طباعة ايميل
التباري في الكتابة

على طريقة لوناتشارسكي، أرادها البعض تأسيساً لعادات التباري في الكتابة، كشكل من أشكال التناقض اللاواعي ربما، فإقدام ست ناقدات على حضور ملتقى " الرواية وتحولات الحياة " الذي أقيم في النادي الأدبي بالباحة ما بين الأول والرابع من سبتمبر مسألة جديرة بالتأمل والإحتفاء، ووجود هذا العدد من الذوات الناقدة في منبر واحد، جنباً إلى جنب مع الرجل، وفي مكان لم يتمثّل خبرات التشارك الثقافي بين الجنسين يعني فيما يعنيه حصول تحول نوعي على درجة من الأهمية. وكان الأولى أن تتلقف تلك الأوراق المعدّة بذهنية وحساسية مغايرة، بشيء من الاهتمام والتفاعل المعرفي الجاد، لا الممالأة والاستخفاف والتبخيس كما حدث من جانب بعض الأكاديميين، الذي حرصوا طوال فترة الملتقى على إبقاء تلك الذوات المتطلعة إلى فعل ثقافي متجاوز، في خانة التلمذة، والإيغال في ممارسة شيء من القهر الأكاديمي ضدهن.
بمجرد أن تنتهي ناقدة من قراءة ورقتها، حتى وإن كانت تحمل درجة علمية عالية، تتوالى عليها النصائح التي تعيد تذكيرها بأنها ما زالت طالبة، وأنها لم تبلغ سن الرشد النقدي، ويفترض بها أن تستمتع لنصائح معلميها، وألا تفرط في الإستشهاد بمقولات الآخرين، وهذا هو ديدن المثقفين " المدرسيين " المرتهنين لقاموس من المفردات والوصايا العصيّة على التحديث، الذين لا يمتلكون أي قيم معرفية أو جمالية يمكن من خلالها تقييم الجديد من المنتجات الإبداعية، بقدر ما يبالغون في الإتكاء على مقاييس محددة وجاهزة دائماً، يتم من خلالها تدوير الكلام داخل أطر جمالية نمطية مستهلكة، باستخدام مفردات متعالية ومنمّقة تدخل المتلقي في تفاصيل لا طائل من ورائها، وهي نزعة متغطرسة وتقسيمية للآداب طالما أدانها النقاد الثقافيون.
هنالك فرق بين مجادلة الناقدة فيما طرحته من تصورات قابلة للمساءلة، وبين محاولة تخطيئها على الدوام، والتقليل من جهودها البحثية، إذ لم تزعم أي ناقدة بصواب ما استخلصته من نتائج، أو إتيان القول الفصل فيما حاولت أن تقاربه من مفاهيم ومنتجات إبداعية، فقد كانت الأوراق تقدم بالكثير من الوعي والتعطش لرأي مضاد يتم من خلاله تصعيد السجال، ولكن يبدو أن بعض الذهنيات التي تتخذ من " أناها " المحدودة نموذجاً لقياس وتقييم علاقتها أو وعيها بالآخرين، كانت بالمرصاد لكل نأمة أنثوية يمكن أن تهدد ما استقر في وعيها من مشاعر وأفكار متصلبة، بالنظر إلى أن تلك الذوات المحبوسة في قوالب أكاديمية أو مدرسية صارمة يصعب أن يرتفع وعيها النقدي بما ينتجه " الآخر " إلى مستوى الوعي العلمي الذي يراعي الإختلاف والتجدد.
