طباعة    ايميل

مرحباً هيل بطحالب الحداثة

بالاضافة إلى المكتسبات المعرفية والجمالية التي أتاحها لنا النادي الأدبي بمنطقة الباحة في " ملتقى الرواية وتحولات الحياة " لا أظن أن أحداً من المشاركين سينسى بهجة الأيام التي قضيناها بين أهلنا من الأول وحتى الرابع من سبتمبر، فكل الباحة وليس النادي الأدبي وحسب، كانت تعدنا بطقس ثقافي لم يتم التخطيط له في أروقة المؤسسات، أو ربما هو احتفال شعبي في لبوس ثقافي تجلى بأبهى صورّه في الرقصات الشعبية ( العرضة - المسحباني - لعب ) التي أغرت المثقفين بالتنازل عن تواقرهم والترنح على ايقاعاتها، ثم الإندساس بفرح طفولي بين صفوف الراقصين، حيث تشابكت سواعد سعد البازعي، ومعجب العدواني، وعلي الشدوي، ومحمد الحمد، وحسين المناصرة، وجريدي المنصوري، وعالي قرشي، وابراهيم الدغيري، فيما تعلقت أقدامهم في الهواء كيفما اتفق، وارتسمت على وجوههم علامات الإنتشاء، كلما لامست أسماعهم نبرات الشجن للشعراء فاضل الزهراني، وعلي البيضاني، ومشعل السوادي.

لم أتفاجأ بإرهاب خفافيش منتديات الانترنت التي كانت تبث قبل أيام من الملتقى عبارات الترهيب المعاد إنتاجها وتدويرها " طحالب الحداثة تجتمع في الباحة ". وبقدر ما استوقفتني تلك اللافتات المستهلكة دهشت لفرط خيال المنذورين لتعطيل حركة التاريخ حيث تم " تهويد " الملتقى بعبارات تهديد استباقية عبر رسائل الجوال " إن موعدهم السبت " وهكذا استبسلت ذهنية المؤامرة في توليد " الفزاعات " واستزراعها بعدائية صريحة في درب الملتقى، لكن كل تلك التلويحات اليائسة كانت تتحطم عند العبارة المأثورة، فائقة الشعرية، والمعاندة للتفصيح " مرحباً هيل .. عدّ السيل ".

بين ردهات الملتقى كنا نسمع صوتاً ينبث من القلوب " تجادلوا كما تشاؤون ودعونا نؤثث لكم المكان بالفرح " وربما هنا يكمن السر في إنهاء بعض المثقفين مقاطعتهم للنادي، ولو بشكل مؤقت، والتفاني في إبهاجنا وتعريفنا على تضاريس المكان الروحية والجغرافية، كخطوة ودودة للتصالح، مع الإبقاء على حق " الإختلاف " أو هكذا فاجأتني " الشخصية الباحية " بقدرتها على الإنشقاق والإلتئام بروح مدرّبة على الصفاء وشفافية المكاشفة كما تلمستها في غرم الله الصقاعي وعلي الرباعي مثلاً، ولولا الضرورات البيروقراطية التي ألزمت أعضاء النادي تعليق بطاقات التعريف لما تعرفنا عليهم لفرط تواضعهم، وبساطة حضورهم، وذوبانهم الشفاف بين الحاضرين، والمقام هنا لا يتسع لترديد أسماءهم وتعداد مآثرهم، حتى الأكاديميين " الباحيين " الذين استقطعوا من وقتهم ومشاغلهم ليشاركونا متعة التكلم في الرواية والتحولات، لم نستشعر ترفعهم وانفصالهم عن ناسهم لأن القرية لم تخرج منهم، وإن كانوا قد خرجوا منها.

بعض المثقفين والمثقفات الذين كتبوا بشاعرية عن ( القرية/الأرض/الوطن ) وبنوا أمجادهم الكتابية على تمجيد هذه الفضاءات الملحمية اعتذروا في اللحظات الأخيرة عن الحضور بدعاوى مختلفة، وقد أشيع أن أحدهم اشترط مبلغاً خيالياً للتحدث عن حنان الحضن الطبيعي الذي ألهمه فكرة ومعنى الكتابة، كما أرضعه حلاوة السرد، الأمر الذي أربك برنامج الملتقى وأثار حفيظة المنظّمين، لكن غضبهم من ذلك العقوق، وتحسرهم على المثقفين الذين استنكفوا الحضور لمكان لا يمتلك مواصفات المركز الثقافي، لم يبدد الابتسامة التي لم تفارقهم كطبع أصيل، ولم يصدر عنهم أي تبرم ناحية المثقفين والمثقفات الذين استخسروا حضورهم في قرية مصنّفة على هامش المشهد الحياتي والثقافي.

