الفنان تركي الدوسري لوحة تتشيأ في أشكال استعارية



فيض من الشكلية المعلنة تضفي على أعمال الفنان تركي الدوسري حيوية التجانس ( الروحي/المادي ) . وعلى تلك المجاهرة الشكلية الصريحة تتضاءل النزعة الحسية ازاء دينامية المفهوم ، وتنعدم الفوارق بين دال المفردة الموظّفة جماليا ومدلولها ، إلى حد تسيد الخامة لمعنى وروح العمل الفني فيما يبدو توفيقا أدائيا بين العقلاني والعاطفي ، بحيث يغدو التعبير الشكلي في صيغته التصورية الصارمة أهم حتى من نعومة النسق الانطباعي التي تتسم بها أيقوناته النحتية ، حيث النحاس يتأنث ويتلفع بطلاءات ماء الذهب، كما تبدو مثلا في " الرقصة الحالمة ".

هكذا تبدو لوحته في تململها لفرار من حس التسطيح إلى فعل التشييء والمفهمة، كما يتبين من تنويعاته التجريبية على الصيغ الأحفورية والتطعيمات الفسيفسائية والتعاطي الحر مع مختلف الخامات الجاهزة والمدبرة باشتغالاته على السواء ، فقد قادته تلك المراودات الأدائية إلى توطين الشكل التجسيمي في فراغية لا متناهية، حيث السكونية الكامنة التي تحد من أحاريك فواعل ضرورية لمسرحة جوهر الوحدات أو العمل الفني عموما ، رغم ما تبدو عليه من مراوحة للحراك المظهري ، ربما لأن التوازن والوحدة والانسجام أصل من أصول المرئيات الجامدة.

أعماله إذا مدبرة في مختبر عقلاني يصعب تقصي نقطة انطلاقها ، أو الفصل بين تمفصلاتها ، أو حتى القبض على قانونها السردي ، بما هي مركب دلالي يقوم في الأصل على توظيف بنيوي للشكل كجامع أدائي لنصه البصري، فهي نصب جمالية لا تخضع للمصادفة التي تحتمها طبيعة المادة المعالجة، وكما يفترضها النحت الاختصاري ، بقدر ما تبدو أقرب إلى تجربة النحتية الشكلية بمعناها أو سماتها التجريدية ، وإن كانت متخففة من الانفعال كما يبدو ذلك مثلا بشكل موارب في " لحظة استحمام سمكاتي " حيث التناغم البنيوي بين الشكلي الصرف وتجريدية الاختصاري ، أو هذا ما توحي به أنساقه التصويرية على الدوام.

وانتقاله من محدودية اللوحة ، بما هي مكان لثوابت القيم البصرية، إلى مرقى أو مفهوم " مادية الفن " أتاح له فرصة التعاطي مع فن التصوير كمادة معاشة وممسرحة بنزعة حداثية وذات طابع درامي ، وليس مجرد صورة افتراضية متخيلة ، حيث النأي عن مفهوم اللوحة المسطحة الموشاة بالتأثيرات اللونية والخطية إلى تطويع الخامة أو تقنيات الصب وصولا إلى فتنة الشكل الذي جهد الفنان تركي لإنطاقه كلغة تعبير تشكيلية بمزيج من الشاعرية ومجازية المخيال ورمزية الأسطوري بل ووظائفية الواقعي، بما هو مركب العمل الدلالي والمكان الأقل حيادية من بين جملة العناصر الفنية، بمعنى أن التصوير صار بالنسبة له صيغة استعارية ، مانيمالية تحديدا ، أقرب إلى المادية منه إلى البصرية ، على اعتبار أن التورط في المكمن المفهومي هو حالة من توسيع مفهوم اللوحة وتمديد أبعادها الضمنية والملموسة ، بحيث يتجاوز الشكل مهمة الدلالة المباشرة إلى أفق يكون فيه مكونا بنيويا يشد اليه كل عناصر العمل الفني.

