في مرآة المحرّم الثقافي ..
الرواية تمشط شعرها

الرواية هي مرض الرواية، كما يفترضها ر. م. البيريس في قراءته لتاريخانيتها، وهي أيضا مرض الانسان الذي لا يكفيه ضميره، بل يتمادى بشهوية وإغراء لانتهاك ضمائر أخرى، ليعيشها كحيوات مضاعفة. وهنا مكمن الخيبة عند التماس مع الرواية النسائية المحلية ، فالقارئ الذي يتبنى دور مصّاص الدماء، برأي البيريس، يريد أن يجعل من قراءة الرواية متعة سادية، بالنظر الى أن ما تتقصده السادية الروائية هو الولوج في قلب الضمير على نحو غامض، أي في الفراغ المتوتر الذي يجده كل انسان في أعماق ذاته، بمعنى أن تنكتب الذات على نحو تتوقف بها عن الوجود لتستسلم لضيف آخر ( سادي ) ، كما يصنّفه موريس بلانشو، ويعني به القارئ الذي لا مهمة له ولا حياة إلا انعدام حياة الكاتب.

هنا يكمن سر الخيبة المتأتية من مقاربة الرواية النسوية المحلية، التي تبدو عند الحديث عن معيارية الفعل الروائي، وفي جانب كبير منها وكأنها تعيش عالم ما قبل الرواية، فهي متولدة أصلا في ظل نظام رمزي قاهر، وفي حقل ثقافي محاصر بسياج من التسلط النفسي والفكري، بحيث لا تعكس صيرورة وزمن الحداثة الإجتماعية، وعليه تنتفي تلك المتعة السادية الموعودة، الأمر الذي يفسر ما تبدو عليه من برود وخواء أحيانا، حيث لا تحضر تلك السادية التي يترقبها المتلقي كفعل تعرية، أو حتى ما يسميه رولان بارت " لذة النص " بالكيفية التي يتأنث بها السرد ويستعرض اغواءاته اللغوية والشعورية أمام ذكورية القارئ، والتي تحيل تعاسة الراوية وتناقضاتها وهواجسها إلى شكل من أشكال القدسية، بالنظر الى أهمية استدعاء الذات الحرة وتمثلها بكل ما تخلّفه وراءها من " زمن الكليات المغلقة " بتعبير فيصل دراج لتدخل " زمن الخصوصيات المفتوحة ".

ولكن يبدو أن الرواية النسوية المحلية أعجز عن التماس بمقترح بروخ للفعل الروائي من حيث إدخال الفكرة وكافة الوسائل العقلية وغير العقلية القصصية والتأملية القادرة على اضاءة كينونة الانسان، كما أنها على درجة من الوقار لتنأى عن تخوم التصعيد الحسي البوفاري مثلا، حيث التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يتيح للمسرود له، بتعبير جيرالد برنس، فرصة التمري عموديا في ذاته، تحقيقا للمقترح الآرتوي بضرورة القسوة السافرة مع الذات تفصيحا لحضورها، وتحريكا للنص الراكد الذي قيل بعضه، بلسان كائن يمارس طقسية مزدوجة من الصمت واحترازات الكلام المحسوب في آن، بما يعني تمكيث المرأة كرمز وعلامة داخل المحرّم الثقافي، والتأكيد على إخفائها بقصدية - روائية - عن عين الذكر المتلصصة، بحيث تظل متخيلة رمزيا، ومؤولة ذهنيا، أو مستبدلة باستعارات موضوعية كبدائل هروبية للانحياز عن المستور الثقافي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي ينأى بها عن طاقة الفعل الروائي ( الهدمي /البنائي ) كما يفترضها جاك دريدا في ذلك اللون الابداعي لمحايثة فعل الحداثة الاجتماعية.

ويبدو أن مقولة روبرت التمان حين اعتبر المرأة تاريخا للرواية لا تتأكد بحال هنا، فالرواية النسوية المحلية غير ممكنة التحقق في أفق لا روائي. ولا رواية أصلا من دون فضاء ديمقراطي، فكل نص روائي لا ينفصل بحال عن بنيته الثقافية الأشمل، بما تؤمّنه تلك البنية للفعل الروائي من وسائل وهوامش لكي يتخلص من معوقاته، وعلى ذلك لم تتولد الرواية النسوية المحلية في أفق ثقافي بقدر ما انبثقت في أرضية اجتماعية، بمعنى انها لم تكن في أغلب الأحيان سوى عنوان جديد لحالة اختلال اجتماعية مزمنة تجدد لبوسها في صيغة أدبية أقرب الى الخطاب، كما تجسد ذلك مثلا عائشة زاهر بروايتها " بسمة في بحيرات الدموع " وهدى الرشيد بروايتها " غدا سيكون الخميس " حيث يتصعد الموضوع وتتراجع اللمسة الفنية، والأهم أن الفردانية كلازمة روائية لصياغة التاريخ الاجتماعي والتشكل داخل مستوجباتها تظل مغيبة، أو ربما غير مستوعبة فنيا وموضوعيا.

