طباعة    ايميل

واعدوا أنفسهم به .. وتوهموا أنهم صاروه

النيات والبنى الثقافية المهادنة لا يمكن أن تنتج الا أنصاف حقائق ، وظلال مواقف ، وبالنتيجة أشباه مثقفين ، وهو ما يتبدى بصورة موجبة للتساؤل والتأسي عند التحديق  في أي مشهد ثقافي ، حيث الافتقار  الى صيغة المفكر أو العارف المنظّر ، المؤهل أو المنذور لاختراق منظومات الثبات الثقافية والاجتماعية والنفسية ، التي يراد لها في الغالب ، ولأسباب مفهومة ومدروسة ، أن تبدو تكوينية ، فيما تكتظ زوايا المشهد بأشباه المثقفين ، اللاهثين وراء الأثر الثقافي ، لا المنبثقين من مركزوية الفاعل التاريخي .

وليس أدل على ذلك الافتقار من شكل وكم الانتاج المتولد عن أصواتنا الابداعية ، عند محايثته باللحظة التاريخة ، حيث عجز حتى الحداثي منه عن تخطي الحدود ، وايصال مرئياته الفكرية وحساسياته الجمالية الى آفاق الثقافة العربية الأم ، لأنه في الأصل لم يحقق التواصل مع الانسان المعني به في الداخل ، عدا استثناءات قليلة جدا ، لا تتعادل روحيا مع معدلات النمو المادي ، وانفتاح آفاق التواصل الانساني ، وتمدد هامش الحرية التعبيرية بصورة لم تتأت للذوات الثقافية من قبل .

ومهما قيل عن تبدل حال العواصم الثقافية ، وانقلاب المراكز الى أطراف والعكس ، وانبثاق فعل ثقافي أو مثقف قادر على مماهاة فعل ووجود الآخر بكل تصنيفاته ، وحفر بصمته الابداعية في مجرى الثقافة ، لا زلنا طرفا ، نستجلب ونستهلك من الثقافة أكثر مما ننتج ، ولم نتأهل بعد لأن نصبح مركزا ثقافيا ، وهذه حقيقة لا بد من مواجهتها بجد ومثابرة ، ولا بد من دفعها الى مقدمة الأولويات الانمائية بعيدا عن المبالغة والعصبوية ، فالمركز الثقافي حالة ، أو مضخة انتاجية بمعنى أدق ، ونوعية بالدرجة الأولى ، يتولد في حواضنها المستحدث من النظريات والمناهج ، والجدلي من الأفكار ، والفاعل والمؤثر من الانتاج الابداعي بكافة ضروبه وأشكاله ، وفق حاجة منتج المعرفة وليس استجابة لمتطلبات آخرين ، فهكذا يتحقق شرط الحرية الابداعية الكفيل بتصعيد الفعل الثقافي الى أبعد حد يمكن به اختراق منظومات الثبات .

ولا شك أن غلبة ظاهرة أشباه المثقفين ، وتأخر أو عدم بروز المثقفين المؤهلين للاضطلاع بأدوارهم الانسانية له من الأسباب التاريخية ما يفسر الظاهرة ، ويحتسبها كمعطى تبريري للمثقف تسمح له بالمكوث في أكذوبة التراكم التاريخي وغيرها من الأوهام ، اذ تحيل الى متانة بنى التخلف الراسخة ، التي لها من القوة أو التمكن ما يكفي لاخضاع أو إدماج أذكى العقول ، وأصفى النيات ، وأكثر الذوات الابداعية توقا الى القيم الجمالية والخلوص الانساني ، والانصراف بها عن مكامن الفعل الابداعي الى الهوامش .

ولكن جاهزية تلك الاحالة السهلة لا تجيب على سر انتفاء ، أو عدم ظهور جيل جديد من المثقفين القادرين أو الراغبين في رفع مستوى الفعل الثقافي الى حافة المغايرة ، واندحار الفئات الواعدة منهم عند أول مواجهة ، حيث لم تصاحب الطفرة المادية خطة حقيقية وفاعلة للانماء الثقافي تكفل ذلك التصاعد الابداعي ، ولا عقلية ثقافية جريئة من داخل الجسم الثقافي تدعو للقطيعة مع الميت ثقافيا ، بقدر ما سمحت لملامح شبه ثقافية بالنمو والتصاعد على حساب القيمة الابداعية والحياتية بوجه عام ، حيث استمر خطاب التغيير يحوم حول المسلمات ، وبنى الثبات ، بكثير من التواؤم والتكيف ، دون ملامسة اختراقية .

