أظنها الترجمة المشهدية لمزدوجة التصور الأرسطي، والأداء الغروتوفسكي، فمسرحية " حب بطعم الشوكولا " كما أرادها الرويعي/السعداوي دلالة رمزية لحياة الكائن كما تجسدها الفكرة الأرسطية في " عقدة الدراما " بالغائها القصدي للزمن الميت، اكتفاء بالحيوي من المعاش بشكل مكثف واستفزازي، حيث تستعرض منذ البداية سمات الشخصيتين المركزيتين بما يكتنفهما من تناقض ورغبات ودوافع، لإحداث حالة من التأهيل الإستمزاجي لدى المتلقي، بما هو المؤلف الثالث للنص، للوقوف على ما يمكن أن تقدم عليه أي منهما، فليس بالضرورة أن يكون هنالك بندقية في الفصل الأول لتتم جريمة القتل في الفصل الثالث، كما تروج الفكرة الكلاسيكية مسرحيا، ولكن يفترض أن تستزرع الشخصية بنوازع وارتباكات لنتوقع الفعل ورد الفعل، أو مايسميه أرسطو " الهفوة التراجيدبة " التي تكون سببا ونتيجة في آن كما حدث للبطلة لحظة اصطدامها بالحقيقة، أو هذا ما دسه الرويعي على غرة من المشاهد.
لمياء الشويخ كبطل تراجيدي خارج من خيبة طعم الشوكولا المغمس بالحسرات حاولت وفقا للنص أن تتجنب الكارثة، ولكن الحوادث التي يفسر صغيرها كبيرها، بشكل استقرائي، ويشد الجزئي منها كليانية الحدث أعطت للعرض تواترا يصعب تخيل خاتمة غير تلك التي دوت رصاصة، فالحوادت المتوالية والمكثفة لم تكن خارج خيطية السرد المسرحي وحلقويته، إنما كانت تؤدي الى بعضها وتقود الى مجرى أو سياق نصي يتكثف داخل مجموع فني يصعب الفكاك من إيقاعه وبالتالي الفرار من فعل التزمن الذي أدّاه نجيب هلال ببراعة، كمؤطر له، أقرب الى تردادية " الروندو " في الموسيقى، حيث تأهيل المتلقي لاستيعاب موضوعة الحب المتشظي دلاليا بتكرار هو بمثابة الرابط المونتاجي الموجب للتماسك الشكلي عبر ثيمة الدودة المعلقة في السنارة، والتنويع على تبدلها الأنطوقي.
ويبدو أن الرويعي - كمخرج - مارس على ممثليه ما يسميه غروتوفسكي سلطته الأدبيه، بما هي بناء وشيج وقاهر في الآن ذاته من الوعي والمفاهمة والرقابة الاستبدادية أقرب الى رعاية السيكوباتيين، حيث التلذذ بإظهار عنصر الألم في البنى النفسية والعصبية والشكلية عند الممثل، والإيغال في ممارسة شيء من السادية كإملاء توجيهي، مقابل المازوخية كاستجابة أدائية، تحيل تعاسة الممثلين الى شكل من أشكال القدسية التي تعني من الوجهة الغروتوفسكية، التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يعطي الفرصة لنا كمشاهدين للتمري عموديا في ذواتنا، وفيما يبدو تحقيقا لمقترح آرتو الأدائي بضرورة القسوة السافرة مع الذات تفصيحا لحضورها، وهو ما تبدى بتشريح تجريدي بارد للذات الإنسانية كما ترجمها بكفاءة لافتة الثنائي حسين العريبي ولمياء الشويخ، حيث ابتكر كل منهما أقنعته العضوية والعصبية الملائمة عبر حضوره الجثماني وبواسطه عضلاته وقسمات وجهه تعبيرا عن الحالات النفسية المتبدلة، وللتقولب وفق مقتضيات النص كما يفترض المسرح الفقير المراهن على أداء الممثل.
