إعتصار الديمقراطية من أنساغ الثقافة

كما درب الشاعر الغجري أذنيه على الإصغاء إلى جريان الدم وهو يتصيّر حليبا في أنساغ نعاجه، يريدنا الدكتور ابراهيم غلوم أن نرهف الإنصات الى الثقافة لنستخلص منها أدبيات الديمقراطية وشروط استيلادها. وأظنها حيلة معرفية للمثاقفة على درجة من الفطنة حين أغرانا بالإقامة بين قوسين فائقي المرونة ( الثقافة/الديمقراطية ) للتماس بهموم الإنسان والثقافة والمواطنة دون تحفظ ولا احتراز، متنقلا بروح المثقف الجاد لتأمل جملة من الظواهر، والأفكار، والشخوص، فهو إذ يحلل نسق الاستبداد، يقرأ الثقافة بوصفها خطابا ديمقراطيا، ويطبق جانبا من رؤاه تلك على اجتهادات محمد جابر الأنصاري، وظاهرة المجلات الثقافية العربية، والثقافات المصغرة، ليتدانى بنا الى شروط انتاج المثقف بكل تداعياته التاريخية والاجتماعية والنفسية.

ولأنه أقرب الى أفق الحقائق الثقافية المعاشة، يختبر كل تلك المتوالية من الموضوعات على الحالة الخليجية ضمن تحولات الحدث الديمقراطي وكأنه يقترح برنامج عمل لثقافة الحوار والإصلاح والسلم الاجتماعي المنتعشة في الأدبيات السياسية اليوم، وذلك في كتابه " الثقافة وانتاج الديمقراطية " الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث يصعب التماس به ابتداء الا بنية " تلخيصية" لاعتصار معنى خصوصية العلاقة في تلك المزدوجة، فيما يبدو تأطيرا معرفيا وحقوقيا لجملة من دراساته السابقة المعنية بالشأن الثقافي الخليجي وخصوصا كتابه " الثقافة واشكالية التواصل الثقافي في مجتمعات الخليج العربي".

الدراسات مكتوبة بحميمية ولغة طازجة تشعرك حتى بنبرة المؤلف وهو يحدثك فيما يشبه المشافهة عن خيبات مثقف مصقول بإحساس عميق بالنظرية الوظيفية للثقافة، فقد اعتقد كالآخرين من أبناء جيله بأنها تنطوي بالفعل على مضمون يستطيع تغيير الواقع ، وما زال يصر عبر كتابه على صياغة مفهوم وظيفي لها ، يرتكز في أساسه على أن انتاج الديمقراطية في مجتمع من المجتمعات هو الوظيفة الأساسية لإقرار أو اثبات أن التنوع الثقافي والإختلاف في التحيزات والانتماءات والهويات مسائل ينبغي الاعتراف بها بوصفها من مكونات الثقافة، على اعتبار أنها إنتاج يقوم على الاختلاف والتنوع والصراع بذات القدر الذي ينتج في المقابل جملة من الأفكار والمواقف المتباينة ازاء الحرية والديمقراطية.

ولاختبار ذلك المفهوم الجدلي يبدأ تماسه مباشرة بالتراث، في مكمنه الأكثر وعورة، أي الدين كأنثروبولوجيا وكأيديولوجيا وكطوائف ومذاهب أو فرق، وبما هو لغة وسلطة ودولة ونظم وشعر وعلوم وكافة ما يستخدم في معنى التراث الثقافي والفكري، ملفوفا في بطانة وجدانية ايديولوجية، ومطروحا على طاولة السجال ضمن مرجعيات الفكر العربي المعاصر، كقوة مهيمنة، فهو برأي غلوم، بمثابة ذاكرة ثقافية تتخلل مساحات الوعي واللاوعي، ويحضر كنموذج بديل يوازي النموذج الغربي، بل هو الذات التي سجل معها الخطاب العربي المعاصر خطابا سجاليا قائما على حالات الإختلاف والتراضي والانقسام والتماهي.

وإذ يؤكد على أن نظريات ما بعد الحداثة تضع الاعتراف بالتباين والاختلاف والتنوع شرطا لتحديد معنى الثقافة، يتساءل عن سر غيابها عربيا، أو بمعنى أدق مواجهتها بالرفض، ويجد الجواب في حضور نسقية الموروث في الشخصية العربية ، أي في الذاكرة النسقية التي تنفي السببية بنسق استبدادي خفي داخل تلك الشخصية، وداخل النص بوصفه رمزا للمستبد، خصوصا فيما يمثله " النص الأول " من سلطة، وتحديدا في اللغة بما هي عصب ذلك النسق ورمزه.

