طباعة ايميل
إماتة المثقف وحاجة السلطة إلى " مجرمي السلم "
أخطر ما تتواطأ عليه النخب الثقافية مع المؤسسة السياسية العربية هو " الذاكرة " فبعد نهاية الحرب الباردة بالغ الخطاب الثقافي العربي، ممثلا بالانتلجنسيا، في ازدراء المثقف، من خلال التبني الفج لجاهزية " نظرية النهايات " وموت المثقف كما أعلنها " الآخر " وكاستجابة لإملاءات سلطوية لا تخفي فرحها واستعدادها لإماتته بكل الوسائل، والتقليل من أهميته في الحياة العربية، وتأميم ما تشظى من ذلك الفعل الثقافي لإعادة توجيهه من خلال مركزية المؤسسة البارعة في إدارة المثقف الذي يبدي حماسته لإنتاج الوعي المزوّر.
وعليه يلاحظ اليوم أن ذات النخب التي تفننّت في الأجهاز على كل مقومات المثقف تحاول استعادته إلى الحياة بمواصفات تتلاءم مع متطلبات وشروط اللحظة، كما تتبدى مثلا في العملية المعقدة أو شبه-المستحيلة لإعادة إنتاج المثقف المؤسلم الذي كان بيدق المؤسسات لتبديد أي جهد تنويري حقيقي، تحت مظلة من العناوين المضللة التي أرادت توصيف ذلك المد الأصولي بمعنى " الصحوة " وها هي المحاولة تتكرر من خلال اللعب بمثقف مستحدث لا يرى ضرورة للديمقراطية بذريعة أنها منتج " الآخر " كما تملي ذلك التصور أدبيات المؤسسة الرسمية بذرائع مختلفة.
هذه الحاجة السلطوية إلى إحياء نمط المثقف التبريري إنما تعني فيما تعنيه، الإستعانة بفصيل من " مجرمي السلم " كما ينعتهم سارتر بشكل قدحي للإشتغال على الذاكرة والوعي الجمعي بدهاء مؤسساتي مضاعف، لمصادرة ما تبعثر من الشبكة الثقافية والإجتماعية في جيوب قد تعلن التمرد على المؤسسة نتيجة تذمرها من فشل السياسة الحاكمة، ولاستعادة الذوات الثقافية الضالة عن نسق الاستبداد الثقافي الرسمي، فهكذا تتم إعادة انتاج كائنات لا تملك من الثقافة إلا عناوينها، أو تخليق ما يسمى بالوعي المزوّر.
وبنفس الآلية التضليلية تم تأهيل كهنة الزيف الديمقراطي من " المارينز الثقافي " في العراق، وعصابة " سلام شجعان أوسلو " في فلسطين، وقطط " ثقافة السلم والتطبيع " السمان في مصر، وطابور الوهم الإصلاحي، الحالم بمجتمع مدني في الخليج، وممثلي الكومبارس في مسرحية " عصر الجماهير والديمقراطية " في سوريا وهكذا، فالمجتمعات التي تواجه بتحديات تهدد المؤسسة الحاكمة في شرعيتها وتسائل سر عطالتها، عادة ما تستنفر أجهزتها لبدائل ثقافية هي أقرب إلى الأضاليل منها إلى البرامج الإصلاحية.
من رحم هذه العناوين المؤسساتية المضللة برز طراز من المثقفين الإنتهازيين يزدحم خطابه بمزيج من الدعاوى والشعارات التي سطا عليها من دوائر ثقافية نائية وصار يلهج بها بلكنة حداثية، وبمزاعم تنويرية، ولكن دون فاعلية، فمهمته تنحصر في افتعال المعارك الهامشية لمشاغبة الفصيل الثقافي المضاد بدعوى التأصيل وتمتين الجبهة الثقافية الداخلية، وفي هجاء " الآخر " للفرار من استحقاقات نقد " الذات " والتنصل من مهمة إثارة الوعي، فهو على درجة من الإحتراف في إعادة انتاج الأسئلة الإستهلاكية البائتة لتبديد طاقة المشهد الثقافي.