وهذا يعني أن الدال الرمزي وتوأمه الخيالي يتنازلان في الغالب لدال الواقع أو ما يسميه لاكان " المستحيل " فيما يفترض الفعل الروائي ديالكتيكية النفي المتكرر لذلك الواقع والتمرد على محاولات اعادة انتاجه، بحيث تكون الفردية فرصة لصياغة التاريخ أو توصيف الشكل الأحدث للمسألة الاجتماعية، بما هي المجاز الحداثي، كما تؤكد كل نظريات نشأة الرواية، فطريقها هو التاريخ الموازي للأزمنة الحديثة بتصور ميلان كونديرا، وعليه فان تعاطي الرواية يعني فيما يعنيه تحقيق ذلك التماهي بحداثة الحراك الاجتماعي من خلال ادراك الأهمية لتعددية الأجناس الأدبية، انطلاقا من التعايش مع مستوى ثقافي أحدث، تكون فيه الرواية أحدى تلك التمثلات المشاهدة على تعددية الأصوات وتنوع الأداءات.

ومنذ روايتها " بريق عينيك " لسميرة خاشقجي ( سميرة بنت الجزيرة ) مرت أربعة عقود لم تحقق الرواية النسوية المحلية - كما أو كيفا - ذلك النصاب الأدبي المفترض، فيما يبدو تخلفا سافرا عن محايثة فعل التنمية المتسارع بكل تشظياته، رغم أن الكتابة الروائية هي الأسهل بالنسبة للمرأة مقارنة بمتطلبات الشعر، البوحية تحديدا، فالرواية شكل فني أقل تطلبا للتركيز والتمري، وهو الأمر الذي يستدعي التماس ببنى الصمت الأنثوي لسماع ما لا تريد أو لا تقدر على قوله روايات أمل شطا في " آدم يا سيدي ". وهند باغفار في " البراءة المفقودة ". وسلوى دمنهوري في " اللعنة ". وأمل الدوسري في " روحها الموشومة به ".كما يحتم ذلك الحذر مقاربة دلالات الغياب في خطاب الروائية المحلية، فقد يمكن الإصغاء إلى قصص لم ترو، والوقوف على استثنائية النمط الروائي النسائي المحلي، أو ما تسميه فرجينيا وولف طرق التعبير غير المباشر باعتباره منهجية تملص ومراوغة وأسلوبا يحث على تعويض ما لا يقال.

ان بنى الصمت في الرواية النسائية المحلية كما تبدو بصيغة فراغات وفجوات، أو نصف صوت، وبالتالي نصف نص على اعتبار أن النصف الثاني لم يتلفظ به، هي من ناحية الوعي أشبه بغمامات القمع، حسب تصور ايلين شووالتر في قراءتها للأدب النسوي، حين يعجز وعي الذات الأنثوية عن التصريح، أو يفشل في التعبير عن نفسه، أو كما تشير ايلين هيجز وشيلي فيشكين في كتابهما ( الإصغاء إلى الصمت ) الى أنه - أي الصمت - يعني من ناحيته كمجاز، وكوجود نصي، إشارة لكل الظروف المادية التي تحرم الإبداع الإنساني، كالافتقار الى الوقت والمال والدعم العائلي والاجتماعي، وتقاليد المرء الخاصة، وثقته بحقه في اللغة العامة، بالاضافة الى الخطاب المتيسر الذي يوفر له فرصة أن يقول الحقيقة. ومن ناحية ثانية يعني غياب النص، ضمن بنية وطقوس الصمت في الفعل الروائي، حالة من التأكيد على الاضطهاد، والتناقض، والموضع الذي تقيم فيه تلك الايدلوجيا المتبائسة أو المقهورة.