هنا يكمن التحدي الأهم لمشروع الحداثة العربية، وفيه تسجل فشلها، أي في المواجهة الخائبة مع قوة الموروث، ليس بوصفها واقعا حتميا فحسب، وانما بوصفها ميثولوجيا ترتبط بتأسيس الدولة وتأسيس الجماعات المحلية والقطرية المتضامنة معها، كالقبيلة والطائفة والمذهب والجهة. وبالنظر الى عطالة المجتمع العربي المدني أمام نسق الاستبداد، تزداد المواجهة صعوبة بالنسبة للثقافة العربية في مواجهة قيم العولمة، خصوصا عند مقاربتها كحركة موضوعية في التاريخ، فالعولمة بقدر ما هي ثورة في العلوم والتكنولوجيا والمعلومات، هي عامل تغيير حيوي على درجة من التواصل بالخطاب الحداثي المنتج للديمقراطية والفاعل في مواجهة النسق الاستبدادي.

وعليه، يبدو الحل برأيه، مقترنا بالكشف عن القوى المهيمنة للنسق الاستبدادي في الثقافة العربية، بمراجعة الأفكار الأساسية للمشروع القومي من أجل إقصاء المفاهيم الحتمية، والاقرار بالتنوع الثقافي، والتحرر من عقد المركزية، وبمجادلة مشروع الحداثة من أجل تنقيته وبلورة أفكاره العلمية الواقعية، وتعزيز الفضاء الاجتماعي لمفهوم المجتمع المدني القائم على أفكار المواطنة والثقافة المواتية للديمقراطية، والخروج من دوائر التمركز، الذاتي منها والمضاد، وتطوير الأنظمة السياسية وتنميتها في اتجاه العقلانية والديمقراطية، بما يكفله ذلك التوجه من مساواة، وحرية دينية، واستقلال القضاء، وإقصاء الطائفية، وتحرير المؤسسة الدينية، وعقلنة الدولة، وإدخال أدبيات مشروع النهضة والحداثة العربية في برامج التربية والتعليم وأساليب التنشئة وتوجهات الثقافة المدنية.

بهذا التكثيف البنائي يشخص معضلة التنمية، انطلاقا من مصطلح الثقافة الذي يختزل أزمة الهوة بين كيان الدولة الحديثة وهويتها المتفاعلة مع العوامل الثقافية المشتركة، على اعتبار أن الثقافة، بتصوره، هي انتاج المجتمع بكل ما فيه من تنوع وتناقض وتغير وثبات، وبكل ما هو عليه من أفكار وتجارب متحققة وغير متحققة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وعليه تبدو حتى التحديات حقلا مشمولا ضمن ذلك المصطلح، فمفردة الثقافة حين ترتطم بمفردة التحديات ينفتح أفقا استراتيجيا جديدا ليثير جدل المركزيات المحلية والعالمية كضغوطات تتجدد بموجبها أسئلة الثقافة العربية، وربما وفق ترتيبات وأزمات طارئة، لكن يبقى التمركز حول الثقافة كخطاب استراتيجي جديد أساسه الوعي الجديد بأن عوامل ثقافية أساسية تقف وراء أزماتنا في الاقتصاد والسياسة والصراع.

إذا، الثقافة بدون أن تقترن بالمعنى الخلاق في التغيير ثقافة لا قلب لها ولا روح، وبرأيه، انها مجرد تاريخ يومي لا معنى له ولا جدوى منه، وعلى ذلك أكد على رفض الفصل بين الثقافة والتحديات، حيث يتعطل فعل انتاج الديمقراطية، فالاختلالات تكمن في عدم ادراك مفهوم الثقافة من خلال حكمة الأنثروبولوجيا الا في وقت متأخر، وبسبب التفريط في المعنى الحيادي المطلق الذي ينطوي عليه مصطلح الثقافة، واغلاقه في دوائر نخبوية بذرائع سياسية، وفي إكساب الثقافة تاريخا موازيا وهامشيا، مقابل إقصاء كل ما هو هامشي في الثقافة بما يعنيه من اعتراف بالتباين والاختلاف والتغير والتنوع، والامعان في هاجس الانتماء للمركزيات خصوصا التنظيمات السياسية التي بالغت في تفريغ خطابها من البعد السياسي.

