صوت متوحد بالروح يستبطن مجموعة محمد الحرز " أخف من الريش، أعمق من الألم " الصادرة حديثا عن دار الكنوز الأدبية، فيما يبدو مناجاة ذاتية، تستحيل على حافة الكتابة، بما هي فعل أمضى من اللغة، إلى نصوص لها سمة الكلام الجواني، حيث يمكن للكائن سماع نفسه يتكلم، بتعبير جاك دريدا في وصفه للكتابة التلقائية، عندما يفيء الى ذات غير قابلة للدحض، وغير معافاة من مدائحية الترفع عن الواقعي في آن، وحيث الحقيقة مشخصنة أو مستصدرة من تجربة حسية، ليمازج بكيمياء العبارة صوت الروح بالجسد، وديالكتيك الوعي بالأهواء، الأمر الذي يربك لذة التماس بنصوص المجموعة بالنظر إلى كونها ترتيلات شعائرية لقطبية " الأنا " المبتورة عن كل ما هو براني.
وثمة إرباك جمالي آخر قد تحدثه النصوص لدى المتلقي مرده نثر فارط على نحو استفزازي، فهو أميل الى خالصية النثري، خصوصا في القسم الأول " ألم بحجم دبوس " حيث يبالغ في الرهان على تدويرات النص إلى أقصى طاقة سردية ممكنة، وإتيان العبارة بتعبيرية حرة، مزدوجة التأثير، أي بمرونة قصوى تتسع لمتناقضات المحصول النرجسي للذات في تحاورها اليومي ازاء الحاضن المديني، بما هو مكان لحياة مجردة من المعنى التداولي، القابل لمماهاته بنص نثري، فيما يبدو قسمها الثاني " لن أرفع حياتي كفانوس " أقرب على النثيرات الخاطفة، الأقل وطأة على مستوى الصوغ والتركيب العباراتي.
وفيما تهيمن الروح السردية على نصوصه، كما في مجموعته الأولى " رجل يشبهني " تنقاد العناصر الحيوية للنص إلى نسق شارح أو تعليلي يخفف من مد الغنائية، فهو أميل كما يبدو، إلى الحد من غلواء العزف، وإخماد الروح الإنشادية، وإن كان كل كائن، أو واقعة، أو مكان قابل أجدر بأن يشعرن، بمرئيات الحرز، حتى الحديث على طاولة بمقهى يمكن تنصيصه ولو بروح وأدائية أقرب الى المفهمة، كما في نص " بين دمي والكلمات " وعليه تبدو ثيمة " الكتابة " قيمة مهيمنة أهم حتى من اللغة، فحياتنا بتعبيره " حياة الكلمات حين تبحث لها عن معنى " وعلى ذلك الأسى الغامر تنصاع النصوص إلى نبرة رمادية صادرة عن " أنا " سيرية منفتحة، مطروحة بأقصى حمولاتها للتداول، الأمر الذي يمكنها من التماس بجوهرانية الشعري، فتلك النبرة المنبثة من سأم عتيق لا يعرف صاحبه حتى ممارسة " طقوس يوم ماطر " تفتح النص محلا لذاتوية الحرز المتبائسة، بما هي الممر السري الى مونودية تلك الترنيمات.
ذلك التماس الحاد والفارط بالذات حد تنصيصها يتيح سماع صوت الأنا وهي تردد " أمارس حياتي عبر القصيدة " وعليه يمكن تأمل ذات في وضع استعراضي محض، يعاد تشكيلها شعوريا باللغة، أو بنبرة اعترافية موروطة بالوله الذاتي، فهي مشطورة الى " ضفتين لا تلتقيان عند مصب واحد " احداهما مهمومة بتفكيك وسرد تفاصيل اليومي والعرضي، وعلى الأخرى مهمة الشعرنة، بمعنى " تنصيص الذات " في احتدامها العاطفي، أي تعبئة تاريخها وهواجسها وأحاسيسها في كلمات، لا لاالاكتفاء بتوصيفها من الخارج.
هكذا تنأى نصوص الحرز به عن وقائع المجموع البشري، وتسمو بذاته المتكلمة فوق الأشياء، فيما تسلمه لحالة اكتئابية هي بمثابة النشوة المدبرة، أو العصب الخفي، فيما يشبه الاستثمار الفني لأقصى طاقات اللغة المدائحية للذات لاستكمال ولهها، فالإمضاء الذي تسم به ذات الحرز الشاعرة مجريات النص ليس مجرد اشارة لغوية للتدليل على ملكة ابداعية، وخبرات حياتية مختزنة، بل دليل على احساس خفي تم عبوره، وعن مستحيل شعوري تتمناه تلك الذات أو تتخيل امكانية حدوثه، أو هكذا يمكن النظر الى ذاته المتبائسة عبر القصيدة على اعتبار أن أسلوب أي شاعر هو شخصيته، أو الشكل الذي يراوغ بها متطلبات اللغة واشتراطاتها التعبيرية.