لم يكن ثمة شوكولا بقدر ما حضر " البروزاك " على عكس ما وعد النص واستفز الحواس كعنوان، أو هذا ما يبدو عليه العرض بحيلة استبطانية من خلال كثافة التخاطب والمحاورة بين البطلين، إلى درجة استغرق فيها النص في النزعة الذهنية ومتوالياتها الإخبارية والتوصيلية، ولكن يبدو أنه ككتابة وإخراج انحاز إلى ديالكتيك الطعم الخفي عوضا عن تشييء الشوكولا ذاتها، فقد أومأ العرض منذ استهلاله إلى أول الطعوم ( الأمريكان كوفي ) وإلى علاقة الرغبة بالمذاق، بما يشير إلى المرارة المستبطنة داخل الرغبات والشوكولا بطبيعة الحال، وبما يعني إرباك التصور الأفلاطوني لمفهومه الكلاسيكي حول الحواس العليا والدنيا، أي وضع المباشر والفارط في شهويته منها، مع الغائر والتأملي في ذات المكمن، خصوصا حين تراقص البطلان بانتشاء باهر، حيث كانت النشوة كمعادل لطعم الشوكولا تتدفق من عيني لمياء الشويخ، وتنزلق في طراوتها قدما حسين العريبي، على إيقاع موسيقى لا تقل بطولة وروعة لنادر أمين الدين، الذي أبدع تعبيرا، لا توصيفا، للحالات المتبدلة، فقد كانت موسيقاه المتنوعة منبهات حسية على درجة من الرهافة والدّل.
طعم الشوكولا إذا كان هناك، في عينين تذرفان الفرح، رغم الإظلام، حين تنظران الى وجه حبيب موعود بموت مؤجل، وحين تتأملانه بنظرات حيادية مرعبة في دور السايكاترست حيث كان حسين العريبي في أفضل حالاته الأدائية عندما جسد دور الفصامي، لدرجة كنا نراود أنفسنا بتقديم العون له، فلمياء وحسين إذا، لم يكونا في حالة تمثيل، بقدر ما كانا يعيشان على حافة الحقيقة النصية ازاء الكذبة الرومانسية، حيث أحسن الرويعي تأهيلهما ككائنات بشرية وليس كممثلين، حسب اقتراح كرستي ج. ف. أو هذا ما نجح في اقناعنا به من خلال التمازج العضوي مع دكة العرض أو ما يسمى فنيا بالتظيم الشكلي، حيث كان العرض رغم حداثته وغرائبيته يضبط وظيفيا مستوى الإدراك أو الاستقبال البصري، كما يبئّر الرؤية رغم بعثرة زوايا الابصار، ليبدو العمل مفهوما الى حد لا يوقعه في الخطابية والثرثرة، وبحيث يكون هو قيمة جمالية بذاته، يحقق للنص قيمته التداولية كعرض.
هكذا كاد العنوان أن يضللنا لنبحث عن طعم الشوكولا في المباشر والمعروض، ولكن " حب بطعم الشوكولا " كعرض متجاوز ومغاير أميل الى خلوصية معنى المسرح، كان يتحدانا بالبحث في المهم والأهم من العلامات، أي في الدلالي المدسوس في الباطن أو المهمل في الظل، وليس في التعاقبي أو المضاء، في محاولة للانحياز الى كل ما هو مسرحي في صميمه وليس إلى الخطابي، فحب بطعم الشوكولا كنص وعرض، أقرب الى الحسية منه الى محدودية البصري، وهذا ما يفصح عنه العنوان، وعليه فهو يستفر الحواس لتقصي العناصر المهملة، والتنبه للهامشي والمتدرج من العلامات في العرض للوصول الى ذروة جمالية ليست بالضرورة أحادية أو مخبوءة في نهاية العرض، بقدر ما هي مؤهلة للاستدماج في نسق علوي جامع كوحدة شاملة للدلالات، فكل ما يدخل في العرض كان يتحول الى علامة بما في ذلك العرضي والهامشي كانسكاب الماء في الكأس مثلا.
ولأنه نص حقيقي في داخله، مستمد مما يمكن اعتباره فعل الحدوث، لا يبدو بحاجة الى حقيقة أو استعارة من خارجه، فقوته تكمن في وحدة الشكل والتعبير، بما هو محاكاة ولكن ليس لتصور شكلي، إنما لمعنى معرفي، أي لحالة متطرفة وجوديا، وهي لعنة الكائن المستدعى ضمن الخطاب الانترنتي المعولم المغترب، أي " الانسان العالق بين المعنى الكلي لمفهوم الكون ومفهوم العالم " وعليه يقترح شكليا معنى جماليا وأدائيا متطرفا قوامه حداثة التصور الفني، أي الميل الى التجريب بوصفه نهجا وأدائية تأخذ العرض الى المعنى الأعمق لمفهوم المسرح، وليس تنفيذ النص وحسب، أما من الوجهة الموضوعية فهو أميل الى مقترح لغة الانفعالات، البسيط والغريزي منها تحديدا، كضرورة لمداواة الشقاء البشري، بمعنى التعاطي مع النيء والجاهز أو المعلب من العواطف المملاة، وهنا مكمن البراعة، أي في العلاقة التبادلية المركبة بدراية ووعي بين العناصر الموضوعية والفنية للعرض، المتحولة الى فرجة ممكنة التفاعل حسيا.
