طباعة    ايميل

مثقفون بلا حدود

ترشيح الروائي تركي الحمد لنيل جائزة " الاندبندنت " للرواية الأجنبية المترجمة الى الإنكليزية، عن روايته " الشميسي " خبر تتجاوز تداعياته الشأن الثقافي، إلى ما يمكن اعتباره انتباها عالميا لأرض موصومة بتهمة اختزان أكبر احتياطي من النفط والإرهابيين، ولا يحصد أهلها إلا جوائز سباق الخيل والهجن، خصوصا أن الحمد يصطف هذه المرة إلى جانب الكبار، وينافس حامل جائزة نوبل  " خوزيه ساراموغو ". وبالتالي لن يضطر لملاسنة إمام مسجد من الدرجة العاشرة في حي السويدي أو حارة من حارات الثقبة.

إذا، آن الأوان للتماس بكائنات تجيد حمل القلم وإنتاج الأفكار، ومخاطبة الرأي العام العالمي بمنظومة قيم نوعية، قد تسهم في رفع اسمنا من قائمة المتهمين بالإتجار بالبشر، ومصدري الرعب، فهذا الكائن الذي كان يٌنظر اليه كمخلوق بائس داخل لحظة حضارية متخثرة، كما يسمي توينبي البداوة، بات حدثا ثقافيا، وصار بمقدوره حصد الجوائز النظيفة، وكأن العالم على موعد مع اختراع بشري جديد، يتعرف عليه للمرة الأولى من خلال أصوات جادة وواعية، لا تسير أقلامها إلى الوراء.

هكذا أثمر ربيع الإصلاح للعام 2004 م عن مخلوقات نوعية، لا تقل أهميتها وشعبيتها عن أبطال يرتقون إلى المجد بقواهم العضلية، كالعدّاء هادي صوعان الذي كسر نحس الركض في البراري - خارج المضمار - وأحنى رأسه مرارا ليطوق بالذهب. وكذلك حسين السبع الذي قفز بما يكفي لارتقاء سنام منصات التتويج، بالإضافة إلى مخلّد العتيبي، ومحمد الجيزاني، وحمدان البيشي، وسالم الأحمدي، وغيرهم، من الأبطال الذين تحشّدوا في سلالة من الرجال المذّهبين، وأثبتوا أن البطل الأولمبي أيضا، حقيقة يمكن أن تستوي في نسخة محلية تحت هجير الصحراء وملوحة البحر.

إلى جانب أولئك، الذين تضوّعت أجسادهم بعرق الركض في الميادين الرياضية، كانت الأقلام الحرة تغادر الورقة لتجري على الأرض، إلى الأمام، في سباق مع الزمن، لتحلم أو تبشر بعصر وإنسان جديد، الأمر الذي دعا جمعية القلم الأمريكية إلى منح جائزتها السنوية للشاعر والروائى علي الدميني، أحد قياديي الحركة الدستورية في المملكة على خلفية دفاعه عن الإصلاحات السياسية وحقوق الإنسان، وهي جائزة تمنح للشخصيات الأدبية التي تتعرض للاضطهاد السياسي بسبب أفكارها السلمية، خلال احتفال مهيب في المتحف الأمريكي للتاريخ البشري في مدينة نيويورك بحضور شخصيات ووسائل إعلامية دولية، وكانت جمعية أخرى تعرف باسم " جمعية القلم لولايات إنجلترا الجديدة " قد منحته أيضا جائزتها السنوية لحرية الكتابة "جائزة فاسيل ستاس" في مدينة بوسطن.

ولأن المشهد لا يكتمل إلا بحضور النصف البشري الآخر، جاءت المرأة معززة ببأس الدفاع عن آدمية وجودها، ففي هولندا، قام الاتحاد العالمي للكتّاب والأدباء بتكريم الكاتبة وجيهة الحويدر ومنّحها إحدى جوائزه السنوية لدفاعها عن حرية التعبير، ولآرائها الجريئة في الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة تحديداً، وكانت الحويدر قد أوقفت عن الكتابة بتاريخ 25 أغسطس 2003 م في صحيفة الوطن، فانتقلت للكتابة في المواقع الالكترونية، خصوصا موقع " إيلاف "  وكذلك " الحوار المتمدن " لتواصل مرافعاتها الحقوقية، وانتقاد كافة أشكال التطرف الديني، ونشر الوعي الوطني والحقوقي، استثمارا لممكنات اللحظة الإلكترونية.

ويبدو أن بعض هذه الجوائز، وكرنفالات التكريم، لا تلاقي صدى مريحا لدى شرائح اجتماعية وسياسية مختلفة، بالنظر إلى حالة التوجس والتشكيك، المنغرسة عميقا في الذهنية العربية إزاء " الآخر " وجوائزه المشبوهة، المتأتية أصلا ضمن سياق " المؤامرة " والتي يراد بها إعادة برمجة المجتمع، أو فرض الإصلاحات من الخارج، كما يجري ترهيب الناس من خطورتها، وهو ما تم التعبير عنه بشيء من الاستهجان، حين تم اختيار الشاعرة سارة الخثلان، من قبل مجلة  " نيوزويك " الأميركية في طبعتها بالعربية، كواحدة من الشخصيات المتميزة في المجال الثقافي في الوطن العربي، اعترافا بدورها في تقديم خدمات لمجتمعها، وخاصة في مجال التغيير والإبداع، باعتبارها صاحبة صالون نسائي ثقافي يستضيف العديد من المثقفات والتربويات والأكاديميات، ليفتح قنوات وآفاق الحوار وتبادل الرأي والفكر.

ولا شك أن بعض هذه الجوائز مجرد شهادات اعتبارية، إذ لا تساوي قيمتها رزمة من الدينار العراقي قبالة دولار واحد، فهي غير معنية بكفاءة منجز المثقف الإبداعي، بقدر ما تراعي روح المنتج، وما يتمثل فيه من الرسالية والحقوقية. ولكن، مهما قيل عن مبرراتها الخفية، تظل هذه الجوائز علامات على تحوّل بنيوي على درجة من الأهمية، حيث تعني فيما تعنيه ظهور مثقف عابر للحدود، يتجاوز خطابه كافة اشكال الرقابة التقليدية، ويصل بصوته إلى " الآخر " بكل أطيافه، مهما كانت العوائق.

وإذ، يصعب القول أن ما يحدث يشكل الآن " ظاهرة " إلا أنه يمكن تلمس منسوب النمو الخفي لجانب هام من خطاب الظل، والتبرعم اللافت لمؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك تكريم للبنى العليان في الحقل الإقتصادي، من قبل مجلة " نيوزويك " أيضا بمناسبة مرور خمس سنوات على صدور المجلة بطبعتها العربية، فذلك الحضور المتنوع خارج الحدود، وتكرار الصعود على منصات التكريم، يعني تراجع دور المؤسسة بكافة اشكالها، واقتراب الثقافي من الهم الوطني أو التجذر في سياقاته، فإحساس المثقف بوجود جهة ما من العالم تتفهم رسالته، يعطيه الحق والقوة في إطالة أمد صرخته، حتى وإن لم يجد جداراً في وطنه يعلق عليه شهادته التقديرية.