هكذا تبدو الهوية الثقافية للفرد معرضة دوما للاختراق والتأثيم، إما من المؤسسة الرسمية، حيث الصراع بين الهوية والسلطة، أو من الهويات الثقافية الموازية، حيث التصارع بين المثقفين أنفسهم، وهذا يعني، برأيه، أن خللا فادحا يقع في مسألة حرية الهوية والإعتقاد والكيفية التي يشكل بها الأفراد مشروعاتهم في حقبة معينة من تاريخهم الثقافي، فمن معطف المثقف المحتضن بعقود الكوارث والتحولات تولد النموذج الموازي، وهو مثقف ذي تكوين ديني، أصولي، يتعاطى الخطاب الحداثي بالتباس أو مكر تلفيقي، حيث يلهج بمصطلحات نظرية من قبيل الألسنية والبنيوية والتفكيكية، ويقبل على شروح ونقول مجتزأة من هذه النظرية فينغمس في ترديدها في منابر الصحافة المحلية كتتلمذ ناقص، أو نقدية مضادة لفكر ومنظومة " الآخر " دون اعتقاد حقيقي بمستوجباتها.

لكن الاشكالية المعرفية ليست في نقد ذلك " الآخر " بل في نقد " الذات " كبداية ونهاية لمشروع الحداثة، بما هي المفتاح لكل الاستيلادات، ولكن يبدو أن ذلك الخطاب أو المثقف المأزوم، بتصوره، يثير أزمات مفتعلة حول القطيعة المعرفية والموقف من المحيط الثقافي السائد، والأعقد من ذلك ما يشكله من مكر الخطاب وانتهازية الموقف فهو ان شاء اصولي من ناحية الاستراتيجية وان شاء حداثي يأخذ بجديدات معرفية راهنه وهو ان شاء مع السلطة وان شاء مع المثقف ايا كانت صفوفه وفي كل الأحوال، وهذا النموذج غير مأمون الجانب، فهو لا يجرؤ على خوض معارك عملية مع الواقع وليست له انجازات ثقافية ملموسة ويكاد يكون كمن يمارس وظيفة حسب الطلب.

بموجب تلك المقروئية الحفرية لحال ومآل المثقف يتأمل مفصل حرب الخليج الثانية حيث افتضاح المثقف العربي والخليجي، ليشخص الجوهر الذي تفتقر اليه الثقافة الخليجية وهو الديمقراطية ، ممتزجا بعدوى المرض العربي بهذا الشأن، وعليه يقرأ ظاهرة الصوت المرتفع للتجربة الديمقراطية خليجيا وتزايد مكاسبها من مكمن الثقافة، مقابل نفيها - أي الديمقراطية - كضرورة في أدبيات السياسة الرسمية، بحيث يصل النفي الى درجة تفتيش الثقافة ومحاكمتها والحيلولة دون جعلها تعبيرا عن هذه الضرورة، أو تأصيلا لقيمها الاجتماعية والأخلاقية، ويأتي ذلك ، بتقديره، في فترة بات من الضروري الوعي التدريجي بحتمية ما تبشر به حركة التاريخ من متغيرات، واستيعابها أو توظيفها في عملية عمليات التجدد الاجتماعي، تلك العمليات التي يختار فيها الانسان الكيفية الممكنة للتغيير، ليس في أي وقت كان، وانما في الوقت الذي تنعزل فيه تراكمات الماضي ، وتنفجر فيه نذر المستقبل.

سؤاله هذا الذي يحدث في المستقبل، يرسم دور الدولة بما يتلخص في ضرورة الوعي بحركة التاريخ، مما يعني ضرورة تنظيمها الاستباقي لمبادئ الحرية والمساواة والعدالة، وأخذها بالشروط العقلانية في تنمية المجتمع، وخلقها المناخ الاجتماعي الملائم لظهور بيئة ثقافية يصبح فيها المواطن كائنا ثقافيا منتجا لقيم الشراكة والتعددية، بمجرد أن يتحد بمرافقها وأجهزتها وإنتاجها، وعلى المثقف في المقابل التورط في أحاريك الثقافة بجدلية تاريخية، فهو مطالب بأن يكف عن القطيعة ليتحد اتحادا كاملا مع هذه البئية، وأن يصيخ لنداء أشواقها للحرية، فالحدث الديمقراطي الراهن استجابة طبيعية لصيرورة تاريخية قارة.