ولا شك أن بعض الأوراق التي طرحتها الناقدات لا تخلو من نبرة تبسيطية، وتعتري بعضها روح البحث المدرسية، ولكن هذا لا يعني أنها فارغة من المضامين الجادة، أو أنها على تلك الدرجة من البؤس ليتم تقريع الذوات التي تقف وراءها وكأنهن مجرد تلميذات خائبات في فصل دراسي، حتى وإن كانت كذلك فإن هذا لا يعطي الحق للمدرس ( الأكاديمي ) أن يمتد به شعور إمتلاك تلك الذات المتعلمة حتى لحظة وجودها على المنبر، إذ يفترض أن يكون الملتقى مكاناً للتنادد، والمساجلة المتكافئة، وليس فرصة للإبقاء على تلك الذات حبيسة داخل وعي المعلّم، وكأنه يفرض عليها استحالة فرارها من توجيهاته، أو تجريدها من طابعها الروحي والإنساني وإحالتها إلى مجرد موضوع.
إن إطلالة عابرة على العناوين التي حملتها الأوراق تشير إلى إتساع وعمق المدى الذي حاولت مقاربته تلك الذوات، فأسماء الزهراني تجادل " الرواية بين ضفتي الحداثة " فيما تبحث عائشة الحكمي مسألة " الإنتماء والإغتراب وتجليات الهوية " كما تضع نورة القحطاني الرواية والقارئ بين " جدلية التوقع وفاعلية النص ". أما منى الغامدي فتقرأ " تجليات الأنا والآخر في الرواية النسائية " فيما تقارب سماهر الضامن " بناء ذاكرة الأنثى في الرواية النسائية " وتتلمس ايمان تونسي " العناصر المسرحية في رواية الحفائر تتنفس ".
بهذه العناوين المتعالية معرفياً وجمالياً تحاول الناقدة الحضور إلى المشهد ( الثقافي/الحياتي ) بخطاب نقدي لا يعتمد على تقويض القوامة النقدية الذكورية، بقدر ما يهجس بفكرة إثبات الذات، متكئة على ذخيرة علمية وحساسية جمالية، وبرغبة أكيدة في تفعيل مكتسبات الحداثة، لكن يبدو أن الوعي المبتذل لبعض الأكاديميين المصاب برهاب الخوف من أي نشاط أو حضور مضاد لم يتقبل فكرة التجادل بندية، حيث تم إتهام الناقدات بالرطانة والبهرجة اللغوية واستعراض لافتات الحداثة، والعولمة، والآخر، والنسوية، والهوية إلى آخر مبتكرات العقل الإنساني المنفتح، وعليه جاءتها النصيحة بألا تبحث عن " النسوية " بين الكتب بل في محلات " النوفوتية ". أجل هكذا تلفظها أكاديمي، واضطر للإعتذار عنها لاحقاً بشجاعة، لكن محاولات طردها من أفق التعاليات المعرفية والإبقاء عليها كتلميذة نجيبة لم يتم الإعتذار عنه، بل ربما لم يتم الانتباه إلى خطورة تعميق الإحساس به.
وأظن أن الناقدات يتحملن قسطاً من ذلك الإعتداء الرمزي، فقد بالغن في التأدب والإصغاء والالتصاق بمقاعد الدراسة، ربما نتيجة رهاب المنبر، وعدم تكافؤ الخبرات، ولمعرفتهن بالتأكيد أن أوراقهن بحاجة إلى شيء من التصعيد الجمالي والجهر بالرأي، ولكن في النهاية جاءت أوراقهن كجهد جاد لتفضح الذوات المأخوذة بشعورها الإمتلاكي، التي تغلف نفسها بهالة من القدسية، المفتقرة إلى مواصفات أخلاقية عالية تتناسب مع نبالة المنبر، التي لا تطيق التعاطي مع منتجات ذات خصوصبة تتطلب جهداً روحياً وتفكيراً، فهذه الذوات لم تستوعب فكرة النظر إلى ما حملته الأوراق من تناقضات كمصدر أو دليل على التطور، بل راقبتها بعيون خائفة من تعميق التناقضات، في حين كان يفترض أن يكون هذا التباري في الكتابة مدخلاً للتطور وليس فرصة لإثارة البلبلة والتشكيك في قدرات المرأة الناقدة.
الاقتصادية - الثلاثاء 18 سبتمبر 2007
|