لم تنكتب الذات الأنثوية كما ينبغي اجتماعيا وعاطفيا وحقوقيا، فهي تقيم في الهوامش. أو كما وصفهن الدكتور حسن الهويمل في مدخله لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة بأنهن " متذبذبات بين الموهبة والإقتدار، والفعل والافتعال والتكلف والعفوية، والتجريب المتزن والاندفاع المنفعل، وقضاياهن تدور حول المرأة: تعليماً، عملاً، علاقات زوجية، عنوسة، طلاق، تعدد، وفاء وخيانة. وهن أقرب إلى الوعظية والإرشادية والاحتشام وإن ند بعضهن " بما يعني انتفاء القدرة أو الرغبة ربما على الخلق وتكريس فكرة العجز الفكري والابداعي، والارتكاس الى موضوعات تؤكد على جنسانية الروائيات في ازدواجية الإنتماء واللا إنتماء، فيما يبدو الرضى بالتشكل ككائن يصغي بصبر وانقهار إلى ما يؤسسه الرجل من قيم التفكير والسلوك وهامش الحضور الحياتي والابداعي، وبالتالي الارتهان الى طقسية الصمت والكلام المنقوص.

وللتمثيل على رحلة الأنا الروائية النسوية المحلية في تشكلها عبر اللغة لمطابقة المتخيل الروائي ببنى النظام الرمزي، يمكن القول مثلا أن ليس ثمة مكبر صوت في رأس " فضة " بطلة رواية " وجهة البوصلة " لنورة الغامدي،كذلك الذي استزرعه جيمس جويس في رأس " بلوم " برأي كونديرا ليعلمنا الكثير عن أنفسنا، أو حتى الإفضاء بما لا نعرفه عن المرأة، بمونولوج داخلي مرآوي يتفنن في استعراض أخاييل الذات وخبايها المتعارضة، رغم جرأة الطرح، وحضور الراوية المكثف لدرجة امتزاج صوتها بصوت البطلة، فالرواية استدعت شخصيات بلا وظيفة، وتشاغلت بقضايا فلسطين والعراق دون تزمينها كخلفية لحداثة اجتماعية مستوجبة لحراك " الأنا " بما هي ذات البنية المتولدة ضمن مكون مخيالي.

وربما أرادت نورة الغامدي بتلك الهوامش تشتيت " الأنا " والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها، حسب المفهوم اللاكاني للأنا المتوهمة، لئلا يزداد اغتراب الروائية عبر بطلتها، بما يعني نأي الرواية النسوية المحلية عن مهمة اكتشاف طاقة الرواية كأداة تدمير للقيم الذكورية المكرّسة، أو ربما لم تحسن استخدامها، على اعتبار أن القص هو الحيلة الشهرزادية لتفتيت وهم السلطة الذكورية، وعلى اعتبار أن الكتابة هي المكان الذي ينشأ فيه الفكر التدميري، بما هي قرين اللغة كمصدر جنون ووعي الكائن الأنثوي بتحليل ميشيل فوكو لمعنى حضور الكائن وتأنيث الذاكرة واللغة، بما يعني ارتباك المراحل التي يمكن أن تقطعها تلك " الأنا " الأنثوية في رحلتها للوصول الى هوية متخيلة، تعيد تعريف نفسها من خلالها، وبها يمكن فيما بعد مجادلة الآخر بها داخل النظام الرمزي.

وبما أن الرواية وثيقة الصلة بالحياة الواقعية فان قيمها تعكس بالضرورة واقعية قيم الحياة تلك، أو هذا ما يشترطه فورستر لحيوية السرد، أي ضرورة أن تقدم الرواية لنا الحياة، لأنها هي التي تعطينا الرواية، لكن الملاحظ أن النص الروائي الأنثوي المحلي يمارس غيابه بقصدية لها مبرراتها الفنية والموضوعية، فرجاء عالم مثلا الأبرز بين الروائيات - انتاجا وحرفية - تنزاح بوعي مبيت أو مراودات حداثية وما بعد حداثية عن تلك المكامن الإفتراضية، وتراهن بمتوالياتها الروائية ( خاتم - مسرى يا رقيب - حبي - موقد الطير ) على الميثي وتذويت التاريخ، بلغة اختراقية للإمتثالي من السرد العربي، تقوم على قطيعة صريحة مع القارئ، بالنظر الى كونها تراهن بتعاليات " الكتابة " مقابل القص أو الحكي وان استدمجتها بشكل مفتعل أحيانا، فهي تقوم على استراتيجية تتجاوز المتلقي إلى ما يشبه التخاطب مع التاريخ، أو ما يمكن اعتباره حالة من ابتناء مجد ابداعي بفرادة أسلوبية.