كما درب الشاعر الغجري أذنيه على الإصغاء إلى جريان الدم وهو يتصيّر حليبا في أنساغ نعاجه، يريدنا الدكتور ابراهيم غلوم أن نرهف الإنصات الى الثقافة لنستخلص منها أدبيات الديمقراطية وشروط استيلادها. وأظنها حيلة معرفية للمثاقفة على درجة من الفطنة حين أغرانا بالإقامة بين قوسين فائقي المرونة ( الثقافة/الديمقراطية ) للتماس بهموم الإنسان والثقافة والمواطنة دون تحفظ ولا احتراز، متنقلا بروح المثقف الجاد لتأمل جملة من الظواهر، والأفكار، والشخوص، فهو إذ يحلل نسق الاستبداد، يقرأ الثقافة بوصفها خطابا ديمقراطيا، ويطبق جانبا من رؤاه تلك على اجتهادات محمد جابر الأنصاري، وظاهرة المجلات الثقافية العربية، والثقافات المصغرة، ليتدانى بنا الى شروط انتاج المثقف بكل تداعياته التاريخية والاجتماعية والنفسية.

ولأنه أقرب الى أفق الحقائق الثقافية المعاشة، يختبر كل تلك المتوالية من الموضوعات على الحالة الخليجية ضمن تحولات الحدث الديمقراطي وكأنه يقترح برنامج عمل لثقافة الحوار والإصلاح والسلم الاجتماعي المنتعشة في الأدبيات السياسية اليوم، وذلك في كتابه " الثقافة وانتاج الديمقراطية " الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث يصعب التماس به ابتداء الا بنية " تلخيصية" لاعتصار معنى خصوصية العلاقة في تلك المزدوجة، فيما يبدو تأطيرا معرفيا وحقوقيا لجملة من دراساته السابقة المعنية بالشأن الثقافي الخليجي وخصوصا كتابه " الثقافة واشكالية التواصل الثقافي في مجتمعات الخليج العربي".

الدراسات مكتوبة بحميمية ولغة طازجة تشعرك حتى بنبرة المؤلف وهو يحدثك فيما يشبه المشافهة عن خيبات مثقف مصقول بإحساس عميق بالنظرية الوظيفية للثقافة، فقد اعتقد كالآخرين من أبناء جيله بأنها تنطوي بالفعل على مضمون يستطيع تغيير الواقع ، وما زال يصر عبر كتابه على صياغة مفهوم وظيفي لها ، يرتكز في أساسه على أن انتاج الديمقراطية في مجتمع من المجتمعات هو الوظيفة الأساسية لإقرار أو اثبات أن التنوع الثقافي والإختلاف في التحيزات والانتماءات والهويات مسائل ينبغي الاعتراف بها بوصفها من مكونات الثقافة، على اعتبار أنها إنتاج يقوم على الاختلاف والتنوع والصراع بذات القدر الذي ينتج في المقابل جملة من الأفكار والمواقف المتباينة ازاء الحرية والديمقراطية.

ولاختبار ذلك المفهوم الجدلي يبدأ تماسه مباشرة بالتراث، في مكمنه الأكثر وعورة، أي الدين كأنثروبولوجيا وكأيديولوجيا وكطوائف ومذاهب أو فرق، وبما هو لغة وسلطة ودولة ونظم وشعر وعلوم وكافة ما يستخدم في معنى التراث الثقافي والفكري، ملفوفا في بطانة وجدانية ايديولوجية، ومطروحا على طاولة السجال ضمن مرجعيات الفكر العربي المعاصر، كقوة مهيمنة، فهو برأي غلوم، بمثابة ذاكرة ثقافية تتخلل مساحات الوعي واللاوعي، ويحضر كنموذج بديل يوازي النموذج الغربي، بل هو الذات التي سجل معها الخطاب العربي المعاصر خطابا سجاليا قائما على حالات الإختلاف والتراضي والانقسام والتماهي.

وإذ يؤكد على أن نظريات ما بعد الحداثة تضع الاعتراف بالتباين والاختلاف والتنوع شرطا لتحديد معنى الثقافة، يتساءل عن سر غيابها عربيا، أو بمعنى أدق مواجهتها بالرفض، ويجد الجواب في حضور نسقية الموروث في الشخصية العربية ، أي في الذاكرة النسقية التي تنفي السببية بنسق استبدادي خفي داخل تلك الشخصية، وداخل النص بوصفه رمزا للمستبد، خصوصا فيما يمثله " النص الأول " من سلطة، وتحديدا في اللغة بما هي عصب ذلك النسق ورمزه.

