عنوان أي نص هو عتبته، أو جملته الرحمية بمعنى نقدي، وبموجب هذا التقعيد يمكن التماس بجانب من سريالية البنى العنوانية في المنجز الشعري اليمني الأحدث، إنطلاقا من جماليات النص إلى ما يحدث في الواقع والعكس، أو تفسيرا لذلك الواقعي بفطنة اللغوي، فحين تسم نبيلة الزبير مجموعة شعرية بعنوان مربك " صعودا إلى فردة كبريت " وتضع لافتة لا تقل فتنة وإرباكا على مجموعة أخرى بعنوان " تنوين الغائب " فإنها لا تمارس شيئا من الترف الجمالي، والتبصير الذهني، تبديدا للوعي بما فوقه، بقدر ما تحاول إنضاج أوان نيء بشهي الصور، وإضفاء بعض دلالات المعنى الفلسفي على الوجود وشعريتها في آن، بعبثية، وهزء، مرده مفارقات الواقع ومراراته بما هو حياة معاشة على المستوى الفردي والجمعي، وهو ما يموضعها لفرط قساوته خارج الواقع إلى مصاف المتفرجين، أو الوصّافين لحال يصعب زحزحته إلا بالعيش في خيلولة الشعري ودراما الصور.
وهذا بالتحديد هو ما يغري محمد حسين هيثم بالخروج من واقعية المشهد إلى ممكنات النص المراوغ ليكتب " استدراكات الحفلة " بكل ما يحيل إليه ذلك الإحتشاد من دلالات تستوجب تأويل هذا المزاج السريالي الآخذ في التمدد، بما يعنيه من استعمال استثنائي للصورة الشعرية، تستلزم الغوص بمراودات متكررة في اللاوعي، كما تحاولها الذات المأسورة بصرامة الواقع، لتوليد صورة مستعارة من اغفاءة خيال مديد، يكون بالضرورة أوسع من أفق اليقظة، لتتطابق مع شكل " الأنا " كما تحدث على خلفيات التدرب على حياة لا تشبه الحياة.
ذلك هو ما يفسر جانبا من استشراء " النصوص الملعونة " المطاردة بالمساءلة الأخلاقية، وينم عن إرادة للتحرر من الواقع، حتى على مستوى إيقاع الحياة، فالمثقف اليمني، والشاعر تحديدا تتشكل شعريته داخل بنية إيقاعية ثرية وخصبة لدرجة قاهرة، لا تسمح لما هو نثري بأي شكل من أشكال الغلبة على الشعري، فذلك يعني فيما يعنيه هزيمة كل ما هو تراثي وأسطوري وقدسي، حتى علاقته بالمكان تبدو تاريخية وفلكلورية بشكل يصعب الفكاك منه إلا بالتسامي على الواقع أو باستعارة شخصية مترفعة جماليا، بمعنى أن حركيته كشاعر تستلزم تفكيك البنى التقليدية بما هي المعادل الموضوعي والجمالي لحياة طابعها الجد والصرامة، التي تحيل كل شاعر، ضمن ذلك التجاذب الثقافي، إلى كائن حقوقي، أو هذا ما يؤكده الواقع بالتعارض الجلي بين وعيين وانفعالين جماليين على أرض واحدة يتبارزان بنصين على درجة من التباين حد القطيعة.
علي المقري مثلا، بقصيدته " تدليك " المستلة من مجموعته " يحدث في النسيان " لن تكون نهاية التجابه مع واقع صارم، يرفض التغيّر، ولا يقر المغايرة، فالشاعر اليمني الذي يستل تدميرية نصوصه من واقع سريالي أصلا، لن يجد إلا الثالوث المقدس محلا لتسجيل احتجاجه وتأكيد شعريته الأحدث، وتسعير لغته، لتكون قصيدته هي خطيئته وقربانه في آن، حيث الدين والجسد والسياسة كاعتقادات وعرة، وما تلك سوى حلقة في سلسلة طويلة من المصادمات نالت من الروائي محمد عبدالولي الذي أراد أن يجعل من " صنعاء مدينة مفتوحة " وطالت الشاعر والصحفي نبيل سبيع الذي تجرأ وسمى " المملكة الإرهابية " كما نكلت بالروائي وجدي الأهدل عندما روى " قوارب جبلية " وعطلت حلم محمد الأضرعي بمنع عرض فقرة مسرحية تحاول رفع سقف العيب والممنوع أو المحرّم الثقافي بمعنى أشمل.