وعند مها محمد الفيصل تتأسلم الرواية، أو تنحاز بها إلى رومنطيقية صوفية بمعنى أدق، حيث ينحى السرد في روايتيها " توبة وسيليى " وأيضا " سفينة وأميرة الظلال " إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث، مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار، في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلغيزه بشكل تركيبي، بما يعني اغتراب السرد أوانتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان، فالذات الروائية هنا تنبني على التجانس مع المقروء وليس على ادراك " الأنا " كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر.

أما نجيبة السيد فتكتفي بنصف صوت تتقاسم نصفه الآخر مع رجل ( منصور السيف ) وذلك في رواياتها ( عندما يحلم الراعي - دموع مسلحة - تحت الجذوع ) الأمر الذي يخفض في سرديتها صفاء النبرة الأنثوية، خصوصا في اتكائها على تأصيل جملة من رومانسية الأبعاد الإمتثالية داخل الفعل الروائي، والإغراق في الموضوعية على حساب النزعة الذاتية أو الفردانية، بما يؤكد على استتراتيجية سردية تتجاوب بشكل طوعي مع منظومة القيم المكّرسة، حيث تتضاءل نبرة التحدي، وبما يعني أن تطفو الموضوعات وفق آلية انفصال واتصال للذات الروائية عن موضوعها، حيث المبالغة في الرهان على قارئ ضمني تتفنن في استرضائه وإخضاع السرد لمتطلباته، بما هو ضمير الرواية الأخلاقي، عندما يتمثل كمروي ومسرود له في آن.

ذلك المنحى التعقيمي بمعناه وشكله التقريري هو ما تؤديه صفية عنبر سرديا وتتوغل فيه بسلسلتها الروائية ( عفوا آدم - وهج بين رماد السنين - أوراق مبعثرة من زوبعة العمر ) لتجسيد دراما التحولات الإجتماعية بمعناها الأفقي وبشيء من التوشية العاطفية، أي ضمن ثنائية الرجل/المرأة، ومحاكمة المفاهيم الذكورية المنبسطة خارج المركبات النوعية للمكون التاريخي، وداخل الأعراف والممارسات والتقاليد، وكأن الكتابة النسوية منذورة للرد بنبرة وجدانية على حالة التغالق والانفتاح التي يبديها الوعي الذكوري التنميطي للمرأة على الدوام، وعليه تبدو الرواية النسوية المحلية وكأنها مهمة تثقيفية أنثوية صرفة بهذا الشأن، لإفهام الرجل مقومات الكائن الأنثوي، ولتكف النساء عن لعب دور المرايا المضخّمة لدور وحجم الرجل، اتكاء على فكرة ميل المرأة الطبيعي إلى الفضيلة وامكانية ممارستها تأثيرا اخلاقيا ايجابيا على الرجال، بما هي قرينة الحق والخير والجمال،كما تميل الكتابات ذات النزعة النسوية.

ولكن ليلى الجهني تمارس بعض الإستثناء الروائي، حيث تطرق في روايتها " الفردوس اليباب " موضوع الحب من منظور وخبرات التجربة الحسية، وهو ما يمكن أن يؤدي، بتصور البيريس، إلى كتابة صادمة بالنظر الى حتمية أن يكون الفعل السردي مثيرا وبالتالي متخففا من صرامة الأعراف والأخلاقية، مع التأكيد على أن النزعة الوعظية يمكن أن تقتل الرومانسي داخل ذلك النمط من الفعل الروائي، وهذا ما حاولته ليلى الجهني في مزدوجة الخفاء والتجلي، بمعادلة سردية تقوم على الصمت والإفضاء، والتي يصعب استيعابها أو الدفاع عنها فنيا بسهولة، عند تحليل ما يمكن تسميته " مضامين القوة " التي تتأسس بحس استبطاني لإبراز الإنسان كمركب نوعي، يدخل بمركباته في علاقة من التدافع لخلع قوة أخرى أو إقالتها من خلال طاقة التمثل السردي كمعادل لقوة الحياة، أو هذا ما تبين عنه الرواية النسوية المحلية عند تحليل شكل التمثل في انتاج اللغة كمكون بنيوي يتناغم بالضرورة مع قدرة الروائية خارجه الفعل الروائي.

