طباعة ايميل
الشعر كعلاج لميتات المنفى
الحقيقة قد تنام مع الموتى، لكن الشعر لا يتنازل عن جمالية حضوره بإنعقاد ألسنتهم، فشاهد القبر الشعري العراقي في استجابته القسرية لشرط المنفى، إنما هو علامة على علامة أكبر وليس أثرا لفكرة، كما يفلسف التفكيكيون الدلالات.أظنه الرد الأنطولوجي على ميتات منفى أزلي رضته الأولى هي الطوفان. ألا يشير شاهد القبر ذاك إلى رقدة تاريخية لقامات أشبه بانبثاق نصب جمالية تتحدى الفناء بسجالية الحقيقة الشعرية!؟ ألا يشبه ألواح حمورابي الطينية ورقيم وصايا جلجامش كبطانة شعرية لتاريخ البشرية!؟
الشعراء محمد مهدي الجواهري، وعبدالوهاب البياتي، ومصطفى جمال الدين، وبلند الحيدري، لا ينامون تحت وطأة حائط مبكى لليائسين من شعرية الحياة، بل يستعيريون أرضا كاستعاضة عن " بلاد تخفي وجهها بيديها في عاصفة تفترس الخراف ". وبقدر ما تنهال الأتربة على ذلك الشاهد، تتهيل منه الصّور الشعرية إنهاضا للإنساني، فالشاعر شاعر حتى في شكل إغماضته، أو تماوته، ومهما تلفع جسده بسيلوفان الأكفان.
النص الشعري العراقي كما ينمو خارج رحم أرض السواد، يصعب عزله عن معنى وحقيقة الوعي الشعري العراقي في أصل تخومه، فهكذا أستقبله عندما يرتطم بأحاسيسي مبتلا بطمي ما بين النهرين، ممسوسا بعتاقة الشذى البابلي، معفّرا بدم الحسين، ومخنوقا بخردل حلبجة، سواء انتحبه مظفر النواب، أو أدلّجه سعدي يوسف، أو حتى بالغ سركون بولص في مداراته ببعض عادات وهوس الحداثة، فهذا هو ديدن النهر الذي لا يضيع أصله، أي الشعر الأصيل الذي يرتوي من منابع ناسه، وليس من فتنة اللغة وحسب.
أجل، هذا الشعر الذي يعاند، بوله المحبين، كذبة الجغرافيا، ويصر على أن يكون مرآة لصدقية التعدد العرقي والديني، فالشعر العراقي حتى وإن كان صادرا عن ذات منتشلة بيولوجيا من تربتها، لا يمكن سلخه عن مكامن روح وتفكير العراقي، وأي محاولة تأويلية بهذا الشأن لن تختلف عن عبث مراودة الماء لفصله عن الخرير، أما ذلك الفيضان الشعري المستشري في غربة المنافي فليس كله دلالة على فائض كلامي وعوز في الشعور، أو الكفاءة الفنية.
هؤلاء وغيرهم من منارات الشعر العراقي النابت في ضيافة ومهانة " الآخر " العربي والغربي، لا يختصرون نبرات الشعر ولا أجياله، وليسوا بالتأكيد خلاصة أو منتهى المختبر الشعري العراقي، فالسوراقي محمد مظلوم يدعوني لأشاركه أوركسترالية إنشاد مرثيته لبغداد من مدرجات جبل قاسيون، وأحس بحرقة عبدالحميد الصائح وهو ينحت قصيدته بجريان الدم، وأحار في عبدالهادي السعدون وهو يحاول - عبثا - تأطير الضحك ، وكم يحزنني أن أرى جان دمو يعلق " أسماله " ليعلن ميتاته التجريدية، وأتعاطف مع كمال سبتي وهو يرمي نظرته الحزينة على " آخر المدن المقدسة ". ولا أتنازل عن حمل " نشيد أوروك " منذ أن دسه عدنان الصائغ في جيبي، ولا أكف عن التعاطف مع طارق حربي الذي اكتوى برمضاء جمهورية رفحاء، وهكذا أقرأ أمل جبوري وفينوس فايق كمؤنثات للمنفى الشعري ووريثات لنازك الملائكة في آن.