هذا النمط الذي يتأسس خطابه على الصراخ والدعاوى والشعارات، هو دائما على علاقة ملتبسة مع أواليات المعرفة، ولكنه على توافق سري، وخلاف ظاهري، مع المؤسسة، أو هذا ما يراد له، فهو لا يمتلك من الذخيرة المعرفية وطاقة الفعل والممارسة ما يرد بها على المتغيرات بقدر ما يبدي من الاستعداد لممارسة دور تعبوي لمؤسسة تحاول بدورها تأميم أكبر مساحة ممكنة من الصوت الثقافي المغاير، الأمر الذي يجعله على الدوام في واجهة الحدث والمساءلة في آن، فالكوارث لا تربك السلطات والمؤسسات وحسب، بل تفضح زيف وادعاءات المثقفين.
من واقع ذلك الإنكشاف تم تسخير المثقف لخدمة السلطة وإضفاء المشروعية على ممارساتها، حيث تم تهميش الأصوات الثقافية الفاعلة، واستدمجت الفئات التي أبدت استعدادا لمؤازرة المؤسسات لتأميم كل مقدرات الثقافة، وعليه لم تعد المؤسسة سوى مأوى لأشباه المثقفين، وعصابات ثقافية تأتمر بأمر السياسي، وهكذا صار المثقف الحقيقي عرضة للنفي والإحتقار، ففي كل مشهد ثقافي عربي هنالك فصيل من المثقفين المنبوذين، هم الإستثناء أمام أغلبية مستدمجة أو متحمسة بمعنى أدق لمشروع السلطة بما هو خيار المجتمع الواحد والأمة الواحدة التي تخوض حربها ضد عدو متوهم، ومن أجل هدف افتراضي مصمم لهذا الغرض بالذات، ومن يتأمل الحياة العربية سيرتطم وعيه بواحد من تلك الأخدوعات الثقافية، التي غالبا ما يستمسك بها المثقف المدّجن والمستدمج في حسابات المؤسسة ويعلنها كمواقف تنم عن توظيف مراوغ لمعنى المثقف العضوي، كما بشر به غرامشي، لرد أي شبهة أيدلوجية.
إذا، كلما تعرضت السلطة لهزة تلتقط طابورا من المثقفين المهزومين، من خلال الترويج الواسع والفعال لخطاب توبة ثقافي يقوم في جزء منه على الترهيب وفي الهامش الأكبر منه على الإغراء والترغيب، والتلويح له بإمكانية استنساب المثقف لمشروع تنموي وإصلاحي هائل لا غنى للمؤسسة عنه، تحت عناوين مضللة كالإصلاح من الداخل مثلا، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تفكك الشرائح الثقافية المضادة، وصعوبة تشكلها في جبهة تهدد سطوة المؤسسة، على اعتبار أن الحالات الفردية لا تشكل خطرا، بل يمكن احتواء نزقها وإنهاكها بآليات مختلفة لاحقا، فهكذا يتم استيعاب الحالات الثقافية الفردية والجمعية، ويعاد تعليبها في هياكل فارغة لا تحمل أي من المعاني أو المضامين الثقافية، فالمؤسسة العربية على درجة من الدهاء بحيث استطاعت أن تقلص حتى المسافة التي تفصلها عن الشاعر لدرجة الإمحاء.
ولأن السلطة دائما على درجة من الخبرة والدراية تفوق قدرات وطموحات الفرد، يتم التركيز على النخب والذوات التي تمتلك تأثيرا في الحياة العامة، ولكن دون السماح لهذه الخبرات الثقافية بممارسة أي دور خارج مخطط المؤسسة، وما ترسمه في مختبراتها من برامج لتأميم الصوت الثقافي، بحيث يتم ابتناء منظومة ثقافية على درجة من السلطة والتأثير في النسيج الإجتماعي، خصوصا ذلك النمط المتوافق مع البنى التقليدية، بحيث تتم محايثة سطوة السلطة بخطاب أشد وطأة في الوعي الجمعي، ولا يحظى الفرد بأدنى درجات الحماية ضد الانتهاكات التي يتعرض لها من قبل الجماعات المتوافقة مع آليات البطش والتأميم المؤسساتي، كما حدث في أكثر من مشهد عربي بدعوى استقلالية القضاء، بالنظر إلى ما تمتلكه تلك الرموز الثقافية من قدرة على تزوير الوعي وإضفاء طابع المثالية على كل مقترحاتها الثقافية، فيما يبدو مقروءا لدى المؤسسة من استعداد لدى المثقف لخيانة ذاته ومشروعه من أجل وجاهة مؤقتة، وليس تقاطعا مع ضرورة تاريخية.