إذا، الشكل والتعبير يتعاضدان لتطويع الحياة أو المعاش بمعنى أدق بما هو العنصر المادي للثالوث الفني، بما هي اشارات كاشفة أو معرية للمواضعات الشائعة مسرحيا بمساعدة جملة من التقنيات المستعارة لتغيير وجهة الرؤيا وليس لإثقال العرض بسينوغرافيا باهضة، تكتفي بتحويل النص المكتوب الى عرض بصري دون توليد لغة مكتنزة بمعنى المسرح، فحتى العتمة الدائمة كانت تضيف لضيق المكان دلالة وشيء من الاحساس بمأزق البطلين، فلم يكن الممثلون بحاجة الى شيء من المكياج أو حتى المؤثرات البرانبة بقدر ما استندوا على دوافعهم الباطنية وقدراتهم على التحول من حالة لأخرى، حتى الأصوات والسينوغرافيا كانت تحيل المكان الى فضاء منسجم استطاع إنطاق النص المكتوب وتحويله الى مشهد تمثيلي مقنع والى فرجات مثيرة حسيا، فهو عرض لا يجاري مشهدية السينما انما يحايثها بلعبة المسرح كجامع نصي.
داخل تلك العلبة المعتمة كنا بحاجة الى النقيض، وأظنها لعبة الرويعي الفطنة، فالبطلان كانا يعبران مسرحيا بالمتناقض حيث الحاجة الى الحب من خلال القسوة، والحاجة الى الراحة من خلال الألم، والحاجة الى السعادة من خلال التعاسة، بل الحاجة الى العقل من خلال الهذيانات، بما يعني العودة الى تحويل العرض المسرحي " حب بطعم الشوكولا " الى حالة من الصراع النفسي مع المشاهد، تتطلب الكثير من العطف والود مع الممثل، حيث التماس الاضطراري مع البئية التاريخية للنص والوقوف على علاقته بروح العصر، انطلاقا من التماس العاطفي والعميق مع الممثلين.
إذا، هنالك تحد أو استفزاز للطاقة الروحية عند المتلقي ومجابهة طهوريته الشعورية، بمعنى مجابهة الأس الأسطوري الآخذ في التشكل ، بمعالنة جسدية ولغوية سافرة من الممثلين الذين أجادوا في تأكيد قدسية أداءاتهم عبر الصوت والإيماءة والتعبير اللافت عن أدق وأضأل التفاصيل والدوافع بلغة نفسية تحليلية قوامها الأصوات والحركات كما تبدت حتى في تحولهما من عاشقين أسيرين في " الجفير" يتخاطبان بلكنة بحرينية عتيقة إلى كائنات انترنتية معدنية النبرة والإحساس، حيث الصوت المجسّم، واللعب بطاقة الحنجرة المفتوحة بالإحساس والتقمص وليس بالممكن التقني وحسب، وإحالة أصواتها الى إشارات الكترونية منسابة في متاهات السوبر هاي واي.
إن التجسيد الأدائي الذي عبرا عنه ليس مجرد تعبير عما هو موضوعي في نص السعداوي/الرويعي بل طال حتى النفسي أو الروحي بمعنى أشمل، فهذا العرض يتجاوز الإقناع المنطقي والتأثير النفسي إلى أن يتحقق كعمل داخل الكيان الحي للمثل، حيث استحالت تجريدات النص الى محسوسات منسوجة في رابط اتصالي يمازج بين الذاتي والموضوعي، وبين الواقعي والإيهامي، بل بين المعاش والمتخيل، فيما يؤكد حضور الخبرة الثقافية كأس فاعل للتجريب، بما هو فعل بحثي عن معنى أعمق وأكثر جوهرانية للمسرح.
|