هكذا يبدو التنوع الأدائي، والتعدد الموضوعاتي في ذلك الشتات الروائي، فهو ليس دلالة حيوية، بقدر ما يتبدى كعنوان عريض للهروب من استحقاقات الذات ومستوجبات الكتابة بما هي شكل للحضور والهوية، فالرواية النسائية المحلية لا تثاقف لحظتها، بل تنفصل أحيانا حتى عن موضوعها، حيث تتشاغل بذاتها الروائية فتعجز عن ادراك الذوات المغايرة لها، ربما لأن القلم لا زال هو المعادل لكل ما هو ذكوري، كما تقرر ساندرا جلبرت بغضب، فعندما حصلت المرأة على التعليم، وامتلكت نبرتها الخاصة لم تأخذ حق التجربة، كما تؤكد عليه الاتجاهات النسوية كأس للكتابة الروائية، وبالتالي فهن عاجزات عن الكتابة بالحرية التي يتمتع بها الرجال، رغم أن النساء هنا القاصات الأول، كما تؤكد بثينة شعبان، في كتابها الهام " مائة عام من الرواية النسائية " وهو ما يبدو بشكل جلي في السرد النسوي المحلي بكل ما يعتوره من عوز في التجربة الحياتية بل والخبرات الثقافية، كما تأملها فورستر كضرورة للفعل الروائي.

وقد يتعلق الأمر بارتهان الرواية النسائية المحلية إلى معايير نسوية محضة، تبالغ في الإتكاء على أيدلوجيا الاضطهاد وتضخيم سلطة الخوف من الذكوري بما يحتمه الخطاب الإجتماعي من قوامع وما يستتبع ذلك من شرعنة مؤسساتية لمصادرة الصوت النسوي، بحيث تقصي النساء عن الكتابة الفاعلة، حيث النساء العربيات عموما، كما يرتئي عفيف فراج، يتحركن في كتاباتهن في عالم الرجال فالرجل هو قدرهن وهو البركة واللعنة والخصم والحكم، وعليه فإن الروائيات المحليات ما زلن يفكرن من خلال أمهاتهن، كما تحلل فرجينيا وولف لحقبة أوروبية منقضية.

ذلك ما يبدو واضحا وممكثا عند قماشة العليان بمتوالياتها الروائية والقصصية ( أنثى العنكبوت - عيون على السماء - بيت من زجاج - بكاء تحت المطر ) حيث الإلتصاق بالسببية الإجتماعية والتاريخية والثقافية، والتعبير عنها بسردية شكلانية وليس ضمن علاقات لغوية تعكس استبطانات الصيرورة الخفية لميكروفيزيائية السلطة بتعبير فوكو، أو مفارقاتها الخفية، على اعتبار أن اللغة بتصوره شكل تلقائية وفاعلية ودمجية دامجة تعبيرية للسلطة وانتاج المعاني، لكنها غير متأتية ضمن الصيرورة الروائية المولّدة للصوت الواعي بمعنى القوة كفعل محايث للحداثة الإجتماعية.

إذا، الروائية المحلية خاضعة بشكل واضح لتأثير التقاليد. وقد يصح هنا تحليل ادريين ريتش القائل بأن المرأة تخاطب جمهورا من النساء، لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما أن الرجال يسترقون السمع، وبالتالي تتورط في مأزق اللغة والشكل فنيا، ومسألة اعادة الاعتبار البيولوجي والثقافي للمرأة في عالم تتقاسمه مع رجال على درجة من العناد الحقوقي، ولذلك لا يبدو أن إقصاء الرجل من جمهور الروائية المحلية مسألة ممكنة استراتيجيا، وهو ما يفسر نبرة التباؤس وانخفاض روح التحدي، ليس بالمعنى الحقوقي ولكن بمعنى الإعتقاد العاطفي وتمثله روائيا ، بحيث لا تنأسر الى النزعة الرومانتيكية الساذجة، كما حللتها ساندرا جلبرت من الوجهة النسوية، حيث تكشف في البطرياركية والقارئة عن صلة الكاتبة بالشخصية الرومانتيكية المغتربة، فعندما تختفي نبرة الغضب من الرواية النسائية المحلية فهذا يعني أن الروائية محتواة أصلا بالقيم الثقافية الذكورية السائدة، إذ غالبا ما تؤدي وظيفة أو صورة انقسام ذاتها، أي الرغبة في قبول بنى المجتمع البطرياركي ورفضها في الوقت ذاته، ولكن دون إبداء أي مقاومة مقنعة من خلال الفعل الروائي.