ليس غريبا هذا الدفق الشعري على " بلد الأنوات الكبرى " كما يسميها سيف الرحبي، إذ الشعر هو المعادل الموضوعي والروحي لحياة أناس لا يكفون عن الإنشاد، فهؤلاء الذين نجوا من جحيم " البوابة الشرقية " ومن محارق أمهات المعارك والحواسم، تلقفتهم المنافي بكل أطيافها العربية والاسكندنافية والاسترالية، فعاثوا في الأرض شعرا، أخذوا معهم كربلاءاتهم وحلبجاتهم وآشورياتهم، خيباتهم الحزبية، وحماقاتهم الفردية، وأوهامهم الطوباوية بعراق آخر غير ذلك الذي اعتدناه كخبر يومي على شاشة الفضائيات، فأصابونا به في صميم إحساسنا بالوجود، من خلال نص لا يريد أن يعترف بيتمه، بل يصر على التشكل بمركبات العولمة، تماما كما تأسست " الأنا " العراقية بنزقها وتعدد نبراتها حد الفجاجة.
هكذا يصلني العراقي المنفي المعولم، العراقي بما هو مزيج من العربي والكردي والصابئي والكلداني وحتى اليهودي، وكما يعلن عن نفسه في عناوين الحب والحرب، وكل ما يتناسل عن تلك المزدوجة من تشظيات " الأنا " في علاقتها بالوطن والمرأة والحزب والأيدلوجيا، والإستعمار. فهنالك عراقي عربي لفرط خيبته من العرب يريد الإنسلاخ من عروبته فيعيده الشعر إليها، وكردي يحاول الإنشقاق على تاريخ وجغرافيا عراقيته لكن الشعر يناديه فيستجيب، وشاعر تعب من الأيدلوجيا فأراد بوعي اليائس تكهف حماقاته الشخصية وإرتكاب فردانية إحساسه بالوجود، فهو يريد أن يكون سيد نزقه. وهكذا يتفانى النص الشعري العراقي الضال ليتوب عن غربته، وليتوئم صوته بشعرية الداخل، وهكذا يصلني ذلك النص المؤسس على هامش الوطن، بما هو - أي النص - علامة الفرد، كما تفترض الحداثة وما بعدها.
إنه نص لذات تحررت من المحرّم الثقافي والقاموسي، ذات مجتثة من أرضها ومسلحة باللغة، أليست هذه المزدوجة هي ما يلزم الانسان ليعلن كينونته!؟ وليقف بحدة وبوعي على خط الزمن!؟ أجل تروقني تراجيدية وغرائبية هذا النص الذي ينادم فيه سركون بولس ما يفترض أنه نجا من النبي نوح ويفاوضه على مركبه، فيما يحاسب فاضل عزاوي شكسبير على كثرة آثامه، ويتمنى أن يظل " الشعر طوفانا يحمل مركبنا " ليكون هو نبيه أو نوحه الجديد فيما لو أغرق الله العالم ثانية بالطوفان.
ذات - فطنة تأويلية - فسر لي محمد مظلوم هذا التناغم البنيوي بين الطوفان والشعر، فهما توأمان في الملحمة العراقية، ليبقى من الأسئلة ما لا يمكن الإحاطة به أو المغامرة بتأويل مدى وعمق دلالات المنفى فيه، فهذا يستلزم تنضيد كل العراقيين في أفق التجربة الوجودية، فكلهم، بتصوري، داخل تجربة حسية تاريخية حارقة تسوّيهم شعراء، هكذا يصد العراقي بالشعر ميتات المنفى.
|