هنا يكمن التحدي الأهم لمشروع الحداثة العربية، وفيه تسجل فشلها، أي في المواجهة الخائبة مع قوة الموروث، ليس بوصفها واقعا حتميا فحسب، وانما بوصفها ميثولوجيا ترتبط بتأسيس الدولة وتأسيس الجماعات المحلية والقطرية المتضامنة معها، كالقبيلة والطائفة والمذهب والجهة. وبالنظر الى عطالة المجتمع العربي المدني أمام نسق الاستبداد، تزداد المواجهة صعوبة بالنسبة للثقافة العربية في مواجهة قيم العولمة، خصوصا عند مقاربتها كحركة موضوعية في التاريخ، فالعولمة بقدر ما هي ثورة في العلوم والتكنولوجيا والمعلومات، هي عامل تغيير حيوي على درجة من التواصل بالخطاب الحداثي المنتج للديمقراطية والفاعل في مواجهة النسق الاستبدادي.

وعليه، يبدو الحل برأيه، مقترنا بالكشف عن القوى المهيمنة للنسق الاستبدادي في الثقافة العربية، بمراجعة الأفكار الأساسية للمشروع القومي من أجل إقصاء المفاهيم الحتمية، والاقرار بالتنوع الثقافي، والتحرر من عقد المركزية، وبمجادلة مشروع الحداثة من أجل تنقيته وبلورة أفكاره العلمية الواقعية، وتعزيز الفضاء الاجتماعي لمفهوم المجتمع المدني القائم على أفكار المواطنة والثقافة المواتية للديمقراطية، والخروج من دوائر التمركز، الذاتي منها والمضاد، وتطوير الأنظمة السياسية وتنميتها في اتجاه العقلانية والديمقراطية، بما يكفله ذلك التوجه من مساواة، وحرية دينية، واستقلال القضاء، وإقصاء الطائفية، وتحرير المؤسسة الدينية، وعقلنة الدولة، وإدخال أدبيات مشروع النهضة والحداثة العربية في برامج التربية والتعليم وأساليب التنشئة وتوجهات الثقافة المدنية.

بهذا التكثيف البنائي يشخص معضلة التنمية، انطلاقا من مصطلح الثقافة الذي يختزل أزمة الهوة بين كيان الدولة الحديثة وهويتها المتفاعلة مع العوامل الثقافية المشتركة، على اعتبار أن الثقافة، بتصوره، هي انتاج المجتمع بكل ما فيه من تنوع وتناقض وتغير وثبات، وبكل ما هو عليه من أفكار وتجارب متحققة وغير متحققة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وعليه تبدو حتى التحديات حقلا مشمولا ضمن ذلك المصطلح، فمفردة الثقافة حين ترتطم بمفردة التحديات ينفتح أفقا استراتيجيا جديدا ليثير جدل المركزيات المحلية والعالمية كضغوطات تتجدد بموجبها أسئلة الثقافة العربية، وربما وفق ترتيبات وأزمات طارئة، لكن يبقى التمركز حول الثقافة كخطاب استراتيجي جديد أساسه الوعي الجديد بأن عوامل ثقافية أساسية تقف وراء أزماتنا في الاقتصاد والسياسة والصراع.

إذا، الثقافة بدون أن تقترن بالمعنى الخلاق في التغيير ثقافة لا قلب لها ولا روح، وبرأيه، انها مجرد تاريخ يومي لا معنى له ولا جدوى منه، وعلى ذلك أكد على رفض الفصل بين الثقافة والتحديات، حيث يتعطل فعل انتاج الديمقراطية، فالاختلالات تكمن في عدم ادراك مفهوم الثقافة من خلال حكمة الأنثروبولوجيا الا في وقت متأخر، وبسبب التفريط في المعنى الحيادي المطلق الذي ينطوي عليه مصطلح الثقافة، واغلاقه في دوائر نخبوية بذرائع سياسية، وفي إكساب الثقافة تاريخا موازيا وهامشيا، مقابل إقصاء كل ما هو هامشي في الثقافة بما يعنيه من اعتراف بالتباين والاختلاف والتغير والتنوع، والامعان في هاجس الانتماء للمركزيات خصوصا التنظيمات السياسية التي بالغت في تفريغ خطابها من البعد السياسي.