هذا هو المناخ الذي انتعش فيه صنف المثقف المتردد ، الماكث حد السكون بين الذاتي والموضوعي ، المنفصم ما بين مكتسبات اللحظة المادية وحاثات الدفق الروحي ، فهو ينتمي اجتماعيا واقتصاديا الى فئة تحاول اللحاق بالمتغير المادي ، وحصاد ما يمكن من مغرياته ، وفي ذات الوقت يكتب بلغة ومرئيات متعالية عن فئة محرومة ، أو كانت في حالة عوز ، ويعبر عن أحلام مهشمة ، وعفة مسروقة ، وكأنه يعيد سرد حكايته هو من خلال الآخرين ، حيث يتعامل مع المعطى الثقافي كبنية فوقية ، يأخذ منها سمة الامتياز ، ويتخفف من مسئوليتها ، وما تستوجبه من تضحيات وتفاعل بناء .

وهذا يعني أن المثقف المتباكي دوما على ضآلة هامش الحرية ، القابع تحت أشكال متعددة من القهر والتسلط كما يستشعرها ، وهو في ذات الوقت يمد يدا رخوة يغترف بها كل ما من شأنه الحاق أدواته وخطابه بمظاهر القوة كما تتمثل على أرض الواقع ، انما يعلن الرغبة والنية في الانتماء ماديا الى حواف ارستقراطية ، أو مشارف اجتماعية أقرب الى سمات وملامح الطبقة الوسطى ، أما عاطفيا فهو أميل الى تجريدات القيم والمفاهيم التي تتسم ضمن خطابه المرتبك بالكثير من الضبابية والتبشيرية المجانية ، والدوغمائية أحيانا كما تتبدى في خلائط التفكير أو الهجس بالثقافي والوجودي والاجتماعي والسياسي دون رابط مقنع ، ودون ترجمة فعلية لتلك التجريدات ، اذ لا تتعدى هواجسه الصيغ الاحتجاجية التي تعادل موضوعيا ونفسيا حالة اللا فعل ، ولا تتجذر كفاعلية تحريك .

اذا فالطبقة الوسطى كمنتج بشري التي جاءت أو تمددت بشكل أكبر نتيجة الطفرة الاقتصادية التي عبرناها أفرزت ظاهرة مصاحبة ، أو فئة هي بمثابة عقل ومركز تلك الطبقة المؤثرة اجتماعيا ، وهي تلك الفئة من المثقفين الحائرين بين ما واعدوا أنفسهم وأمزجتهم وعقولهم عليه ، وبين ما توهموا أنهم صاروه أو حققوه من مكتسبات سريعة وآنية ، أي بين ماض حلمي لم يسعفهم بشيء ، ومستقبل يشير حاضره الى امكانية الوصول الى الوجاهة والمكانة دون جهد ، ودون تضحيات أو خسائر ، بمعنى أن تلك الفئة أو الشريحة الاجتماعية قد أفرزت حاجاتها النفسية الارتدادية المتمثلة في مثقفها العضوي الذي لا يبرر نكوصاتها ، ويدافع عن معتقداتها الفكرية والشعورية في طورها الستاتيكي وحسب ، بل يجانسها أيضا بشروط تاريخية وسياسية واجتماعية توفيقية أو طارئة ، ويثاقف متطلباتها وتطلعاتها بالواقع .

في ظل ذلك التحول المرتبك تم انتقال المثقف من مهمة انتاج وتعاطي القيمة المعرفية والجمالية ، الى مهمة توسل المكانة والنجومية ، المرقعة ببعض ملامح وأثر وغرائبية الشأن الحداثي ، فصار المثقف ينتشل ذاته وعقله ووجوده من تحت خط الفقر المادي الى الهبائية الروحية ، والرسالية المضللة ، متحللا من أي مسئولية لاختراق منظومات التخلف والتسلط ، محاذرا الاصطدام بمتناقضاتها أو مخالفة مقترحاتها ، ما دامت لا تعطل نجوميته ، وتعزز فيه احساسه أو وهمه بالانتلجنسوية ، فتمده بمبررات الازدواجية والتملص السهل مما يستوجب ربط جهاز مفاهيمه المعرفية والجمالية بالقيمة الأخلاقية ، أو هكذا كان .