في المقابل أبدى " القرويون " رغبة لافتة لإطلاعنا على مواطن نشأتهم وسبل معاشهم، فليس في القرى من " عورات " بل مآثر تحكي سيرة إنسان صارع كل الظروف ليبقى. وهكذا أصرّ الزوربا القروي أن يقودنا براحته الحانية إلى مجاهيل " الباحة " وقرر بمنتهى الود ألا نعود منها بدون أن نصاب بمس النص البصري كما أرانا إياه بكل الحواس في " رغدان " كأمثولة ربانية خالصة، وقد صممت تلك اليد المحبّة أن تلقننا درساً استثنائياً نتنشق بموجبه عبق التاريخ وأسطورية المكان الغامضة كما تمثل لنا في " قبور الزينات " وفي متحف شيخ قبائل بلجرشي محمد بن مصبّح المؤسس بجهوده الذاتية.

هذه اليد المنغرسة بعمق في أرض " الباحة " هي ذاتها التي أغرتنا بتناول فنجان قهوة مع والد المرحوم عبدالعزيز مشري، وكاد الأمر أن يتحقق لولا فارق التوقيت في الحضور لا فارق الأحاسيس، فاستعضنا عنه بمسامرة في " قهوة المساء " وبمرورٍ مباغت لقرية أحمد الدويحي " العسلة " من أجل قراءة التذاذية بكل الحواس لروايته " المكتوب مرة أخرى " إثر تناول حبات عنب طازجة مزروعة ومقطوفة بيد أخيه الفلاح " عبدالله " ليظل ذلك الفنجان الأثير مؤجلاً حتى إشعار آخر، وربما معلقاً في أفق احتمالات، أو متحف متعلقات المرحوم، إلى جانب جلابية والدته التي تصر أخته في " المحبرة " فوزية أبو خالد على ارتدائيها حتى اليوم.

المثير أن المرحوم عبدالعزيز مشري كان الأكثر حضوراً وتأثيراً في الملتقى من أي كائن آخر، إذ لم نصادف أحداً إلا وحمل معه وعنه ذكريات طرية تموضعه في قلب الحياة فأغلب " الباحيين " يعرفون قصصه ورواياته، فيما يبدو إصراراً واعياً على إبقائه طازجاً ومحرضاً على حياة أجمل، حتى الذين ناصبوه العداء بدعوى حداثيته، لم تعد لديهم الجرأة ولا القوة ربما على الجهر بكراهيته، ربما لأنهم ىباتوا تحت سحرية وسطوة ما سماه محمد ربيع " الرد بالكتابة " . وقد تسلل إلينا عبر جملة من الأوراق والشهادات والمنادمات حتى خيل إلينا أنه يجالسنا بمنتهى الوقار والتأدب والحداثة. ولا أدري لماذا شعرت بعد شهادة صديق عمره علي الدميني بأنه صار يشبه شجر هذه البلاد التي تنغرس جذورها في عمق الأرض ولا تتوب عن النمو رغم قساوة الطبيعة الجبلية.


لقد فعلها " القرويون " ونظموا المهرجان الأخطر، بغض النظر عما اعتوره من ارتباكات، فوجود هذا الكم من " طحالب الحداثة " في منطقة الباحة كان بحد ذاته رواية متعددة الأبعاد والدلالات، تعكس بمنتهى الشاعرية منسوب التحولات التي أحدثتها الرواية في الحياة الإجتماعية، فأن يتجرأ فصيل من المثقفات على مرافقتنا إلى ذلك " المكان العدو " ومشاركتنا هم الحديث الواعي عن التحولات، ومجابهة الرجل والمنبر والمكان دفعة واحدة، ولأول مرة ربما، هو تحول دراماتيكي لا يستهان به، وأظن أن نورة القحطاني، وإيمان تونسي، وأسماء الزهراني، وعائشة الحكمي، وسماهر الضامن، ومنى الغامدي، ذوات جديرة بلائحة شرف من نوع خاص.


قلة هم الذين بيتوا الهرب من الملتقى، والأقل أولئك الذين استعجلوا الفرار من المكان، وقد تلمست مسحة الحزن على وجوه الجميع لحظة التوديع، تأملتها في وجه مسفر الغامدي ومحمد حبيبي وعبدالله الوشمي، حتى أن عبدالفتاح أبو مدين بكل بهائه الأبيض أصر على تلاوة مداخلته في تكريم علي السلوك " شفاه الله " قبل ساعة من مغادرة طائرته، فالأمر كان يستحق المجازفة، ويستحق التأمل أكثر، فهذه البلاد المصنّفة كفضاء طارد أحدثت في داخلي مفارقة دلالية مقلوبة، فقد أحسستها جاذبة ومغرية، ودليلي فيما يقوله محمد الدميني افتقاداً أو رثاءً لسنبلاته المعلّقة في منحدر " ولدتُ في حضن ينبوع ... وها أنا من حضنه أسيل ".


جريدة المدينة - ملحق الأربعاء 12 سبتمبر 2007