هكذا تبدو الهوية الثقافية للفرد معرضة دوما للاختراق والتأثيم، إما من المؤسسة الرسمية، حيث الصراع بين الهوية والسلطة، أو من الهويات الثقافية الموازية، حيث التصارع بين المثقفين أنفسهم، وهذا يعني، برأيه، أن خللا فادحا يقع في مسألة حرية الهوية والإعتقاد والكيفية التي يشكل بها الأفراد مشروعاتهم في حقبة معينة من تاريخهم الثقافي، فمن معطف المثقف المحتضن بعقود الكوارث والتحولات تولد النموذج الموازي، وهو مثقف ذي تكوين ديني، أصولي، يتعاطى الخطاب الحداثي بالتباس أو مكر تلفيقي، حيث يلهج بمصطلحات نظرية من قبيل الألسنية والبنيوية والتفكيكية، ويقبل على شروح ونقول مجتزأة من هذه النظرية فينغمس في ترديدها في منابر الصحافة المحلية كتتلمذ ناقص، أو نقدية مضادة لفكر ومنظومة " الآخر " دون اعتقاد حقيقي بمستوجباتها.

لكن الاشكالية المعرفية ليست في نقد ذلك " الآخر " بل في نقد " الذات " كبداية ونهاية لمشروع الحداثة، بما هي المفتاح لكل الاستيلادات، ولكن يبدو أن ذلك الخطاب أو المثقف المأزوم، بتصوره، يثير أزمات مفتعلة حول القطيعة المعرفية والموقف من المحيط الثقافي السائد، والأعقد من ذلك ما يشكله من مكر الخطاب وانتهازية الموقف فهو ان شاء اصولي من ناحية الاستراتيجية وان شاء حداثي يأخذ بجديدات معرفية راهنه وهو ان شاء مع السلطة وان شاء مع المثقف ايا كانت صفوفه وفي كل الأحوال، وهذا النموذج غير مأمون الجانب، فهو لا يجرؤ على خوض معارك عملية مع الواقع وليست له انجازات ثقافية ملموسة ويكاد يكون كمن يمارس وظيفة حسب الطلب.

بموجب تلك المقروئية الحفرية لحال ومآل المثقف يتأمل مفصل حرب الخليج الثانية حيث افتضاح المثقف العربي والخليجي، ليشخص الجوهر الذي تفتقر اليه الثقافة الخليجية وهو الديمقراطية ، ممتزجا بعدوى المرض العربي بهذا الشأن، وعليه يقرأ ظاهرة الصوت المرتفع للتجربة الديمقراطية خليجيا وتزايد مكاسبها من مكمن الثقافة، مقابل نفيها - أي الديمقراطية - كضرورة في أدبيات السياسة الرسمية، بحيث يصل النفي الى درجة تفتيش الثقافة ومحاكمتها والحيلولة دون جعلها تعبيرا عن هذه الضرورة، أو تأصيلا لقيمها الاجتماعية والأخلاقية، ويأتي ذلك ، بتقديره، في فترة بات من الضروري الوعي التدريجي بحتمية ما تبشر به حركة التاريخ من متغيرات، واستيعابها أو توظيفها في عملية عمليات التجدد الاجتماعي، تلك العمليات التي يختار فيها الانسان الكيفية الممكنة للتغيير، ليس في أي وقت كان، وانما في الوقت الذي تنعزل فيه تراكمات الماضي ، وتنفجر فيه نذر المستقبل.

سؤاله هذا الذي يحدث في المستقبل، يرسم دور الدولة بما يتلخص في ضرورة الوعي بحركة التاريخ، مما يعني ضرورة تنظيمها الاستباقي لمبادئ الحرية والمساواة والعدالة، وأخذها بالشروط العقلانية في تنمية المجتمع، وخلقها المناخ الاجتماعي الملائم لظهور بيئة ثقافية يصبح فيها المواطن كائنا ثقافيا منتجا لقيم الشراكة والتعددية، بمجرد أن يتحد بمرافقها وأجهزتها وإنتاجها، وعلى المثقف في المقابل التورط في أحاريك الثقافة بجدلية تاريخية، فهو مطالب بأن يكف عن القطيعة ليتحد اتحادا كاملا مع هذه البئية، وأن يصيخ لنداء أشواقها للحرية، فالحدث الديمقراطي الراهن استجابة طبيعية لصيرورة تاريخية قارة.


عودة للرئيسة