وبهذا التصعيد الذهني لمحتوى اللوحة ودفعها للتشيؤ صار أميل إلى " المفاهيمية " بما هي دلالة ضاجة بالمقاصد لغلبة الفعل الفني المدبر ، كما تجلى ذلك في تجربته مع كتل وقضبان الحديد المطوّعة بحرفية عالية ، سواء المنفذة بشكل انبساطي أو المجسدة في هيئة تكويرات ذات ايقاع فلكي، حيث انصاعت قضبان الحديد لنواياه الأدائية ، فبدت حاضرة بمثابة خطوط تتلوى بميلودية لتستحيل شكلا صريحا أحيانا ، ومجردا في أحيان أخرى، ربما لتصعيد الفكرة أو اثباتها عبر الشكل ، لدرجة أن قضبان وصفائح الحديد استجابت لممليات اللون في أعماله الفراغية ، فيما يشبه التوجيه العقلي لخامة عصية وعنيدة بملامسة فطنة أدائيا فالمفهوم هنا هو جوهر العمل ، وهو الموجه لأنساق الفعل الجمالي وكأن الرؤية ليست سوى استجابة طوعية لانتصابة شكلية تقوم أصلا على الخط انما بصيغة تتشيأ شكلا جماليا ، لا يكتنفه أي التباسات مظهرية أو دلالية ، فيما يبدو زهدا طوعيا في الاشارات السيميائية القابلة للتولد من التواتر البصري.

ولأن ذلك الديالكتيك الحذر لا ينفصل عن مفهوم الهوية ، يستدعي الفنان تركي الدوسري مفردات تبادلية للحياة الشعبية كرواسم ، بحيث لا تخلو تلك الصفائح المعدنية المعالجة بجهد واضح من توشية لونية فطرية ، أقرب إلى بكرية التصور الطفولي المنبث من الذاكرة عبر مرشحات استدعائية، والتي تحد من غلواء المفاهيمي ، وتستولد مؤانسة بصرية تقوم على مزدوجة حداثية الأداء وريفية الطابع في آن ، بمعنى الموالفة بين رصانة العصري وبساطة الشعبي ، كما يبدو ذلك واضحا في النافذة الخشبية الحاضنة لحزمة من القضبان المتمادية في حداثة تمثلها ، فيما يبدو تجاذبا عاطفيا ، أو حلا تشكيليا فطنا بين حرفية المعرفة ونوستالوجيا الذاكرة .

إذا ، فالفنان تركي الدوسري يحاول مفهمة البصري من خلال فعل التشيئ ذاك ، تصعيدا للموضوعي على حساب نزوية الذاتي ، وتحييدا للانفعالي كمعادل للحسي ، فيما يبدو خروجا مدبرا وواعيا على اشتراطات النص البصري ، بما هو رؤية إمتاعية للإنزياح به إلى مستوى مضاميني ، قد يبدو في مظهره تزيينيا ، أو حالة من الديكوراتية الفارطة في حداثتها الصادمة ، لكن باطن تلك الأعمال يشي بحدسية ترقى به من بساطة الفرجوي إلى جدل الفكرنة كمحل تأويلي للمرئي ، تتحرك على أديم التباساتها مقترحات الفن الأحدث إلى الحد الذي توحي فيه تعضيلات الشكل أحيانا بالميكانيكية.

وهكذا يبدو أقرب إلى تحطيم أيقونية الأشكال مع الاحتفاظ بروحها ، أي التجريب بالصنعة الفنية وفيها دون المساس بروح الوحدة الفنية ، بمعنى نفي الرؤية الأفقية ، المباشرة ، مموهة الأبعاد ، وتجاوزها إلى مادية الواقع بما هو شكل يمكن الامتداد فيه ومثاقفته عبر كافة الحواس ، بل وتأوين الشكل في وحدة موضوعية أشبه بالواقعة الجمالية التي تحدث في الآن ، وليست مجرد تحفة يمكن تأملها بلذاذة حاسة البصر، خصوصا في الأعمال المنفذة بصفائح وقضبان الحديد المجسدة في علاقة جدلية بالفراغ ، التي تستدعي بصيرة تحليلية لتقصي توالداتها الدلالية.

هنالك إذا لوحة تتوسع مفهوميا في نسق مغاير له وحداته ودلالاته وعناصره ، فهي مدبرة بمزاج الفنان تركي الدوسري لتستحيل مادة ، فيما تستجدي تلك المادة شكلا أميل إلى التطرف بنيويا ، فهو يتمدد كشكل في أنساق استعارية ، وبالضرورة يبدو ذلك التكوين المستحدث منقطعا من الوجهة الجمالية مع السياقات البصرية المعتادة ، بالنظر إلى ما يتضمنه من روح الصدود عن الاعتيادي ، والتبرؤ من نمطية الرؤية ، وانحيازه الجمالي الواضح ليكون فعلا ثقافيا بامتياز يقوم على تعبير تشكيلي ذي خصوصية نصانية ، وإن بمرجعية أحادية ، وليس مجرد وجهة نظر مزاجية متولدة من ردات فعل تجريبية ، فهو فعل أيقوني الروح حاضنه التجريد وليس التصوير الشكلي ، وهاجسه إحلال الفكرة الجمالية مكان الموضوع أو صراحة المضامين.


عودة للرئيسة