إذا، ليس ثمة مناطق آمنة للكتابة كما هو واقع الحياة، وما من حل سوى الهلوسة بما هي فعل خيلولة، أو ربما الإتكاء على الدعابة في بعدها الشخصي، لتصعيد " الأنا " والوصول بها إلى درجة من الإنفكاك عن سياق المجموع، أو المنظومة الإمتثالية، حيث الحاجة إلى موقف أخلاقي مغاير كتعبير عن الاحتجاج أو الثورة، وتجاوز كل حيل الرمزي، كما يعلنها محمد الشيباني بعنوان مثير " تكييف الخطأ " ويثنّيها بعنوان أكثر دعابة وإثارة " أوسع من شارع - أضيق من جينز " في مفارقة تسلخ عن الحياة طابعها الجدي، وتوجد جمالية التعبير الشعري في الهامشي والعرضي، كما يتأملها عبدالوكيل السروري في " مسحوق التعب اليومي " فيما يبدو محاولة لاستصدار صور جديدة عن واقع مؤلم، بتصعيد حسي للمعاش، أو هذا ما تنم عنه أي مقاربة لواقع الشعرية الجديدة.
هكذا تسمو الصورة الشعرية المنحوتة بحرفية عالية بالناس على الحواجز العاتية أمام أحلامهم، بل وراهنهم، من خلال إلصاق الخيالي والغرائبي بالواقع، والمفرط في النثري كمماهاة لنثرية الحياة كما يقترحها محمد اللوزي في " الشباك تهتز - العنكبوت يبتهج " اقترابا بالكائن المنهك من أناه، كما تحدث، أو تأوينا لها بالمدهش من الصور، كما يتلاعب بها محمد القعود بمجموعته " الألم أناقتي " وينّوع عليها أحمد الشلفي في مجموعته " جرح آخر يشبهني " فيما يبدو حالة من حالات التطهر بحرقة الوجع، أو تبديد السوء بما هو أسوأ منه، كمحاولة لتفتيت الأطر الافتراضية بين الذاتي والموضوعي والشعوري، بحيث تتجاوز الصورة الشعرية، كما تتبدى في كثافة البنية العنوانية، الظرف الاجتماعي، وتهدم واقعا عنيدا، أو تستبدله بواقع جمالي، حلمي ربما، يستجيب أو يتطابق مع تطلعات الكائن الجديد.
القراءة المتأنية، وبشكل حفري عمودي داخل المنجز، أي في العبارات المغلولة إلى نسق علوي، يمكن أن تفرز الشعراء المفتونين باللعبة اللغوية، المراهنين على الإدهاش وحسب، والإنتصار لأولئك الذين حرضتهم اليمن كأرض وتاريخ وشعب على الإنفلات في الخيال، للتعبير بمزاج محض يمني عن أعمق انفعالاتهم، بنصوص خارجة على نص الواقع، ليصبح الشعر حجتهم، بحيث تشيع نصوصهم مناخا للحرية يوازي أو يقارع قوى القهر، كما تتبدى في مجموعة فتحي أبو النصر " نسيانات أقل قسوة " أو في مجموعة عمّار النجار " الصيرورة شجرة تثمر فؤوسا " فيما يبدو مثاقفة واعية لمفارقات الحياة من خلال وعي ينشق على نفسه لئلا ينغمس في الحدث أو الواقعة بل ليعبر عما يناقضها.
وبالتأكيد تحمل بعض تلك العناوين خديعة فنية أو بعض التضليل الجمالي سرعان ما ينكشف عند مقاربة المنجز من داخله، فهنالك نصوص تحاول أن تتعولم، كما يتبدى الميل الواضح والصريح لتقليد " الآخر " بكل أظيافه فالمثقف اليمني عموما، والشاعر على وجه الخصوص يجل الذوات العارفة، لدرجة يستشعر ضآلة وجوده كطرف قبالة الظل المديد للمراكز الثقافية المكرّسة، وإن لم يعلن ذلك يشكل سجالي، لكن المشهد يستبطن هذا الاحساس بشقيه السلبي والايجابي، ولعل في هذا ما يفسر استماتة أغلب المثقفين اليمنيين لتطويب الدكتور عبدالعزيز المقالح بمناسبة وبدون مناسبة كأب ثقافي يمكن موضعته بفخر على خارطة الثقافة العربية، كما يفسر أيضا لواذ بعضهم به، كخط دفاع أول ضد قوى القهر وبنى الثقافة الارتكاسية، فقد كان أول من جرب معه أولئك رحلة العودة بالمثقف اليمني إلى الوراء.
|