طباعة    ايميل

أبالسة الانترنت

حتى في العوالم التي توصف بالمتحضرة تشكل المبتكرات الحديثة خطراً عندما يساء استخدامها، كما هو الحال مع الانترنت كمنتج عصري، حيث أصبحت هذه الجمهورية الالكترونية محلاً للفساد المالي والأخلاقي، بالقدر الذي تشكله كتهديد حقيقي للثقافة، كما يحذر من ذلك أندرو كين في كتابه الصادر حديثاً بعنوان " The Cult of the Amateur " فاليتوبيا الرقمية المتمثلة في فضاء الويب تو ( web 2.0 ) المأهول بجيل جديد، أسست لعصر مكتظ بالمواقع التشاركية مثل ماي سبيس Myspace ويوتيوب Youtube التي تغري المستخدم بالمشاركة في محتوى إجتماعي ذي طابع ديمقراطي فارط، يمكن تداوله كقيم تفاعلية، عبر سيل هائل من المعارف ووجهات النظر والآراء المطروحة بالمجان ودون أدنى رقابة، وهو ما يعني أن لهذا المعطى الديمقراطي، الذي يرقى إلى مستوى العبادة التي يمتهنها الهواة، جوانب مظلمة وخطيرة أيضاً.

هنا بالتحديد تكمن احتجاجات أندرو كين، حيث تملي هذه الثورة الالكترونية الجارفة السطحي من الأفكار عوضاً عن التحليل العميق للظواهر، كما تفرض سطوتها من خلال التمدد الأفقي وعلو النبرة لتعويض عجزها عن الوصول إلى أحكام أو معايير ذات قيمة معتبرة، فهي تحدث تغييراً واضحاً في الثقافة، ولكن ليس للأحسن، وذلك من خلال إضعافها الأكيد لمصادر الإعلام الحقيقية، ووسائل الإتصال المعتمدة، وكذلك بإهدار حقوق الملكية الإبداعية والفكرية، حيث بات بإمكانها تخليق عالم يمكن أن نرى فيه قدراً لا يستهان به من موسيقانا تبث من محطة إذاعية لهاوٍ يديرها من مرآب للسيارات، وأفلامنا مصنّعة بمزاج فرد من مدمني اليوتيوب، حتى أخبارنا لن تكون سوى ثرثرة ووشايات وإشاعات حول المشاهير وكأنها مجرد إعلانات، فهذه هي النتيجة المتوقعة عندما تتعاضد الأنانية مع التجاهل، وتتواطأ الذائقة الرديئة مع القاعدة الجماهيرية، كما بشرت بذلك ثقافة ما بعد الحداثة بإقرارها للثقافة الشعبية وحتى السوقية.

إنه كتاب ينتقد بلغة لاذعة صرامة الثقافة المحافظة، وكثرة الحراس المتمترسين على بوابات السياسة لتعويق الديمقراطية، ليختبر تلك المعطيات وما يتداعى منها على ما يسميه " حكمة الحشد " ولكنه لا يبالغ في عدائه لتلك التحولات الهامة، حيث يبدي تعجبه من الأحكام التعميمية، واللغة الوعظية ضد شياطين الانترنت وأبالستها، أولئك المقامرين بفجاجة حضورهم الحي، وطزاجة تمثلهم البرنوجرافي أيضاً، فيكتب بحدة وشغف عما تخبئه تلك الكتابة من حقائق نائمة بين السطور، التي تفضح بؤر الفساد والتكلس، مع تأكيده على أن الحشود أو الأغلبية ليست حكيمة على الدوام، ولا تقف إلى جانب الحقيقة إلى الأبد، فقد أثبت التاريخ - بتصوره - أنها تنتج وتستهلك أفكاراً غير سوية، كالعبودية مثلاً، ووأد الأبناء، وحرب جورج بوش على العراق، وبريتني سبيرز أيضاً، فالحشود هنا هي التي صنعت هذه الفقاعة الالكترونية إبان التسعينيات ورعتها دون أي ضوابط أو مراجعة.

