طباعة ايميل
رجاء عالم ... متعة التدوير اللغوي للمعرفة
بلغة مثيرة للتخرصات التأويلية تنسج رجاء عالم نصها الروائي، إتكاء على لغة هي مصدر المعرفة الموجبة للمتعة. ومن خلال ذلك المزج اللغوي المركب تعيد صياغة المادة التاريخية، فيما يبدو تأكيدا على رغبة أصيلة ومزمنة لتفكيك الموروث من منظور وعي ذاتي، كما تعمل من الناحية الفنية أيضا على تشييد اسلوبية جديدة تقتلع كل أثر لأسلوب الروي الخطي، لما فيه من الوعظية والإخبارية، وهو الأمر الذي يبدو واضحا من خلال ميلها الواضح لاستبعاد كل ما يوحي بأن روايتها تتبأر في وحدة مركزية قابلة لطمس بقية العناصر، فهي كما يبدو من تكرار تجاربها الروائية على وعي بنسيج الكتابة الداخلي وتعقيداتها كمعلومات وأحاسيس، تنأى بها عن انبساطية وتقليدية الأدوات، أو هذا ما تحاوله بتجريدية سردية.
هكذا تتعاطى الماضي وتجهد لتبديده والإعراض عنه باعتباره نكوصا وحنينا انسانيا ساذجا، أو تاريخا أقرب الى الحكاية التي ينبغي الفرار من أفقية عرضها، فيما تصر من جانب آخر على العودة الى ذلك التاريخ والإنسجام معه عضويا، لا لتعيد الحياة لبعض جوانبه، انما لتتفحص قسماته بحس اكتشافي، يذهب بذاتها الانسانية الى ما وراء ذلك التاريخ، فيما يبدو إصرارا على ابراز الحس الاغترابي للذات المبدعة، وعلى نسف أي مبرر للروح العقلانية، والأهم هو مبالغتها في التعويل على اللغة على حساب المضمون، أو تدوير المعرفة من خلال اللغة، لتصعيد المتعة بمضاعفة التواتر السردي، أو توصيف الأحاسيس وقد تشيأت، فما يهمها هو طريقة الكتابة، لا الكتابة ذاتها أو المضامين.
ذلك يعني تطوير تقنية الكتابة كعرض جديد لنظرية التاريخ، حيث تضطلع فيه حتى بنية العبارة بتجديدات لفظية وشعورية مغايرة، وذات مرجعيات فكرية وشعورية متحولة، ولذلك وضعت رجاء عالم محاولاتها الكتابية وأدواتها تحديدا في مقابل النماذج التي تعاني من الثبات التكويني، إحتفاء بجاذبيات التشظي ودينامية التعبير القائم على التبدلات الدائمة، التي تجعل من الحياة تقليدا للفن، ومن الفن حالة من الحياة لا صورة عنه، بمعنى اقتراح الشكل الروائي الأمثل لتعويض الحياة أو تمثلها وليس تقليدها، فهذا هو حال الرواية الحديثة من حيث تشكل عناصرها داخل اللغة وبها، وهو ما يبدو واضحا في المساءلة الذاتية للموروث وتكرار المحاولات لأعادة صياغته من ذات المنظور.
اذا، هي أقرب الى التطرف الجمالي، من خلال التقاطها خطوط التوازي بين ما هو عصري وما هو ماضوي، ثم تنصيصها قصصيا، وموضعة ذاتها في النسيج المكتوب بعملية " محو " تعي مساراتها الإرتجاعية داخل التاريخ، بحيث تتخفف بشفافية من النرجسية الفارغة، أي تطمس التاريخ العام لصالح التاريخ الشخصي، تأسيسا لما تسميه البنيوية " تطابق الألسن " أي تكثيف الرؤية ودمج مركبات الصوت المختلفة، لا الإستئثار بحساسية الذات المبدعة، ووصولا الى ما يعرف قصصيا بايقاع اللحظة، المستند أصلا على حساسية تتلمس تناقضات الواقع وما وراء تمظهرات الثقافة، وتحررا من كل شيء، ولكن ليس من " أصداء التنصيص " أي الكلام من داخل الحالات وليس عنها، بمعنى الدخول الواعي والجريء في علاقة عضوية مع مكونات نصها التاريخية والإجتماعية والشعورية، ومصادمة خبراته، بالعودة إلى ما يسمى صراع العلل.
هكذا تبدو رواياتها من الناحية الفنية، فهي مجسدة بتمازجات نصوصية شديدة التباين، رغم توفر خيطية السرد ولكن في غير صورته الكلاسيكية. ويتم ذلك دون استنطاق للشخوص او تمثل ادوارهم، انما باقتراب موارب من المساحة التي تتشكل فيها وبها الفضاءات الفنية والروحية للنص، حيث الإختراق الواعي لبعدي الزمان والمكان، واعادة تدوير الحدث التسجيلي إلى انتصابات لغوية وجمالية نابضة، أو هكذا تتعمد صوغ مادة رواياتها بخطاب مضاد، فارط في إرباك خيطية السرد وكل ما يتواشج به من أنساق رمزية.
كل ذلك التحشد التعبيري يتشكل داخل نصها اعتمادا على التاريخ كعجينة قابلة لإعادة الإنتاج، والتأويل الدلالي، والمصبوبة في بنية سردية موازية لنويّات اسطورية، تنفجر ابتداءاتها في المنقضي وتستطرد بامتداداتها وحمولاتها النفسية والجدلية الى تخوم معاصرة، تتسيدها ذات رجاء عالم كسارد متمثل لتوثبات " أنا " تاريخية لا تطمر المعنى التاريخي بالرنين اللفظي، ولا تحاول التأريخ أيضا، بل تدخل التاريخ المبسوط تدريجيا ثم تحذف نفسها بنفسها، أو تمحو بعض حضوراتها بانتقائية، للتأثير في الماضي الذي خلقها، مع التأكيد على تأنيثه كأصل تاريخي، أو هكذا تنبش باللغة مكامن المعرفة التاريخية.
|