إذا، فعبارة الحرز الرمادية، كثيفة الظلال، كما يتبين من نصوصه، هي مزاجه الداكن، وهي الطريقة التي ينفعل بها ازاء الوجود، والكيفية التي يعبر بها عن هذا الانفعال، وهو ما يتبدى بشكل جلي في حدة التطابق المجازي بين ما يزعمه حسيا وتطاله اللغة تعبيريا، أو يتحقق بشكل مقنع على مستوى الصوغ، فمفرداته هي أقدامه العارية التي ينزلق بها عموديا في النص، بمنأى عن العبارات الاستيهامية، المثقلة بالضرورات التوقيعية الباذخة في غنائيتها. وبذلك الشكل التعبيري الفارط في النثرية الخالصة ينتخب مفرداته وسياقات عباراته، بل الصيرورة التي يولد من خلالها نصه أو يطرح ذاته الجديدة للتولد بفعل أحاريك النص.
هكذا يستدعي الحرز شيئا من الرهافة الحسية تشبيها وتمثيلا، وينحاز الى التصوير ولكن بدس دراما الصور والأحاسيس في سياقات أكثر تعقيدا وتمويها، الأمر الذي يلزم نصه حساسية تأويل منفتحة على حمولات عبارته المركبة، لا تقويل او استنطاق النص وفقا لاشتراطات مسبقة، بمعنى الحاجة الى قراءة موسيقية، إنصاتية ، لملامسة هارمونية المزيج اللغوي الفكري الشعوري كما يوحدها نسق الشعرية العلوي، للقبض مثلا على سر " النعاس المنفي في الحبر " فكيمياء العبارة هنا لا تعتمد السيمترية بما هي جمالية تناظرية، بقدر ما تمازج بين هدوء لفظي، وتودد مفرداتي مراوغ يخفي تحته انفعالات شعورية فائضة.
أما معضلة نصه، عند النظر اليه ككائن بيولوجي، فيكمن في استهلاله الموضوعي، وطول عباراته الشارحة، فهو نص يبدأ من الأسفل الى الأعلى، بشيء من الاحماء الذهني التدليلي التعليلي أحيانا حتى يتشعرن، إذ لا يبلغ منتهى شعريته الا عندما يتخفف من حس الشرح والتعليل، فيما يبدو تعميقا وتمديدا عموديا بجمل سردية شارحة أحيانا أو تفسيرية، فهو لا يعتمد إشراقية جملة التوسمات المستقلة، وفي ذات الوقت لا يميل الى النغمة الإطنابية، إذ لا تنحبس عباراته في نسق تكراري لتقول ذات المعنى البسيط بالكثير من المفردات.
ورغم النثرية الخالصة المؤسسة لقطيعة أو استنكار ذوقي، تستبطن نصوصه أيضا غنائية رهيفة، مصهورة حد التلاشي، ومحاكة بوشي خفي، محتمة بعباراته الفلسفية التأملية، كبرهان فني على شعرية قادرة على اختزال الشعوري والمعرفي وتذويبها في اللغوي، وان بدت هادئة الى درجة البطء أحيانا، بالنظر الى احتشادها بمهارات لغوية ثقيلة الوطأة على المعنى أحيانا، كتذويته للمقولة الرامبوية " أنا لست سوى انسان آخر، لم ألتقه الا في الأحلام " الأمر الذي يقلل من فرص تلقائيتها التعبيرية، بحيث تبدو أحيانا بحاجة الى إسناد لفظي وتدليلي بما هي عبارة مركبة، وإن لم يلزمها الاستنجاد بحفاوة الوزن ، بالنظر غلى كونها أميل إلى الاسترخاء في وساعات الايقاع، الأمر الذي يسمح بتذويب عناصر الشعر الفنية والموضوعية في النص للإشارة التجريدية الى أناه من حيث علاقتها بدلالات الوجود.