هكذا تتم إعادة المثقف إلى الحياة بعد إماتته، وعليه يكتظ المشهد الثقافي العربي بطابور من المثقفين المدجنين الذين يتاجرون بخبراتهم كرأسمال رمزي لتأكيد شرعية المؤسسة، والأهم أن تلك النخب الثقافية أو المصعّدة كظواهر إعلامية، تتحول إلى حجة تضغط بها السلطة على الناشز من المثقفين لتأكيد حتمية مفهومها السلطوي، المؤسس على الولاء التام للسلطة وتمثل مرئياتها التنموية بكل متوالياتها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، حتى وإن تولّدت تلك المرئيات من منظور ديني أو استبدادي لا يعد بأي شكل من أشكال الإصلاح الديمقراطي وإطلاق الحريات، وأي قراءة للخطاب الثقافي الذي هندسه السياسيون وتداوله فصيل من مثقفي المؤسسة بما يشبه التبشير بعصر ثقافي جديد سيؤكد هذه النتيجة.
في المجتمعات العربية اليوم هنالك طروحات ثقافية ونوايا مؤسساتية تتمحور حول إنشاء وتفعيل البعد الوطني للثقافة، وكما يبدو من عناوينها لن تكون إلا التفافا على استحقاقات التغيير، واستكمالا صريحا لتأميم الصوت الثقافي، إذ لا تحضر الديمقراطية على بنود تلك المنتديات رغم أنها تحتل المرتبة الأولى في سلم الأولويات الإصلاحية، بينما تكتظ أجندة المخططات بمجادلة اليومي الذي لا يعدو كونه نتيجة دون أن تقترن بالمعنى الخلاق للثقافة، حيث الفصل القصدي بين الثقافة والتحديات، وعليه تتعطل آلية انتاج القيم المعرفية والحقوقية، فالقوى الإجتماعية بما هي نتاج المؤسسة التعليمية المستهدفة اليوم بإعادة هيكلة ذهنية، والمتولدة أصلا من هرمية المؤسسة الثقافية الأشمل يراد لها وفق الوصايا الثقافية الجديدة أن تبرمج وفق خصائص غير فاعلة.
هكذا تروج المؤسسة لهامشية اليومي وتصر على أن تتعاطاه كأصل بحيث تحصر الثقافة في شكل المنتج الثقافي من قصة وشعر ورواية، بما يعني تدمير المعنى الوظيفي للثقافة، والعمل على ترويج ظاهرة مثقفي المهرجانات وحاصدي الجوائز التكريمية، وضيوف الشرف المثقلة صدورهم بأوسمة التكريم من زعماء لا يتوانون عن اضطهاد مثقفيهم، والذين غالبا ما يختتمون منتدياتهم ببيانات وتوصيات مستهلكة لا تساوي الحبر المراق على الورقة الختامية للمهرجان، وكأن المثقف لا دور له إلا تكريس هزيمته أمام نفسه وأمته، وتعطيل وابتكار الذرائع لتعطيل مفهوم الثقافة كطاقة لمفاعلة معنى وهوية الدولة الحديثة بكل عوامل التغير والثبات والتنوع والتناقض الداخلية والخارجية، وهكذا يتم إحياء فصيل رديء من المثقفين الذين يتنازلون عن دورهم الفعلي بمناهضة اسمية لقاء فضالة تتصدق بها المؤسسة، وهذا ما تتقنه السلطة دائما في انتاج وتسويق مفاعيل جديدة للسيطرة.
|