المنجز الروائي السعودي منذ التسعينات حتى يومنا هذا، ما مدى تأثير الروائيين الأوائل في هذا الجيل الروائي الحالي؟
ـ هذه المنتجات الروائية ليست استطرادا عضويا لرواية عبد القدوس الأنصاري «التوأمان» وما تلاها من الروايات التأسيسية، وفي ذات الوقت هي ليست انقلابا مدبرا عليها أيضا، بقدر ما تتمثل كأسئلة وحضور عالق ما بين الفني والموضوعي وتصب في مفهوم مغاير لمعنى الكتابة الروائية، وتحيل مجتمعة إلى ارتباك صريح أمام مصطلح الثقافة، وإلى تعلق أحدث بمعنى الوعي الروائي المباشر منه والضمني، بالنظر الى كون فعل الكتابة على درجة من التواشج بالذاكرة والهوية واللغة. وهنا تكمن التحديات والمغامرة الفردية للروائي الكفيلة بموضعته كذات على خط الزمن، كما تفترض الحداثة بحيث تضع الذات أمام ارتكاباتها التحديثية، فالكتابة الروائية المحلية الجديدة ملزمة بتخليق قوانينها عبر ذات مسؤولة وحرة تعي مهمة الفن كعملية اختراقية، تتصادم بمنظومة الثوابت الفنية والموضوعية على حد سواء، بمزيد من الإنتاج الروائي، مع ملاحظة أن ليس كل عملية مراكمة كمية تتحول إلى حالة نوعية بالضرورة، لكنها قد تسهم ببناء تصور روائي أحدث له من الشمول والتعدد الدلالي، وهذا ما يمكن تلمس بعض ارهاصاته ولو بشكل ومضات خاطفة.
• تشارك السعودية في معرض فرانكفورت الذي يقام في اكتوبر (تشرين الأول) المقبل، كيف ترى تواجد المنجز السعودي في المعرض خاصة أن أكثر المؤلفات الإبداعية هي من دور نشر خارجية، وكيف تنظر للأسماء المختارة للمشاركة في فعاليات المعرض؟
ـ لا أظن أن تواجدنا هناك سيكون له أي أثر يذكر. كالعادة، لن تكون المشاركة أكثر من فرجة. أظنه كرنفالا عولميا بعض الشيء، لم نستعد له كما ينبغي، فالمؤسسات الرسمية ليست مؤهلة أصلا لهذا الدور، والمثقف ليس أفضل حالا فهو دائما بانتظار ما تجود عليه المؤسسات من صدقات تسمى مشاركات ثقافية. لا أعلم حتى الآن عن المشاركين فهنالك تضارب في الإعلان عن الأسماء، ولكن أتوقعها ـ كالعادة ـ من تلك المكرسّة، وبالتحديد من أولئك الذين يستخفون بالمؤسسات الثقافية الرسمية، ولا يكفون من إعلان التبرؤ من إثمها فيما هم يمثلونها على الدوام. معرض فرانكفورت إذا لم يجاملنا «الآخر» سيكون فضيحة عربية بامتياز، وإلا كيف سيخاطب المثقف العربي أولئك عن الثقافة وحرية الرأي والاعتقاد والمعنى المتجاوز للديمقراطية فيما هو يفتقر إلى أبسط حقوقه الإنسانية.


عودة للرئيسة