وللتأكيد على هاجس الشعرية لا يبدو الحرز مضطرا لصلب نصوصه على مشدات توقيعية بشكل قسري لترقيعها من عوز شعوري، ولا لتنبيضها بايقاعات مفتعلة، فهو أقرب الى نثر بلا أجراس، وإلى عبارة تنحت ميلوديتها من مباغتة الخروج على أفق التوقع، وتعطيل كل مستلزمات المعزوفة، بالنظر إلى أن " أناه " ليست صلبة ومتماسكة ومتيقظة على الدوام لتنتصر للموضوعي، بل غافية وعرضة لتوترات النص، لتسيل رغباته الحسية بسلاسة لافتة داخل مفرداته، تحت رداء لغوي شفاف، يسمح بالتماس مع فعل الخيلولة في صيروراته الاستعارية، لولا الوصاية الرؤيوية في بعض المفاصل التي تعترض ما يتأتى من مضخات الشعور كحديثه مثلا عن " استعارة الخطوات المتروكة على السلالم قبل أن تجف أو تتلاشى ".
وفق ذلك الشرط العاطفي لا يبدو الحرز مهموما بالتوصيل أو حتى التصريف الوجداني، بالمعنى النوستالوجي لمثاقفة المكان، وبالتالي لا يستجلب مفرداته من جاهزية القاموس، إذ تبدو مفرداته خارجة للتو من القلب، ماكثة في حاضنات الحيرة والخبرة، مفتوحة بارتيابية ذاته العالقة بين الذاتي والموضوعي على الدلالات التأويلية، بمعنى أنها أقرب الى الكلام، بما هو أصالة الصوت في علاقته بروح الكائن، والأهم أنها مستوية لغويا بشكل يحيل الى واقع معاش. في ليل " الأحساء الذي يشبه ليل متسولين " مثلا، فهذ النزق التعبيري هو ما يضيق الكون، ويجعل المكان عدوا ، فالغريب ، حسب تعبيره " أن مدينة كبيرة مثل الأحساء، لم تدع أحاسيسي تنمو، وحواسي تتفتح " بمعنى نفي المديونية عن كل متواليات البراني وتحسس " الأنا " كقشرة للذات بما هي الملاذ والمرجع لمثاقفة الوجود.
هنا تكمن جوهرانية نصوصه من حيث صلتها بمادة الحياة، فنبرته أصيلة في رماديتها وفي تواشجها الحميم بالذات المقهورة، أو استصدار تعبيراتها عنها، وانغماسها المحموم في المحسوس، خوفا من التحنط في وثائقية الذكريات المعتمة أو ما يسميها " التوزع في الصور " وبالتالي فهي ليست مجردة ذهنيا، ولا مستعارة من مؤثرات المقروء، وغير مطلية بألوان زاهية، وعليه لا تبدو معقوفة النهايات بضرورات تأطيرية تنفي " الأنا " الى الهامش ، أو تموضعها على سطح النص، دون أن تعبر برزخ اشتهاءات الذات، وتعرجاتها المرتبكة نحو اليقين العاطفي، فهي متملصة من المواضعات اللغوية وبذخ التوفيقات اللفظية.
إذا، تبدو عبارته حسية ، بل مشبعة بذلك المكمن، نتيجة تشكلها من المعاش، والحراك في قلب الشخوص والحالات والأشياء، زاهدة في التطريب على هامش الأشياء، أو وفق حياة موصوفة أو متصورة وشكلانية أحيانا من الوجهة الفنية. وبهذه الخيارات الحرة تعبيريا يصل الى حالة من التوحد بنصه، فالقصيدة بالنسبة له حالة تعاش، لا مجرد مادة مكتوبة، وبالتالي لا تفقد صلتها بالشعري، ولأنها ليست فقيرة شعوريا لا تحتاج الى بهرجة لغوية لتصعيدها جماليا، أي أن تزعم احساسا مبالغا فيه لا تطاله اللغة، ولذلك تبدو أقرب الى التماس بجوهرانية الشعر منها الى مشتبهاته.
المتانة الشعورية إذا عنده متأتية من ذات تنكتب في المحسوس، الماضوي، أو الرثائي تحديدا، بما هو حال أكثر موثوقية من الحاضر المعادل لخيبات مستديمة، وإن استحضره كمعنى بغشاء لغوي جذاب، يسمح للحواس كمجسات تنوب عن " الأنا " للتمدد الحزين في ثنايا المفردات لا في تسيدها للنص، حيث يستصدر عباراته ومعانيه، فسر هذه النبرة الرمادية المعتمة يكمن في جريانها الجواني، الاستبطاني العمودي للأشياء، وتحديدا من احساس الذات العميق بالزمن، وتلقائية حضورها، أو انسرابها بأسى منحوت حتى العمق في قاع الروح، بحيث تحافظ على زمنيتها، أو مهاداتها التأوينية، ولا تبدو مدبرة.
|