وربما يتعلق الأمر بعطالة المخيلة الأنثوية كطريقة لادراك العالم، لأن الابداع يتطلب شروطا معينة ظلت غائبة بالنسبة للروائية المحلية، فالظواهر الفنية المتماثلة والمتكررة وفي مقدمتها تمركز السرد حول الإنوثة التي يصار الى تأكيدها والإحتفاء بها من خلال الجسد وهو ما يقصي المرأة عن تعاليات النوع الكتابي الى محدودية الخطاب، ربما لأن المرأة عندما تكتب الرواية تسير بها عكس آلية الكتابة عند الرجل، كما يحلل جورج طرابيشي، فالرجل في الرواية يعيد بناء العالم، أما بالنسبة للمرأة فان الرواية هي تركيز للمشاعر، فهو يكتبها بعقله بينما تكتب المرأة الرواية بقلبها، حيث يكون العالم هو المركز لما يمكن ان نسميه رواية الرجل بينما نجد أن الذات هي مركز الرواية النسائية، واذا ما تجاوزت رواية شيئا من ذلك الحاجز الفني بدأ البحث عن الرجل الذي يقف خلف الروائية بشيء من التشكيك.

وقد يتعلق الأمر بمقروئية مجحفة، تساوي عدم قراءتها أصلا، حيث الاستخفاف بمنتج روائي غير ناضج، حسب التصورات التنميطية، فالرواية النسائية المحلية لا ينظر اليها أحيانا إلا كبنية دفاعية، أو صورة من صور المقاومة الإجتماعية للسطوة الذكورية، ومحاولة يائسة للحضور، فبعض القراءات المبيّتة لا تصنفها إلا كحالات من التكاذب، تماما كما ينظر لمجمل الأدب الأنثوي كمحاولات للتماس بعوالم يحتلها الرجل، أي كحبكات للإغراء والغزل، كما تميل ريتشل بلاو دو بلاسيس، عند تحليل شكل الاندساس الذي تبديه الروائية للدخول الى عالم الكتابة، وهو ما قد يخضع ذات الروائية لمحاكمة نفسية من خلال رواياتها، أو قد تتأولها القراءات كسجل إجتماعي يحيل الى شيء من المطابقة الببليوغرافية لمنتجة النص الروائي، عوضا عن مقاربته كنص أدبي، رغم أنه يعكس بالتأكيد جانبا من تجربة الراوية.

ويبدو أن الأمر بحاجة إلى دراسة تشريحية للنساء المنتجات للرواية المحلية وتأمل وضعهن من حيث علاقتهن الطردية ليس بمفهوم الكتابة وحسب بل وبمعنى الحداثة الاجتماعية، من خلال محايثة ذلك الانتاج الروائي الآخذ في التمثل ازاء بقية الخطابات، أي تأمل طبوغرافية الفئات والشرائح الاجتماعية التي تحضر عبر الرواية، لتحليل العوامل والشروط التاريخية التي تحدد الانتاج الروائي النسوي المحلي كما يحدث الآن، حيث يتشكل المعنى الحياتي عبر السردي، فنماذج الأنوثة المنتجة للرواية تتولد ضمن شرائح اجتماعية بمواصفات استثنائية، لها من الدلالات الثقافية ما يفسر حقيقة الفعل الروائي، ولا تتوفر الا ضمن فئات تتعايش مع المعنى الجديد للمرأة، بمعنى أن هذا الفعل يتأسس في جانب منه على خبرات لا-أدبية، وهو المكمن الذي يفترض التماس بحيثياته.

هذا ما بشرت به انعطافات كثيرة ولافتة، مؤسسة على مراكمات وإزاحات جوهرية في القوانين والأعراف والعادات، كتأطير مفهومي للفعل الروائي من خارجه، وكذلك فيما توارثته الأجيال النسوية لمعنى الكتابة والهوية الجماعية للكاتبات بوجه عام داخل الفعل الروائي، أو هذا ما ينبغي التأكيد عليه لتوسيع تلك الذات الجمعية، كما تحدث الآن ضمن شرط أو إطار تاريخي، توليدا لقيم مغايرة للقيم المصنّعة بالوعي الذكوري، فهنالك حالة من التواشج بين الظروف المادية لحياة الروائيات وأشكال تعبيرهن، كما تميل التصورات النسوية، وعليه يمكن تطوير ذلك الفعل بشيء من التلازم بين ما يجري في الحياة ومرآوية الرواية كانعكاس مجازي للحداثة الاجتماعية، إذا ما تم داخل تمثلات الذات وانفعالا باللحظة والمكان والموضوع.


عودة للرئيسة