وللتدليل على وجهة نظره بمخاطر ذلك التدافع التفاعلي، وتهاوي الدلالات الرقمية المضللة، يشير إلى محرك البحث الأكثر شعبية واستخداماً " غوغل " الموصوف بالصدقية، حيث يمكن التلاعب به من خلال ما يسميه " قنبلة غوغل " فقد أمكن تضليل هذا الموقع المتشابك بعدد هائل من المواقع ضمن شبكة مترامية ومعقدة من خلال التردد المبيت والمكثف على صفحة واحدة للتأكيد على أهميتها ورفع مقامها كمزار ثقافي، مستشهداً بمقالة مشهورة في الوول ستريت جورنال Wall Street Journal، أو كما حدث في موقع Digg الذي يحتوي على تسعمائة ألف مستخدم، يتحمل ثلاثون مستخدماً فقط منهم ثلث حركة الموقع، فيما تحمل مستخدم واحد فقط مسؤولية نشر مائتين وسبعة عشر قصة لمدة أسبوعين على موقع Netscape بما يعادل ثلاث عشر في المائة من كل القصص المنشورة حينها.

هكذا تحتفي اللحظة الالكترونية المنفتحة بالهاوي النبيل ضد المثقف الخبير، من خلال الإتكاء على لعبة تزويرية للأرقام، بالنظر إلى أن الكثير من محركات البحث والمواقع معنية في الأصل بمراقبة الشعبية عوضاً عن الصدقية، أو ما يمكن التعويل عليه كتراكم رقمي، وهو الأمر الذي لاحظه في سهولة التضليل والإشاعة والتكثير المجاني في فضاء الانترنت، فعلى سبيل المثال تحظى " موسوعة ويكبيديا " التي تعتمد على محررين هواة، ومشاركين متطوعين، بازدحام أكبر من مرتادي " الموسوعة البريطانية " المحررة بواسطة خبراء وأكاديميين، رغم أن الأفق التفاعلي الذي تفتحه ويكبيديا على اتساعه، هو في الأساس عرضة لمعلومات مغلوطة، أو غير دقيقة في أحسن الأحوال، بل مراوغة ومصممة بشكل مخادع لمآرب غير معلنة، وقد تبين هذا العام أن المشارك باسم Essjay الذي حرر آلاف المقالات لموسوعة وكيبيديا، وكان واحداً من القلائل المرخّص لهم بفض النزاعات بين الكتّاب، كان مجرد شاب في الرابعة والعشرين من عمره، واسمه ريان جوردان، ولم يكن أكاديمياً كما ادعى.

وبما أن محرري ويكبيديا ويوتويب في الغالب مجهولي الهوية، يصعب على المستخدمين التأكد من مصادرهم أو برامجهم أو نواياهم، فطرح موضوعات حول المرشحين مثلاً يمكن أن يكون أمراً مبثوثاً بواسطة الخصوم، بعد التقنّع بمظهر النصير، كذلك الدعاية قد تمرر كأنها مجرد أخبار أو معلومات، ولهذا السبب الموضوعي أصبح الفضاء الالكتروني مكاناً للفوضى والتدليس والتزوير، حيث يمكن للمدّونين تصعيد التوقعات كحقائق، فيما يعاني المؤرخون والصحفيون لتقديم أدق سرد للوقائع، أو هكذا صار المدّونون يمارسون عربدتهم المزاجية، في مواقعهم الشخصية ليؤكدوا لأقرانهم وجهات نظرهم الثورية، والتواصل مع من يحملون نفس الهاجس الأيدلوجي، الأمر الذي يجعل من ذلك التفاعل حالة من الخداع المصمم للتجادل حول قضايا ساسية وموضوعات اجتماعية دون وعي بعواقبها.

وبالرغم من احتجاجاته على حضور بعض الفنانين والكتاب الطامحين إلى هذا الفضاء بشيء من النخبوية والفجاجة أحياناً، إلا أنه يلفت الإنتباه إلى فكرة النشر الرخيص وسهولة الوصول للجماهير، ولكن ليس لدرجة النشر تحت الطلب، فهذه هي الطبيعة الديمقراطية للشبكة الالكترونية التي قد تؤدي إلى تدمير ممكنات الابداع وإنهاء الملكية الفكرية، بل إلى هجرة ملموسة وواقعية للإعلانات التجارية من الجرائد والمجلات والتلفزيون إلى النت، تماماً كما انخفضت مبيعات السي دي نتيجة بروز مواقع التحميل للأغاني والموسيقى التي لا تترجم إلى جودة أوشهرة عالمية، وهو ما يعني أن كل ما هو مجاني يكلفنا ثروة كبيرة فالفائزون الجدد، غوغل ويوتيوب وماي سبيس وغريغسلست، بالإضافة إلى المئات من الجائعين لطبق الباي، حسب تعبيره، متأهبين للربح، أو الانقضاض على ثقافة باتت تستهلك قطع غيارها، وتحطم كل محتواها المشتهى.

الاقتصادية - الثلاثاء 25 سبتمبر 2007